التطرف
زهير سالم*
وأصل التطرف اختيار الطرف في الفهم أو السلوك أو الموقف. (هذه الكلمة لا تعني إلا هذا). و(السلوك لا يستقيم إلا على هذه الطريقة). أو أن (الموقف لا يصح إلا عند هذه النقطة). وأول ملامح التطرف: تضييق الواسع، وتوحيد المتعدد، وإلغاء الخيارات.
قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً يا أخا العرب. معذور ذاك الأعرابي، وهو الذي كان قد بال في المسجد، قبل هنيهة من قوله ذاك. كان حينها حديث عهد بالإسلام. ولكن كلمته على ما يبدو ظلت عالقة في أذهان بعض الناس.
مازال في أمة الإسلام من يرى أن العلم ما حفظ هو وأن الفهم ما فهم هو. وأن الحكم الشرعي، على سعة الشريعة، ما استنبط هو، وأن السلوك القويم هو الطريقة التي اختار. وأن الموقف في الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع هو ما هداه إليه نص منزوع من سياقه. أو ما ساقه إليه اجتهاد، لم يقم على أصوله، أو ينازعه في أصله أو فرعه آخرون.
بدايات صغيرة..
ومنشأ التطرف حالة عقلية ونفسية مسيطرة على أصحابها . كان المقدر لها أن تكون حالة (متنحية) حضاريا وشرعيا؛ لأنها تتنافى مع التطور العقلي كما تتنافى مع المقرر الشرعي..
ما أكثر ما جاهد مقرِرُ الشريعة الأول الضيقَ وحض على الرفق والسماحة واليسر؟! خاطبهم في التنزيل: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..) إرشاد أولي لتبقى دائرة العفو واسعة طليقة.
وما خيّر صاحب الشريعة بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وما سئل في مناسك الحج عن أمر في تقديم أو تأخير إلا قال: افعل ولا حرج. وما اختلف عليه أصحابه في أمر ظنوه ضّيقاً إلا فرّجه بالتوسعة، اختلفوا يوم الخندق في صلاة العصر في بني قريظة فصوب الفريقين.. وجرى رجل ليدرك الركعة في الصلاة، قال له: زادك الله حرصاً، ولا تعد..اختلفوا عليه في قراءة القرآن فقال: أُنزل على سبعة أحرف كلها كاف وشاف..وقال: كتب عليكم الحج فحجوا. قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله. فأجابه مستنكراً عليه السؤال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم..وقال: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم.. وقال: وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها..
ومع كل هذه المعطيات الشرعية المتواترة بالحض على التوسعة والسماحة واليسر، ومع كل القواعد التي استنبطها الفقهاء التي تؤكد الموقف نفسه مثل: الأمور بمقاصدها. والأمور بخواتمها. وأن الأمر إذا ضاق اتسع. وأن المشقة تجلب التيسير. وأنه لا ضرر ولا ضرار؛ سار بعض أبناء الأمة في طريق الحتميات الشرعية المغلقة والصلدة.
بدؤوا بالسؤال عن اسم الذئب الذي (أكل يوسف) فلما تنبهوا أن الذئب لم يأكله بحثوا عن اسم الذئب الذي (لم يأكل يوسف)!!
وسألوا: عن اسم زوجة إبليس؟! أجابهم الشعبي أحد أساطين العلم في هذه الأمة. وهو أحد الملقبين بأمير المؤمنين في الحديث، أجابهم متهكما: ذاك عرس لم أشهده!! وجلسوا إلى ابن عباس يسألونه (عن دم البراغيث). فقال لهم: (يا أهل العراق قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البراغيث..؟؟) ثم نادى على أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة يستنشده فأنشده غزليته
أمن آل نعم أنت رائح فمبكر غداة غد أو رائح فمهجر
تحن إلى نعم فلا الشمل جامع ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
فاستتمها في قرابة تسعين بيتا وأعاد روايتها في مجلسه. فعل كل ذلك تعليماً وتبكيتاً لأهل الحجر والضيق وعلى رأسهم كان نافع بن الأزرق..
وتتقدم المسيرة من عصر إلى عصر، وكلما قعدت الهمم وتسفلت المطالب انشغل الناس بالصغائر عن جلائل الأعمال، حتى تقرأ في مفاضلاتهم بين من يؤم الناس في صلاتهم إلى أمور يستحيي منها العالم، ويأنف من سماعها العاقل. ثم غار بعضهم تضييقاً على أمة رسول الله وأنجد حتى كاد يقول قائلهم: أشهد أن لا مسلم إلا أنا!!
قيل لأحدهم وكان كثيراً ما يستشفع ويستشهد بأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، قيل له: فإن ابن تيمية يقول كذا وكذا، مما يخالف ما يقرره هذا الزميت، وفتحت كتب ابن تيمية: فصرخ على غير هدى منه: يُستتاب ابن تيمية.
