طريق التمرد

طريق التمرد :

الزاوية – الكُشح – الإسكندرية !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لم يقف التمرد الطائفي عند أحداث الخانكة التي توافقت مع اعتلاء الأنبا شنودة عرش الكنيسة المرقصية في مصر ، التي فقدت سلطتها على كنيسة القدس وكنيسة الحبشة . امتد التمرد الذي أخذ شكلاً نمطياً أو شبه نمطي إلى أكثر من مكان ، وعادة يبدأ بالاستفزاز من جانب المتعصّبين الطائفيين ، مما يقتضى رداً من جانب عوامّ المسلمين ، وتجري بعدئذ عملية التهييج على المستويين المحلى والعالمي ، الأول من خلال اليسار المتأمرك والعلمانيّين والمرتزقة ، تحت دعاوى التطرّف الإسلامي والوهّابية وعدم قبول الآخر والأصولية وغير ذلك ، والمستوى الآخر العالمي ، ينطلق من خلال عصابات المهجر المتعصّبة ومنظمات وعملاء الغرب ، ومواقع الإنترنت ، والصحف الصليبية الاستعمارية تحت عنوان " اضطهاد الأقباط في مصر " ، و" الحرّية الدينية " .. ثم تفرض مطالب طائفية تحقق المزيد من الامتيازات على حساب الأغلبية الساحقة ، مع الفرز الطائفي الذي يعزز الجيتو الكنسي ، ويفصل بين المواطنين !

عقب أحداث الخانكة حاول الرئيس السادات أن يحتوى التمرّد الطائفي بالعديد من التنازلات ، لدرجة أن أعلن على الهواء ذات يوم وعبر التلفزيون والإذاعة في احتفال ضم شيخ الأزهر فضيلة الإمام الراحل عبدا لحليم محمود ، والأنبا شنودة ، عن فكرة الكتاب المشترك الذي يدرسه طلاب التعليم الأساسي بديلاً عن التربية الدينية الإسلامية ومقرر الدين المسيحي ، ويُحسب للإمام الراحل عبدا لحليم محمود شجاعته التي تجلت على الهواء أيضاً ، ورفضه لهذه الفكرة ، ثم كتابة مقال علمي رائع ، رفضت نشره الصحف الحكومية ، ونشرته مجلة " الاعتصام " الشهرية – رد الله غربتها – فنّد فيه فساد الدعوة إلى الكتاب المشترك ، ومنافاتها لطبيعة مصر وثقافتها ، وهى الدعوة التي أعيد إنتاجها بعد عقدين من الزمان تقريباً ، على يد اليساريين المتأمركين والعلمانيين والمرتزقة الذين كانوا يرسمون سياسة وزارة التعليم ، فيما عرف بكتاب " الأخلاق " ، وقد عدلت عنه السلطة منذ فترة قصيرة !

لم تجد محاولات الرئيس السادات في احتواء التمرد الطائفي الذي وجد مدداً صليبياً استعمارياً قويا ، بعد انتقال السياسة المصرية من التماهى مع المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الاستعماري الأمريكي ، فقد فرض هذا المعسكر أجندته السياسية والإستراتيجية التي وضعها " هنري كيسنجر " ؛ وزير الخارجية الأمريكي آنئذ ، وتقضى بتفتيت المنطقة العربية عقب حرب رمضان 1973م ، التي أزعجت الغرب وأقلقته خوفاً على مستقبل القاعدة الاستعمارية التي أقامها في فلسطين ، وبالفعل بدأ تفتيت لبنان عام 1975، وتقوية حركة أنانيا في جنوب السودان ، والتمكين للحكم النصيرى الطائفي في دمشق ، وإشعال النار بين العراق وإيران وإثارة القلاقل بين المغرب والجزائر ، واتسعت في التسعينيات وما بعدها ، الأحداث المأساوية في شتى أرجاء المنطقة العربية ، وأبرزها غزو العراق ومن قبله أفغانستان ، ثم الصومال ودارفور ولبنان ثانية ..

لقد اضطر السادات إلى إعفاء الأنبا شنودة من منصبه وتشكيل مجلس جماعي لإدارة الكنيسة حين رأى التمرّد يأخذ شكلاً متحدياً وسافراً ، وبعد موته سجّلت المحكمة حكماً تاريخياً يدين الأنبا وتصرفاته ، وإن كان الرئيس مبارك قد أعاده يومها حرصاً على لملمة جراح الوطن وجمع أشلائه الممزقة !

بيد أن التمرد الطائفي على المستوى التطبيقي أخذ أبعاداً غريبة وغير مقبولة ، بدءًا من أحداث الزاوية الحمراء ، مروراً بالكشح وغيرها ، حتى أحداث المسرحية التي مثلت في كنيسة مار جرجس بالإسكندرية .

وقعت أحداث الزاوية الحمراء عام 1981م ، حيث أطلق طائفي اسمه " كمال عياد " النار من مدفعه الرشاش على مجموعة من الأطفال ، يدرسون ويحفظون القرآن في مصلى ( يسمى مسجد النذير الآن ) أمام منزله ، فقتل وجرح عدداً منهم ثم فرّ هارباً .. وكان من الطبيعي أن يثور عامة الناس من روّاد المقاهي والباعة وغيرهم ، ويردوا على العدوان الإجرامي ، وتمثل الرد في إحراق بعض البيوت التي يملكها النصارى ، وامتدت الأحداث إلى منطقة الوايلى ، وكادت تشمل القاهرة بأسرها لولا لطف الله !

وإذا عبرنا مساحة زمنية أطول وتجاوزنا عن نماذج محدودة لنتوقف قليلاً عند أحداث الكشح ( ديسمبر 1999 ) ، فسوف نجد أن الاستفزاز  الطائفي هو هو ، والتحدي السافر هو هو ، فقد رفض أحد تجار الأقمشة النصارى ، ردّ بضاعة اشترتها منه امرأة مسلمة ، وقام بشتمها وسبها و " لعن دينها " ، ثم دفعها بيده ، مما أدى إلى سقوطها أرضاً – كما يقول تقرير جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان في 12/1/2000 م – وانحسر الثوب عن ساقي المرأة ، مما استفز رجالاً من عائلتها وجيرانها لردّ العدوان بتحطيم محل التاجر وبعض المحلات المجاورة المملوكة لنصارى .

بعد مدة وجيزة قام عدد من عائلة التاجر النصراني وأصحاب المحلات المحطمة بتكسير عدد من الأكشاك المملوكة للمسلمين المقامة أمام محلاتهم ، وانتشرت الشائعات داخل الكُشح وخارجها ، بأن المسيحيين قتلوا المسلمين ، وهو ما ضاعف اندفاع جماهير المسلمين في القرى المجاورة لتحطيم محلات للنصارى وحرق بعض السيارات ، وأسفرت الأحداث في الكُشح وخارجها عن عشرين قتيلاً ، وما يزيد عن ثلاثين مصاباً ، وتم القبض على خمسة وثمانين شخصاً . كما صدر أمر بإلقاء القبض على القس " جبرائيل عبدا لمسيح " الذي كان ضالعاً في الاشتباك واتهم بتشكيل عصابة هاجمت السكان ، كما اتهم بالتآمر وتخريب الممتلكات ، والشروع في القتل ؛ وحيازة أسلحة محرمة دولياً ، وقد استبعد القس من قائمة المتهمين فيما بعد تجنباً لتصعيد التوتر في القرية .

كانت هناك أحداث أخرى عام 1998م في الكُشح ، انتهت إلى ظلم المسلمين من كافة الجهات الحكومية ، ومحاولة إرضاء النصارى بشتى الطرق ، لدرجة أن الشرطة كانت تسترضيهم في حالة أي خلاف ينشأ بينهم وبين المسلمين حتى لا يظهر الأمر على أنه اضطهاد للنصارى ، وتفادياً للتشهير الإعلامي في الخارج ، حيث لا تكف وسائل إعلامهم – المُمولة بمليارات الدولارات – عن اصطياد أي حادث محدود ثم تضخيمه لصالح التمرد الطائفي الذي تقوده أقلية الأقلية التي تحلم بإقامة دولة في جنوب مصر على نمط جنوب السودان، استقواء بالخارج وقوى الصليبية العالمية .

وإذا كانت أحداث الخانكة والزاوية الحمراء والكُشح وغيرها ، تبدأ بالاستفزاز على الأرض ، بمعنى التحرك العملي المباشر للتعبير عن التمرد وتجاوز القانون بسلوك عنيف ، يستدعى ردّاً عنيفاً أو أعنف ، فقد تطور الاستفزاز على الأرض والتحدي من خلال الفكر أو الهجوم الفكري ،  فيما عبّرت عنه أحداث مسرحية " كنت أعمى والآن أبصر " التي كادت تشعل الإسكندرية وتُضرم النار في أحشائها وتحرق الجميع .. ومن الغريب أن المتمرّدين الطائفيين المتعصّبين ، يُلقون دائماً باللوم والتبعة على جهات الأمن فهي إما مقصرة في حمايتهم (!) أو محرّضة على العنف ! وللأسف فإن هذه الجهات هي التي تضغط على الجانب الإسلامي الذي يضطر لإغلاق ملفات العدوان عليه رغباً أو رهباً .. ولكن هذه الضغوط قد تُحدث انفجاراً لا يُبقى ولا يذر مالم يتم تدارك التمرد الطائفي ومحاسبته قانونياً بكل حزم وصرامة .