شهر مع الوحوش

وريش نعام ومنتهي العشق ؟!

سليم عثمان

كاتب وصحافي سوداني مقيم في قطر

[email protected]

قال ابن القيم :الصوم لجام المتقين ، وجنة المحاربين ، ورياضة الأبرار

أقبل علينا شهر كريم هو  شهر رمضان الكريم، الذي نرتوي من نميره، ونرتشف من رحيقه، ونشمّ عاطر شذاه، شهر فيه تضاعف  الحسنات، وترفع  الدرجات،و تغفر  الذنوب والسيئات، وتقال فيه  العثرات، و تفتّح فيه  أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفّد الشياطين، من صام فيه  وقام لله  إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه.

وقبل أن يدركنا الشهر الكريم ، أمطرتنا الفضائيات،بسيل من إعلاناتها ، عما أعدته من برامج لهذا الشهر، فهذه فضائية  تدعوك لمتابعة مسلسل  جديد عن  أمراة عربية حسناء، راقصة ، تتأوه أمام أزواجها الذين يعدون علي أصابع اليد الواحدة فقط،، وأمام الملايين ممن سيشاهدونها ، تقدم فنونا من الرقص الشرقي ، بثياب تشف تفاصيل جسدها،في غنج ودلال ،فالنساء العربيات من فرط كفرهن بالدعوة الي التعدد في الزواج ، ونكاية في الرجال،أصبحن يتجرأن علي الله  ،فهذه تفتخر بأزواجها العشرة، في رمزية لا تخلو من السخف، وتلك تكتفي بنصف هذا العدد، من الرجال ، طالما يحق للرجل أن يتزوج من النساء، مثني وثلاث ورباع،ولا يريد الاكتفاء بواحدة.وما علينا معاشر  الرجال، الا أن نصوم  ونفطر ،علي خزعبلات (زهرة وأزواجها الخمسة) وهذا هو  اسم ذلك المسلسل، دون أن يرف أو يغمض لنا  جفن ونحن  نتابع مشاهد ساخنة، في نهارات وليالي الشهر المبارك.

وهذه الفضائية تدعونا الي متابعة مسلسل آخر، لا تقل المشاهد فيه سخونة هو منتهي العشق،الله يكون في عون الصائمين، فرض الصيام علينا لنكف عن الأكل والشرب،ونحفظ جوارحنا في أيام رمضان، وإذا بالعشاق  يقتحمون علينا بيوتنا يعرضون علينا بضاعة عشقهم ،ثيابا حريرية شفافة للنوم، صدورا ريانة كالتفاح(ثم بعد ذلك نتمنى علي الله أن يدخلنا الجنة من باب الريان، مع هؤلاء الممثلين والممثلات،حيث لا يدخل من ذلك الباب   الا الصائمون، والمرء يحشر مع من أحب) يعرضون علينا  في رمضان  أجسادا ناعمة كموج البحر،سوقا لامعة كالفضة،شفاها عطشي الي كل حرام،أحاديث أخدان، وهمسات عشاق، لا ينبغي أن يهمس بها، سوي في غرف مغلقة،ومن لم تعجبه تلك المشاهد والأحاديث فعليه أن يغلق التلفاز ويعتكف في  بيت من بيوت الله، حتي لا يجرح صيامه،أو يبطله .

