حب المسؤولية.. ذلك الداء الخفي

أحمد عبد الله بوقجيج

أحمد عبد الله بوقجيج

اعتاد أبناء الصحوة الإسلامية عموما أن يجعلوا حب المسؤولية والحرص عليها  حكرا على التنظيمات والهيئات التي يغيب عنها الدين كمنطلق للاشتغال والحركة، وكمرجعية للعمل، وهو ما يجعل المسؤولية في هذه التنظيمات تختلط ليس مع التشريف والتكريم والصدارة كامتيازات معنوية فقط، ولكن أيضا لارتباطها بامتيازات مادية، تخول لصاحبها النفاذ إلى الكثير من المواقع للارتقاء الشخصي واستغلال النفوذ،  مما يجعل التنافس على الظفر بالمسؤولية في هذه التنظيمات عملية تتداخل فيها كل الوسائل، وتشغل فيها كل أنواع الأسلحة، فيصبح الكذب والكولسة واستقطاب الأنصار ودفع الرشاوى، وصياغة العقود والوعود أمورا تفترضها المناسبة، ويبررها التنافس والصراع على المسؤولية، الأمر الذي لا نجده في التنظيمات الإسلامية، التي تنزه فيها المسؤولية عن كل مطمع دنيوي، وترى فيها تكليفا لا تشريفا مما يجعل طلبها والحرص عليها غير مرغوب فيه، مما يعطل إلى درجة كبيرة سعار الصراع والتنافس، وحمى الوصول إلى المسؤولية، وما يرافق كل ذلك من حروب تشتعل قبل بداية التنافس وعلى هوامشه.

ولا غرو، فالكثير من التنظيمات الضعيفة  والمتناحرة والمتلاشية، إنما يشكل حب المسؤولية والحرص عليها أحد أدوائها، وأحد عوامل الضعف والتلاشي والتناحر، إن لم يكن أهمها، مما يعني أن داء حب الرياسة يبدأ ضعيفا لتجتمع ظروف وعوامل لتقويته، وترجمته عبر تجليات يظهر مفعولها مع طول الأمد إن لم يتم تطويقها والحد منها،  وهذا يعني أيضا أن هذا الداء يمكن أن يتسرب حتى إلى التنظيمات التي تعتبر ننفسها محصنة ضده، أو تلك التي يمتلك أعضاؤها مناعة قوية تجاهه.

فحب الرياسة أو التطلع إلى المسؤولية والحرص عليها داء قديم،  يعشش في النفوس على درجات ومستويات متفاوتة، باختلاف ما يبذل في صده من جهد ومجاهدة، تترجمه الاختيارات والتعاليق وأشكال النقد الموجهة، وطبيعة الإنجازات القبلية والبعدية، أي بعد التلبس بالمسؤولية والخلو منها، وقد يجتهد الكثيرون في دفع تهمة حب المسؤولية بالاعتذار عن تحملها حين الإسناد، أو بالزهد فيها حين الإعفاء، ولكن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فالمرضى بحب المسؤولية تكشفهم الوقائع، وتفضحهم الأعمال، حين ينزوون في الهوامش، ويضعون بينهم وبين إخوانهم مسافات لم تكن من قبل لولا ذلك الإعفاء، فتتحول عندهم كثرة التمارض عن الحضور إلى مرض، وكثرة الاعتذار عن المهام الجديدة  إلى مواقف وأحكام، فيتخصصون في النقد وبيان العثرات، وإعطاء الدروس للمسؤولين الجدد، كلما سنحت الفرصة لذلك، مع فراغ يكاد يكون قاتلا في الإنجاز الذي خبا وتراجع بعد الإعفاء، وعطالة مخجلة إلا عن اللغو والكلام،  فالمثابرة في العمل والاجتهاد، لا ينبغي أن تتأثر بتغيير مواقع المسؤولية خاصة من "الأعلى" إلى "الأدنى"، وقد استدل على وجوب العمل في كل مواقع المسؤولية بنفس الحماس، ونفس الفاعلية بحديث في البخاري يربط حب الدنيا وحب المسؤولية بهذا التغير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع».

 فهذا الحديث صريح في الربط بين حب الرياسة وطلب الدنيا، وكأن الرياسة والوصول إلى المسؤولية وسيلة للكسب والتجارة عند من يحرصون عليها، ويبدعون شتى الوسائل والطرق للظفر بها، خاصة إذا اقترنت مثل هذه المسؤوليات بما له علاقة بالمال، والسهر على مصالح المجتمع وتدبير شؤونه، وهو ما يجعل الرياسة أو المسؤولية قرينة الثروة والكسب السريع لدى فئة من الناس ممن ألفوا إدارة أموالهم وأعمالهم في تسلق المسؤوليات والمهام، عوض إدارتها في مجالاتها الطبيعية.

