الرأي والتعبير ...والحرية

الرأي والتعبير ...والحرية

(6)

د. نصر حسن

[email protected]

على المستوى الثاني المتمثل في الموقف الخارجي من العرب والمسلمين يجب القول بصريح العبارة أيضاً , وفي حدود حرية الرأي والتعبير لايمكن فصل الهدف عن الهادف ولا الشكل عن الأسلوب ولا الفكرة عن الموضوع ولا الرأي عن السبب والقصد ولا الوسيلة عن الغاية , نلاحظ هنا حشر أو خلط متعمد بين رأي معرفي نزيه مطلوب هدفه الحقيقة, وبين استخدام سياسي تهكمي أهوج يخدم حالة معينة وقولبتهم في مستوى واحد , والحال كذلك يكون التعبير كما في الأخير مأسوراً في قطر دائرة الصراع الغريزي المغلقة وإفرازاً لها , ولايمكن والحال كذلك أن يكون نزيهاً ومفيداً سوى بالخروج منها, ولاشك أن بروز مثل تلك الظواهر ليس غريباً في ظل تعطيل أو تأجيل العمل بالقيم الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي ,وهو عمل غير مشروع وغير مبرر وليس هناك من سبب في العالم يستدعي التراجع الإنساني وتهميش قيم التنوير والحرية والقانون والمساواة ,بل يجب الاصرار على التمسك واتباع الطرق والوسائل المشروعة إنسانياً لحل كافة استعصاءات النظام العالمي التي تتكثف بشكل مقصود في ثنائية متناقضة متنافرة , أي في صراع الخير والشر أو النهاية والبداية , أهي مرحلة أحياء العصبيات على المستوى الإنساني من جديد وفرضها عنواناً للقرن الحادي والعشرين ؟!.

باختصار القول ومباشرته : إن الازدواجية والانتقائية في ممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون من جهة , وشيوع ممارسة الظلم والصمت عليه من جهة أخرى ,هي السبب وراء حالات الخلل والاضطراب في العلاقات الدولية, وهي التي فتحت الأبواب لشياطين الغريزة لتطفو على السطح , تقود وتوجه التعبير والرأي العام باتجاه خدمة أهدافها السياسية البعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق والقانون الدولي , ولاشك بأن المرجعية الحديثة التي تمثلها الديمقراطيات الغربية هي المهيمنة ,ولا شك أيضاً في جدواها على المستوى الإنساني , لكن في وقوع بعضها لعبة في يد اليمين المتطرف وتجار السياسة والاحتكار فقدت بعض اتساقها الإنساني ,فهي كما الحداثة الحالية تعاني خللاً حضارياً وإنسانياً يتمثل في موقفها من الآخر, وتحديداً من الأقليات الحديثة المتزايدة في صفوفها ومنهم العرب والمسلمين .

هنا يجب فهم الأمر بعمقه المعرفي الثقافي الإنساني الحضاري التاريخي , فالاتساق أو عدمه هو ليس إشكالاً دينياً أو معرفياً أو ثقافياً , بل هو خللاً واضطراباً بوسائل وتجليات المرجعية المهيمنة ( الديمقراطيات الغربية ) التي تبني الوعي وتعيد إنتاجه من جديد ,أي هي مشكلة أدواتية سياسية قانونية مدنية تتعلق بالموقف من الآخر كفرد وشعب وثقافة من جهة , وبنجاعة سياسة التكامل والإندماج المعمول بها من جهة ثانية , وفي إطار الحسم نرى ضرورة اعتماد المقاربات المرنة للمعالجة والخروج من وباء الكراهية ورفض الآخر , اعتماد برامج يضعها خبراء علم النفس والحضارات والثقافات والأديان ,وفلاسفة اجتماعيين وديمقراطيين حقيقيين يؤمنون بالتعددية الدينية والعرقية والثقافية , متنورين ومتحررين من الروابط العصبية الضيقة في المكان والزمان , وليس سياسيون موظفون يمثلون الواجهة الحقيقية لأدوات صراع رأس المال الاحتكاري المباشر مع قيم المدنية الحديثة الإنسانية .

هل في وسع الجميع البدء في مرحلة تأسيس جديدة ؟! أم أن الأمر في عصر السرعة اصبح استهلاكياً في كافة تجلياته وخرج عن هذا السياق ؟! نوع الإجابة ومستواها ,وحدها تحدد شكل المخرج أو الغوص أكثر في المأزق التاريخي ..!.

في محاولة الإجابة نرى أن ماأفرزه التطور السياسي تحديداً خلال العقود الأخيرة المنصرمة وخاصة ً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور راديكالية متطرفة جداً بدلت مواقعها من اليسار إلى اليمين ووصلت إلى دوائر رسم السياسات وصنع القرار في الغرب , هي التي أسست لمايشهده العالم اليوم من مآزق واستعصاءات ,أوضح ملامحها هي وصم المرحلة الحالية عنوةً بصراع الحضارات وفي مباشرتها صراع الأديان سواءً على المستوى الداخلي في المذاهب المسيحية والإسلامية نفسها ,أو بشكل بيني بين المسيحية والاسلام , وفي هذا الطريق تراجعاً وتردياً واضحاً عن قيم التنوير , وأشبه بتدوير المسألة الدينية وإثارتها من جديد وجعلها عنواناً بديلاً لقيم العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان , أي نقض المنجزات الفكرية والثقافية والسياسية التي أفرزتها مرحلة التنوير, إنها باختصار مرحلة الالتفاف على الحداثة وقيمها ومعاييرها , إنها في العمق مشكلة عالمية ساحتها المباشرة اليوم هي الشرق الأوسط لكنها متمددة باستمرار وليست متوقفة هناك ,وعليه إن معالجتها هي مهمة عالمية إنسانية , الجميع معني بالاشتراك للإجابة عليها وتخليص الإنسانية من أخطر مراحلها .

واستطراداً إن حرية الرأي والتعبير الهادفة يجب أن تأخذ مداها الكامل الجريء من موقع احترام الآخر ,وهذا ماتحتاجه حالة العالم اليوم بقوة بدون تحريفات وتحديدات تلغي دورها, وأن تكون أي حرية التعبير منطلقة من هدف نزيه ومعبر عنها بسلوك إيجابي متسامح حضاري مسؤول , وليس ممارستها تحت غطاء الكراهية والتسفيه ,فالاختلاف بين الأفراد والشعوب والثقافات هو في أهم صوره يمثل جدل الحياة وصيرورتها وحريتها وتقدمها فالعبودية وحدها تفرض التماثل , هنا يجب التأشير بصراحة بأن مايجري من تعميم مظاهر البؤس والسلبية والفعل ورده غير المنسجم مع التطور الإنساني ,خاصةً مع تغول وتردي إدارة الآلة الإعلامية السريعة التي تضخ سمومها على مدار الساعة والتي تغلب عليها الدعاية وتوليف الرأي العام على إنتاج التعصب والكراهية والفوضى ,هو توظيف غير أخلاقي ومؤذي ومتناقض مع قيم التسامح والعصر التي دفعت البشرية ثمناً غالياً لها , فتوحيد العالم حول عقيدة واحدة غير ممكن من جهة ,وهو مشروع للتعصب بامتياز من جهة أخرى , أهي مرحلة التبشير بنهاية التاريخ الإنساني ؟! واستمراره بشكل آخر ومحتوى آخر وأدوات وقيم ومعاييرأخرى ؟! .

فالتاريخ الإنساني يتوقف عن التقدم وينحدر " إذا وفقط إذا " شهد انكساراً حاداً في مساره الإنساني , ومقدمته هي استمرار مشروع الكراهية بدون رادع والذي بدت مظاهره تنذر الشعوب بوضوح وقلق بالغين, وعليه إن عالم اليوم يحتاج إلى رؤى وآراء تمثل معززات إيجابية للتكامل والتسامح والاحترام والعيش المشترك, وصياغة مستقبلاً إنسانياً واحداً أصبح واقعاً لامفر منه أو فناءً مشتركاً وشيكاً لامهرباً منه , والحال هذا فإن التكامل الإنساني لايحتاج إلى محترفي نبش عقد ومقابرالتاريخ ومحارقه , بل يحتاج إلى نقيضه تماماً ,هنا تفرض الضرورة الأم نفسها وهي الحاجة إلى اختراع إنساني جديد أو المشي بهذا الطريق في أضعف الأحوال , بحاجة إلى مهندسين إنسانيين متنورين في تصميم السلوك وحرية الرأي والثقافة والعلاقات الحضارية بين الأمم والشعوب قبل فوات الأوان !.