وهذه فضائية ثالثة تدعونا في احتشام، لمشاهدة مسلسل لا يعرض سوي قصة حب،ورابعة تدعوك لمشاهدة،مسلسل لواحدة عاوزة تتجوز،وما العيب في إمراة تريد العفاف لنفسها في رمضان؟وفضائية خامسة تدعونا لمشاهدة ومتابعة موعد مع الوحوش،وتفرح  الشياطين المقيدة بسلاسل من حديد، طوال أيام شهر رمضان، ذلك أن شياطين أعلامنا العربي المرئي، من مخرجين وممثلين وممثلات ومنتجين وكومبارس ومالكي الفضائيات ، يقومون نيابة عنهم بواجب عظيم ، في تضليل الأمة وإغراقها في أتون العبث والفسق والمجون والخلاعة والعري،وتلك فضائية أخري تدعونا لمشاهدة فيلم  (كباريه) وماذا في مكان كهذا سوي الخمر وما يتبعه من عرض اللحم الرخيص، علي موائد الضائعين ، و ماذا فيه سوي ساقط القول، ودنايا المقاصد ،وسفاسف الأمور؟  أنهم لا يدعوننا لتلاوة القران، ولا لسماع الذكر، الذي تطمئن به قلوب المؤمنين، في رمضان وغيره ،ولا الي متابعة الفتاوي،أو السيرة العطرة،ولا التفقه في الدين،ولا تبيان مال ال إليه حال الأمة،لأن ثمة قنوات فضائية أخري هذا اختصاصها، أما  هي فمهمتها أن تجتهد حتي تجعل كل أحد منا يتسمر في مقعده، لا يبارحه، حتي لو فاتته الصلوات المكتوبة، والقيام (التراويح)ولم تغفل عينيه لحظة من ليل أو نهار،وهذا إعلان آخر  يدعونا لمتابعة مسلسل ( أبو ضحكة جنان)  وتلك فضائية تدعونا لمشاهدة مسلسل ريش نعام ،ولأننا لا نستحي من أنفسنا ومن رب رمضان ، فتلك أخري تدعونا لمشاهدة مسلسل العار ،وراجل وست ستات وهكذا  تمطرنا الفضائيات العربية بعدد هائل من الأعمال الدرامية الهابطة ،التي صرفت في إنتاجها الملايين (تصوروا ممثلة شمطاء تحمل في حقيبتها ملابس للتمثيل تفوق في زنها 250كيلو جراما) ليس هناك مشاهد تؤدي بلباس واحد، ما كل هذا البذخ والترف وقلة الحياء؟.لو قسمت تلك الأموال علي فقراء العرب والمسلمين لأغنتهم عن سؤال الناس أعطوهم أو منعوهم .

 يقول القسطلاني رحمه الله- معدداً ثمرات الصوم: "ومنها رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان" .فمن يدفعون إلينا بكل هذا الكم من الأعمال الدرامية ،لم يقرصهم الجوع، ولم يذوقوا مرارة الحرمان ،لكنك إن سألتهم يقولون لك : أننا نصوم ونصلي ونعتمر كل عام ونحج، ونعطف علي الفقراء والمساكين ولا نفعل ما يغضب ربنا؟!ويذكروننا بما جاء في الأثر( روحوا عن أنفسكم ساعة بعد ساعة، فالنفوس اذا كلت ملت)والمصيبة أننا لا نروح عن أنفسنا ساعة بل طوال ساعات اليوم والشهر، هؤلاء وقد بلغ بعضهم من العمر عتيا،رمضان عندهم كسائر الشهور ،بل رمضان عندهم مناسبة للإبداع كما يقولون،وسن البدع  السيئة . إنهم لا يخافون شئ اسمه الموت رغم إيمانهم العميق باليوم الاخر.

يا من مد له العمر حباله.. اعلم أن للرحلة نهاية!

فهل تذكرت – أيها العاقل – بم ستختم هذه الرحلة؟!

إنه: الموت! نهاية شديدة على من لم يعد له العدة!

وكم من أحباء وإخوان أعزاء  لنا صاموا معنا رمضان الفائت، ونفتقدهم في هذا الشهر ؟ مضوا الي ربهم في صمت ، أنها سنة الحياة

كم من مستقبل يوم لا يستكمله ومؤمل غداً لا يدركه؟

هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟ الذي خص بهذه الخصائص ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟أكنا قادرين على الركوع والسجود؟! إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم، وكم من رجل صلّى معنا في رمضان الماضي وسمع أحاديث  عن فضائل رمضان ثم ها هو الآن يتوسد  الثرى يتمنّى لحظة يسبّح فيها تسبيحه فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.

 كم كنت تعرف ممن صام في سلف  من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم  حيا فما أقرب القاصي من الدانـي

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (بقية عمر المرء لا ثمن لها، يدرك بها ما فات، ويحيى بها ما أمات)

قال مسروق: «إذا بلغ أحدكم أربعين سنة؛ فليأخذ حذره من الله»! ورسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم قال :أعمار أمتي بين الستين والسبعين وقليل من يتجاوز ذلك.

قال ابن رجب  : ( كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً ) ( يا قوم أين آثار الصيام!! أين أنوار القيام!! إن كنت تنوح يا حمام الباني للبين أين شواهد الأحزان؟ أجفانك للدموع أم أجفاني؟ لا تقبل دعوى بلا برهان)

أن الصوم إنما هو للعبد، لتربيته  وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور والعمل به، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، و الفحش، و السب، و الشتم، و الجهل، فإذا لم نترك  كل ذلك فإن صومنا يكون حينئذ لم يفعل فعله فينا . ومن أسرف على نفسه بالمعاصي ـ وكلنا كذلك ـ فرمضان نفحة ربانية لنيل الرحمة والغفران ، ومن أراد التوبة من ذنوبه وسيئ عاداته فهذه فرصة مواتية في مدرسة رمضان.

 قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: (إنّ الله جعل شهرَ رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعتِه إلى مرضاتِه، فسبَق قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا. فالعَجَب مِنَ اللاّعب الضّاحك، في اليومِ الذي يفوز فيه المحسِنون، ويخسَر فيه المبطِلون).

فكيف وقد عصينا جميعا خالقنا في غير شهر رمضان ثم نصر علي عصيانه في رمضان أيضا، هل يضمن أحدنا أن يشهد رمضان القادم ؟

فالله هو الذي جعلك أيتها المرأة تتوخين  كل الحرص ،على ألا ينزل  الي حلقك  شئ من الطعام عند المذاق قبيل الإفطار،  خوفاً ومراقبة لله ، هو ذاته الذي جعل تلك المرأة المسلمة ، تمتنع في غير رمضان عن الوقوع في الزنا، لما غاب عنها زوجها طويلاً مع جيش المسلمين، وكانت تردد دائما :

تطاول هذا الليل وأسود جانبه  وأرقني ألا خليل ألاعبه

فو الله لولا الله أنى أراقبه  لحرك من هذا السرير جوانبه

ولكن تقوى الله عن ذا تصدني  وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه

دخل علينا رمضان ولازلنا جميعا نركض خلف سراب الدنيا علنا نلحق به،كلنا مهموم بالزرق والله كافله، معظمنا  يعيش حزينا كئيبا من تقلبات الدهر ومصائب الزمان ،وينسي أن أيام العمر تتآكل ،فلا يغير رمضان في نفوسنا شيئا .

يقول إيليا أبو ماضي

أيها ذا الشاكي وما بك داء                        كن جميلاً ترى الوجود جميلاً

أترى الشوك في الورود وتعمى                      أن ترى فوقه الندى إكليلا

والذي نفسه بغير جمال

لا يري في الوجود شيئا جميلا

 والسودانيون مشهورون بالكسل في رمضان وفي غيره، أو هكذا يتحدث الناس عنا ،وقد بعث الي صديق عزيز نكتة عن كسلنا كتهنئة بمقدم الشهر الكريم تقول :

سوداني أرتكب حادث مرور وأصيب  بشلل كامل  .
فهنئه أصحابه  بالشلل ، فقالوا له:
حظك يازول ستكون  طول الوقت راقد  ومرتاح . قال لهم :
والله أنا( ذاتي )ما مصدق أخاف من الفرحة أقيف !

الكسل لغة هو الفتور والتثاقل والتواني عمّا لا ينبغي أن يتوانى المرء عنه. والكسول والمكسال نعت للجارية المنعّمة التي لا تبرح مجلسها أو خباءها. وقال العرب إنّه ما سمع في الكسل أبلغ من قول القائل:
سألت الله أن يأتي بسلمى  وكان الله يفعل ما يشــاءُ
فيأخذها ويطرَحُها بجنبي ويرقدها وقد كُشف الغطاء
ويأخذني ويطرَحُني عليها ويُرقدها وقد قُضِيَ القضاءُ
ويرسل دِيمةً سحّا علينا  فتغسلنا ولا نلقى عَــناءُ

لكن الكسل يصيب معظمنا في رمضان ،فكثير منا ينام معظم اليوم،ولا نجد لذة في الصيام، ولا  نشعر بحرارة الجوع ، ولا مشقة العطش ،كنا في السابق قبل سنوات عديدة في قريتي الصغيرة الزورات في أقصي شمال السودان ، نصوم رمضان ونحن صغار في حر وسموم شديدين ،لم تكن الكهرباء قد دخلت بيوتنا ،حتي نستخدم مراوح ومكيفات،بل كنا نشرب الماء والعصاير دافئة، وأحيانا ساخنة، من شدة حرارة الجو،وكانت بسيطة لكننا كنا نجد المتعة في ذلك ،واليوم موائدنا مليئة بما لذ وطاب من أنواع الأطعمة والمشروبات،خاصة في الخليج في وقت لا يجد فيه غيرنا من الصائمين تمرات عند إفطارهم ،لأن المعاني الإيمانية غابت في نفوسنا، فأصبحنا لا نحس بمعاناة هؤلاء،لكم أن تتصوروا أناسا بالملايين  فقدوا المأوي في باكستان ، جراء الفيضانات التي دمرتها، وآخرين في الصومال والعراق وأفغانستان وفلسطين والصومال  والسودان وغيرها من بقاع الأرض ،ثم بعد أن نملأ بطوننا،يكون ليلنا كله سمر في اللهو،واللغو ومعظم نهارنا في نوم ، وبعضنا لو سألته لماذا تكثر من النوم في نهار رمضان ؟ يحتج عليك بحديث ضعيف يقول:( نوم الصائم عبادة ) وينسي هؤلاء أن أعمالهم و أداء شعائرهم التعبدية أيضا عبادة عظيمة ،والنساء في إعداد أنواع مختلفة من صنوف الأكل ، ثم متابعة المسلسلات والأفلام،ولغو الحديث ن والغيبة والنميمة ،وبعضنا لا تفارقه الشيشة ليلا حتي وقت السحر، وتجد الأسواق وقد امتلأت  بالمتسوقين رجالا ونساء،استعدادا للعيد ، كأنما رمضان شهر للبذخ والإسراف ،وليس شهرا للتكافل والإحساس بحالة الفقراء والمساكين ،نعم هناك من يختمون القران اكثر من  مرة لكن قلة قليلة تتدبره ،وصحيح ان بعضنا يتصدق علي الفقراء،ويواظب علي أداء صلواته المكتوبة كلها في المساجد، لكن صحيح أيضا ،أن معظمنا لا يستفيد من رمضان كما ينبغي، بمعني أن رمضان لا يغيرمن سلوكياتنا كثيرا . وقد رغَّبنا الله أشدَّ الترغيب في فِعلِ الخيراتِ وعمل الطاعات، في رمضان وفي غير رمضان، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134]. وحذَّرنا الله من معاصيه فقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14].

قال ابن القيم: (الحب والخوف والرجاء يذوق المسلم حلاوة الإيمان، ومن استطال الطريق ضعف مشيه) فهل يزداد خوفنا من الله في رمضان ؟

سيمضي رمضان سريعا،وقد لا يشهده بعضنا،وقد يعود بعضنا لفعل ما كان يقوم به في السابق وقد يكون لسان حال بعض منا ما قاله ذلك الذي كان يعاقر الخمر:

رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعي الي مشتاق.

لكن علينا ونحن نصوم رمضان أن نتذكر ما قاله احد الحكماء في شأن حياة المرء:

دقات  قلب  المرء  قائلة  له  إن  الحياة  دقائق  وثواني

فأرفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني

نسال الله العظيم رب العرش الكريم ان يجعلنا جميعا ممن يصوم رمضان إيمانا واحتسابا ،وأن يجعلنا من عتقاء الشهر الكريم والمغفور ذنبهم فيه .

وكل عام وأنتم بخير .