كما يكشف الحديث طبيعة بعض الناس في التعامل مع المسؤوليات، بين مهام تتيح لأصحابها الظهور والصدارة، وبين المسؤوليات التي تمارس في الخفاء أو من وراء الستار، أو ما يطلق عليهم "جنود الخفاء"، والنفس البشرية التي لم تخضع للتهذيب والتشذيب تنشط في حالة الظهور، وتخبو في حالة الضمور.

والحراسة تعني في الحديث مقدمة الجيش، والساقة مؤخرته، قال ابن الجوزي([1]): قوله: (إن كان في الحراسة، وإن كان في الساقة)، المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فأين اتفق له كان فيه.

وقد تواترت نداءات المربين وتوجيهاتهم وتحذيراتهم حول داء الرياسة أو حب المسؤولية،  فيرى ابن الجوزي، وهو الخبير بالنفوس، أن هذا الداء طبيعة بشرية لا ينفك عنها إلا بالمجاهدة، يقول: "لا بد من وجود شهوة الرياسة فإنها جبلة في الطباع. وإنما ينبغي مجاهدتها. ولا يترك حق للباطل([2])".

أما صاحب الإحياء، فيرى أن لحب المسؤولية لذة، ومقاومتها بالكلية خارج مقدور البشر، لكن يمكن قهرها، يقول:

"وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون، فأما قمعها بالكلية حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجاً عن مقدور البشر، نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة، ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل([3])".

وقد حفلت كتب التاريخ والتراجم بشهادات وأقوال معبرة ودالة، تنبئ عن خطورة هذا الداء، الذي بسببه تسل السيوف، وتراق الدماء، قال سفيان الثوري: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها، وعادى([4])".

وقال قاسم الجوعي: إذا رأيت الرجل يخاصم، فهو يحب الرئاسة، فحب الرياسة أصل كل موبقة([5])".

والتاريخ الإسلامي يدلنا على أن الساقطين في هذا الامتحان كثر، لم يسلم منهم أحد إلا من رحم الله، وقليل ما هم، بل لم يسلم إلا من فطن لهذا الأمر، وعرف نفسه، وأدرك خباياها، فاشتغل على دفع هذا المرض بما يناقضه، فليس أنجع في التغلب على حب المسؤولية من الانخراط  بفاعلية وتفان، والانشغال بالأعمال بدل الأقوال، فالكثير من المنعطفات الخطيرة التي مرت منها الأمة، وما عرفته من اقتتال وسل السيوف، وإراقة الدماء، كان ترجمة لهذا المرض، وتجليا من تجلياته، يقول الشهرستاني: "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان([6])".

وحب الرياسة آفة خفية، يصعب ضبطها وكشفها، فهي تتلون وتأخذ أشكالا عدة، ظاهرها الدين والاستقامة والورع، وباطنها الحرص وحب الدنيا، قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة. فهي خفية تخفى على الناس، وكثيرا ما تخفى على صاحبها ([7]).

وقد فسر أبن تيمية خفاء هذه الشهوة بقوله: "إن الإنسان قد يخفى عليه كثير من أحوال نفسه فلا يشعر بها، لأن كثيرا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور، ولهذا سميت هذه الشهوة الخفية([8])".

وقد ذكر صاحب كتاب" الخلافات السياسية بين الصحابة" نماذج من الصحابة خامرهم هذا الداء في لحظة من لحظات الضعف التي تعتري الإنسان، ولكنهم تغلبوا عليه، وهذا هو سر عظمتهم، وقد اعتمد المؤلف على منهج ابن تيمية في تفسير الكثير من مواقف الصحابة خاصة تجاه خلافة أبي بكر الصديق، ولم يسقط في شرك التبرير، فقد فسر امتناع علي بن أبي طالب من بيعة الصديق في الشهور الستة الأولى من خلافته بأن عليا "كان يريد الإمرة لنفسه([9])"، أي يرى نفسه أحق بالمسؤولية دون غيره، ويعلل رفض سعد بن عبادة بيعة الصديق تارة بأن الأنصار"كانوا قد عينوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر([10])"، وتارة "لكونه كان هو الذي يطلب الإمارة([11])"، وتارة بالتحيز لقومه: "وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار([12])"،  وفي موطن آخر يقول ابن تيمية: "وتخلُّف سعد قد عُرف سببه، فإنه كان يطلب أن يصير أميرا، ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا([13])"، ولم يرهق شيخ الإسلام نفسه في التكلف لتبرير ما قام به سعد أو في التأول له، بل قال: "وسعد وإن كان رجلا صالحا، فليس معصوما، بل له ذنوب يغفرها الله له، وقد عرف المسلمون بعضها([14])"، ومثل هذا التعليل ما ذكره الحافظ الذهبي عن سعد من أنه "كان ملكا شريفا مطاعا، وقد التفت عليه الأنصار يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعوه، وكان موعوكا، حتى أقبل أبو بكر والجماعة، فردوهم عن رأيهم، فما طاب لسعد([15])".

وهو نفس ما ذكره ابن تيمية أيضا عن سعد في موضع آخر، حيث قال: "كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوى، ومن ترك الشيء لهوى لمن يؤثر تركه ا([16])".

لذلك كان توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الخبير بالنفوس، وبمعادن الرجال، والقائم على شؤون الرعية، تنبيها لهذا الداء، ورصدا لمظاهره وتجلياته، ومن ذلك لما سأله أحد الصحابة أن يوليه مسؤولية ومهمة، فقال له منبها ومحذرا كما جاء في الصحيحين: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فانك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها"، فنهاه عن طلب المسؤولية إلا أن يكلف بها، ومثل ذلك ما هو معروف عن أبي ذر الغفاري الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة والمسؤولية، فبين له صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح للمسؤولية أصلا، لا حالا ولا مستقبلا، حين قال له: "يا أبا ذرـ إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم"، وكذلك كان، فقد نفي رضي الله عنه زمن عثمان رضي الله عنه إلى الربذة، وبها توفي وحيدا كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم*([17]).

وقد علق ابن تيمية على فلسفة النبي صلى الله عليه وسلم في إسناد المناصب والمسئوليات إلى الصحابة وفق استعداداتهم وقدراتهم بقوله: "وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة([18])".

من أجل ذلك، اقتضى هذا العدل وضع إجراءات وتدابير لتنظيم الحصول على المسؤولية، وطبيعة المهام المنوطة، والخبرات المطلوبة، والزمن المطلوب، للحد من أي انحراف عن الطريق السوي، ومحاصرته، والقطع مع أسبابه القريبة والبعيدة، ولعل ما أبدعه الغرب من أشكال التداول على المسؤوليات وطرق الانتخاب والتسيير، وفترات المسؤولية، وما يرافق كل ذلك من إجراءات، أو ما اصطلح عليه بالديمقراطية، يعتبر أفضل ما توصلت إليه البشرية لتنظيم التداول على المسؤولية حتى لا تبقى السلطة والمسؤولية دولة بين مجموعة من الناس يتوارثونها جيلا بعد جيلا.

ولعل نظرة عجلى إلى مجتمعنا، تكشف بعض مظاهر حب المسؤولية وحمى التنافس عليها، لا فرق في ذلك بين مؤسسة جامعية، أو نقابية أو حزبية، أو إعلامية، أو دينية، مما يعني أن الداء موجود، وهو أحد عوامل الضعف والتراجع الذي تعرفه الكثير من مؤسساتنا للأسف الشديد.

               

الهوامش

([1]) عبد الرحمن بن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين، تح: علي حسين البواب، دار الوطن – الرياض، 3/ 539.

([2]) المقدسي، الآداب الشرعية والمنح المرعية، دار الكتب، 2/ 154.

([3]) الغزالي، أبو حامد، ميزان العمل، تح: سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ط1، 1964هـ، ص: 241.

([4])  الذهبي، سير أعلام النبلاء،: تح: مجموعة من المحققين بإشراف  شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ / 1985م، 12/ 79.

([5]) ابن الجوزي، صفة الصفوة، تح: أحمد بن علي، دار الحديث، القاهرة، مصر، 1421هـ/2000م، 2/ 408.

([6]) الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، 1/ 22.

([7])  ابن تيمية، مجموع الفتاوى، تح: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م، 16/ 346.

([8])  ابن تيمية، مرجع سابق، نفس الصفحة.

([9]) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تح: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406 هـ - 1986 م، 7/ 450.

([10]) ابن تيمية، مرجع مذكور،1/ 536.

([11]) ابن تيمية، مرجع مذكور،1/ 518.

([12]) ابن تيمية، مرجع مذكور،8/ 336.

([13]) ابن تيمية، مرجع مذكور،8/ 331.

([14]) ابن تيمية، مرجع مذكور،6/ 326.

([15]) الذهبي، مرجع مذكور،1/ 276.

([16]) ابن تيمية، مرجع مذكور،8/ 335.

*  عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» رواه الحاكم في مستدركه، تح: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1411ه – 1990م، 3/ 52.

([17]) سير أعلام النبلاء، مرجع مذكور، 2/ 67.

([18]) مجموع الفتاوى، مرجع مذكور، 11/ 126.