في المطار
سحر المصري
طرابلس - لبنان
أجلس في قاعة الانتظار.. من حولي عشرات المسافرين يمضون وقتهم الضائع في أكل وشرب ولعب وتأمل.. كنت بينهم "جسدياً" وعقلي مع أهلي الذين تركتهم لأتوجّه إلى أحبّ بقاع الأرض إليّ.. "مكة المكرّمة".. أما قلبي فكانت قِبلته الكعبة يحلم بعناقها عن قُرب..
كنت أراقب المكان.. وتجتاح نفسي أفكار كثيرة.. حتى رأيت امرأة نصف عارية.. أشَحْتُ بنظري عنها فقد خجلت مما رأيت.. وأنا امرأة! أطرقت برأسي إلى الأرض وتساءلت.. هل ستدخل السعودية وجيدها قد ظهر؟ كيف ستجرؤ على الصعود إلى الطائرة لتكون معلّقة بين السماء والأرض وهي تعصي الله جل وعلا بهذا الشكل؟! نظرت من ثان نحوها لأقرأ من ملامحها أنها ليست لبنانية! إنها ولا شك سعودية.. فكل ما فيها يصرخ أنه سعودي! أسقط في يدي! وعبثاً حاولت أن أناوش رغبتي بالتفكير في أمر آخر لئلا أختنق.. فكنت كلما سرحت بعيداً عنها عادت لتواجه شغفي بالرد على سؤال واحد: لِمَ يا أمَة الله؟!
صعدنا إلى الطائرة.. جلست في الجانب الأيمن لتجلس هي بمحاذاة مقعدي على الجانب الأيسر.. كانت ترافقها ابنتها الصغيرة التي شاء القدر أن تفتح عيونها على ازدواجية في الحياة مريرة.. وعلى أمٍّ أُريد لها أن تكون قدوة للخير فكانت غير ذلك! أفليس أهله من يهوِّدانه أو يمجِّسانه أو يُنصِّرانه.. أو يقتلان فيه الفطرة قتلاً بعدم ربطه بالله جل وعلا وتنمية نبتة الإيمان والتقوى في قلبه؟!
شُغِلت عنها برؤية السماء وزينتها.. فكانت أشعة الشمس التي تتهيّأ للغروب تتسلل من بين تشققات الغيوم لترسم أروع لوحة سماوية.. كنت أراقب هذا المشهد الربّاني البديع على صوت العفاسي وهو يقرأ سورة الفرقان.. تبارك الرحمن ما أكرمه حين يجمع على العبد طاعات وإبداعات وهو بين السماء والأرض!
وبعد ساعتين من الطيران أخبر القبطان أننا أصبحنا على مقربة من مطار جدّة.. وكان الليل قد أرخى سدوله.. وبدأت الأنوار تتلألأ من بعيد.. فاختطفت نظرة عن يميني لأرى تلك المرأة وقد لبست العباءة السعودية ووضعت الخمار الأسود وأخفت جسدها تحت لباس العفّة والطهارة! وكذلك ابنتها الصغيرة التي تتربّى على الخداع منذ الصِغر.. قد لبست العباءة السوداء وأخفت سروالها القصير.. وتحضّرت للنزول في أرض الحَرَمين.. ويكأنّ الله جلّ وعلا يوجد في السعودية وقد غاب عن لبنان! ويكأنّ السياحة تستدعي هتك المستور من الجسد الذي أُمِرنا بحجبه عن العيون.. ويكأنّ الخروج من السعودية بات يعني الخروج من الأعراف والتقاليد والشريعة والحياء!
وحطّت الطائرة.. ترجّلت منها وفي رأسي تدور دوائر تكاد تقتلني! وأَنْسَتني العمرة ما رأيت.. حتى كان يوم العودة إلى لبنان.. صعدنا إلى الطائرة وقدّر الله جل وعلا أن تجلس إلى جانبي امرأة لبنانية نصرانية تجاذبت معها أطراف الحديث طوال الرحلة.. هي تسكن في جدّة منذ خمسة وعشرين عاماً.. ما إن صعدَت الطائرة حتى خلعَت العباءة السوداء وارتاحَت من العناء!
لم تكن وحدها طبعاً التي خلعت السواد.. فقد سبقها إلى ذلك "سعوديات" أتين لبنان للسياحة والترفيه عن النفس.. أليس في ديننا "ساعة وساعة"؟!!
من جديد.. رأيت ما رأيت في طريق القدوم.. نساء يخلعن الحجاب والعباءة وقد تحضّرن لهذه "الطقوس" فتزيّنّ وصففن شعرهنّ ووضعن طلاء الأظافر ولم ينسين شيئاً من الزينة الظاهرة إلا واقترفنها ليكنّ لائقات بهذا البلد السياحي العظيم!
قالت لي تلك المرأة النصرانية: أستطيع أن أفنِّد لك مَن هي السعودية بين السافرات ومَن هي اللبنانية..
امتعضت.. وحاولت توضيح أمر لها.. من أن هؤلاء لو عرفن طعم الطاعة ومغزى الحجاب ولذة القرب من الله جل وعلا لما خلعن الحجاب خارج بلادهنّ.. ولم أستطع كبت ضيقي من هذا التصرف غير الموزون.. واستغرابي من هذا الزيغ في العقيدة والسلوك!
فبادرتني المرأة النصرانية بقولها: لا تستغربي ولا تحمِّلي الموضوع أكثر مما يستحق.. إنهنّ لسن محجبات.. وإنما يضعن الحجاب في السعودية ليس إيماناً به ولكن تطبيقاً لقوانين المملكة.. كما أضعه أنا تماماً! وحين يتسنّى لهنّ خلعه فسيفعلن لأنهنّ غير ملتزمات وإنما يلبسن "اليونيفورم" الخاص بالبلد! ليس الحق عليهنّ وإنما على قوانين السعودية التي تفرض عليهنّ وضعه وهنّ غير راغبات به!
قلت لها: مهما كان الأمر وحتى لو كنّ مجبرات على وضعه في السعودية إلا أنهنّ مسلمات ومن حق هذا الحجاب أن يحترمنه ولا يحاربن الله جل وعلا مجرد أن يستطعن ذلك خارج حدود مجتمعهنّ.. هذا نفاق!
ولا أدري حقيقة.. هل فهمت تلك المرأة النصرانية ما لم أفهمه؟ وهل تراني ضخّمت الحدث.. أم أنني ظلمت بعض النساء السعوديات اللواتي فُرِض عليهن الحجاب فخلعنه بمجرد أن خرجن من المملكة؟ وهل هو ذنبهن إن لم يقتنعن به أم ذنب الأهل الذين لم يُفهِموا بناتهم حقيقة الحجاب؟ أم ذنب رجال الدّين الذين لم يحبِّبوا الفتيات بهذا الشرع العظيم؟ أم ذنب المربّين الذين لم يوضِحوا خطر ازدواجية الفكر والسلوك على العقيدة! أم ذنب كل هؤلاء مجتمعين؟
مَن يجب أن نلوم؟ وهل يُعقل أن تكون هذه الظاهرة غائبة عن أولي الأمور أم أنهم قد أداروا لها ظهورهم حين عجزوا عن إيجاد حلول ناجعة؟ وهل وصلنا لهذا الدرك الأسفل نتيجة ضعف إيمان.. أم تشديد في فرض الأركان؟