مسكين ابن تيمية، رحمه الله تعالى، بل هم المساكين، بعض القوم طلبوه حياً أو ميتاً. وبعضهم أرادوا أن يستتيبوه في قبره؛ فكأنه لا يكفيه ما لقيه من علماء عصره وأمراء زمانه!!
أول التطرف موقف عقلي ونفسي يختصر الوجود في موضع القدمين. ثم ينبذ بسيف الرَّفض والإقصاء أو الاستئصال أو ربما التكفير والتفسيق والتبديع ما خرج عن تلك الدائرة.
قادنا التطرف والضيق إلى حالة اختصر فيها إسلام المرأة: في نقاب أو خمار، (ونعما هما)، وصلاح الرجل في سواك ولحية وقصر ثوب.. ومن هذه الدائرة التي تختصر الإسلام في شعيرة مهما تكن أهميتها حطت رحال التطرف المعاصر بين ظهرانينا حتى حين..
وأسقط البعض بغرور ظاهري فقه المقاصد. و قاعدة أن الأعمال بمقاصدها وبخواتمها. كما أسقطوا فقه المصالح والمفاسد. وفقه تفسير القرآن بالقرآن. والنص بالنص. والنصوص بسياقها الشرعي العام. وظنوا أنهم قادرون بالتوقف بمنهاج الحصر والقصر عند الوقائع والتطبيقات التي يريدون..
أحكمت حلقة الضيق إغلاقها وأعطت خطاب التطرف في مرحلة سابقة مختَزَلاته الشاغلة، ( اللحية والثوب والسواك وزيارة القبور، والنقاب) فظل فردياً وهامشاً ومتنحياً، حتى إذا انفلت، وجد في الاستبداد والإقصاء والاستئصال مبرراته وذرائعه ومصداقيته، ليتقدم المتنحي على حساب السائد الذي كُمم علماؤه، وطورد رجاله سجناً وتشريداً.
وهكذا انتقل خطاب التطرف من قضية (لا سواك إلا من عود الأراك) إلى نظريات السياسة والاقتصاد والاجتماع. وعادت اليد التي كُفت عبر التاريخ عن دماء المسلمين وأعراضهم إلى حالة نعيشها اليوم تدمي القلوب، وتستفز العقول. وتضعك في حالة تبكي فيها القاتل والمقتول، وتتساءل فيها عن حقيقة الدم الإنساني الذي أهدر مع الأسف باسم شريعة الإنسان..
وحتى لا تختلط الأوراق علينا ألا ننسى التمييز بين جهاد بيّن ومقاومة واضحة تكفلها شريعة السماء ومواثيق الأرض، وبين خبط العشواء التي لا تدري ما تأتي ولا ما تدع.
مجاميع غير قليلة من شباب الأمة يعيشون حالة من انسداد الأفق فلا أمل ولا مرتقى ولا منفذ. مع غياب المرشد أو حتى تكاد تقول: تاه الدليل..أو كذب الرائد، الداعون إلى الخير تحت قوس الوعيد النافذ الشديد، وحالة من الاستفزاز غير المحدود تمارسه قوى غازية ومعادية على أرض فلسطين أو أرض العراق أو أرض أفغانستان.. أمور تقود كلها إلى التمرد وتدفع إليه، فإذا كان هذا التمرد يحتاج إلى مطارف تزينه فما أجمل أن تكون هذه المطارف هي عباءة الجهاد والإسلام.
وهكذا كان هذا الذي نرى ويرصد الجميع..
يتحول شباب الأمة، الغراس الواعد الذي يعد بعالم أفضل يعين الضعيف ويحمل الكل، ويدفع الشر ويجلب الخير، يصبح حطباً جزلاً في مواقد الصراعات الدولية والإقليمية، تحت عنوان اسمه الجهاد. تتجول الشجرة الخضراء الغضة إلى قطعة من الحطب، يحرقها قوم يتخلصون منها ويصطلون بها، دفئاً أو نوراً..
ليس ثمة علماء حقيقيون يوضحون لأبناء الأمة أين تبدأ معركة الأمة وأن تكون معركة الآخرين بكل درجات ترتيبهم. ليس هناك مقام يفصّل بلسان العلم والحكمة والتقوى: أين يبدأ الجهاد وأين ينتهي وأن تبدأ الفتنة والفوضى وأين تنتهي أيضاً. نتابع على ساحتنا العربية شباباً يحترق في غير ما مقصد ولا هدف ولا غاية. في شريعة جديدة سنها أقوام: القتل للقتل. يقتلون لكل سبب. وبلا سبب وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
قال: ويكثر الهرج.
قالوا: وما الهرج؟
قال القتل.
صدق رسول الله صلى الله عليه
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية