السلام على أهل الكتاب

أ.د. عبد الرحمن البر

المستشار الشيخ فيصل مولوي

رؤية شرعية

أ.د. عبد الرحمن البر

عضو مكتب الإرشاد وأستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

سماحة المستشار الشيخ فيصل مولوي هو أحد أبرز الفقهاء المعاصرين الذين كملت لديهم آلات الاجتهاد الفقهي، والذين جمعوا بين العلم الشرعي والخبرة العملية والحركية؛ فضلاً عن الاتصال الوثيق والمعرفة الدقيقة بإشكالات الواقع الإسلامي المعاصر وتعقيداته على مستوى العالم الإسلامي وعلى المستوى الدولي، ومن ثم كان جديرًا بموقع المرشد الديني لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، وتم اختياره نائبا لرئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي يترأسه فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي.

وقد تصدَّى سماحة العلامة الشيخ فيصل مولوي لمناقشة كثير من القضايا المعاصرة بمنهج وسطي معتدل، يدور مع الدليل الشرعي الصحيح، ويتَغَيَّا المقاصدَ الشرعيةَ الواضحة، وكانت كتبُه وأبحاثُه وفتاواه محلَّ قبولِ وتقديرِ أهل العلم على امتدادِ الساحة الفقهية المعاصرة.

ومن هذه البحوث الماتعة بحثُه القيم «السلامُ على أهل الكتاب» تلك القضية التي أعادتْ فرضَ نفسها بقوةٍ على المسلمِ المعاصرِ في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، مع نُمُوّ الظاهرةِ الإسلاميةِ من جهةٍ، وتَنَامي التخويفِ من الإسلام من الجهةِ الأخرى، وشُيوعِ ثقافةٍ غيرِ صحيحةٍ وفهمٍ غيرِ عمليٍّ ولا دقيقٍ لبعضِ النصوصِ في هذا الموضوع، الأمرُ الذي استفزَّ قلمَ سماحةِ الشيخِ لكتابةِ هذا البحثِ الرائع، الذي جمع مع وَجَازَتِه أطرافَ القضية، في مناقشةٍ علميةٍ فقهيةٍ متميزة، تجمع بين النصوص الصحيحة العامة والخاصة، لتُشَكِّلَ للقارئِ المسلمِ ثقافةً شرعيةً متكاملةً غيرَ متناقضة.

يتكون البحث من أربعة فصول:

يناقش الأول: أسباب منع المسلم من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، حيث استند القائلون بذلك للحديث الصحيح «لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ» ولما كان هذا غريباً في العلاقات الإنسانية الطبيعية فقد لجأ بعضُ أهلِ العلم لالتماسِ أسبابِ ذلك، فمن قائل: إنه مكروهٌ؛ لما فيه من تعظيمِهم، وجائزٌ إن كانت للمسلم حاجةٌ إليهم، ومن قائل: إنَّ الكافرَ ليس من أهل التحية، ومن قائل: إن فيه إظهارًا للودِّ لمن حادَّ الله ورسولَه، أو استجلابًا لهذا الود، خلافًا  للمأمور به من معاداة الكافرين.

وقد كرَّسماحة الشيخ على هذه التبريرات الضعيفة بالنقض والإبطال، فالسلام ليس تعظيما للمسلم عليه، ولا إكرامًا له، بل هو أحرى أن يكون إكرامًا للمسلِّم نفسه، والسلامُ إنما هو تحيةٌ تحقق المقصد من الآية الكريم ]وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[[الحُجُرات:13] وبَسْطُ الإيناسِ واجبٌ إسلاميٌّ، فالمسلمُ داعيةٌ يجب أن يتلطَّف مع مَنْ يدعوهم، وتلك هي الموعظة الحسنة، والوُدُّ الذي نهي عنه الشارعُ هو الموجَّه إلى المحاربين من الكفار؛ لا إلى كل كافر، فقد أباح الإسلام زواج الكتابية، والزواجُ قائمٌ على المودة والرحمة، والمسلمُ مأمورٌ بفعلِ ما يستدعي مودَّةَ الناس جميعًا، ما داموا غير محاربين للمسلمين ولا يُظاهرون عليهم، ومن ثَمّ أجاز الإسلامُ التهاديَ بين المسلم وغير المسلم، وخصوصًا، ذوي الأرحام ]لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [الممتحنة:8].

أما الفصل الثاني فاستعرض فيه سماحة الشيخ موقف الإسلام من السلام والتحية باعتبارها جزءًا من السلوك العام للمسلم، وذلك من خلال عدة نقاط:

1- الإنسانُ خليفةُ الله في الأرض، ومهمتُه عمارتُها، وهذا أمرٌ يشتركُ فيه المسلمُ وغيرُ المسلم، ولا يَتِمُّ ذلك إلا في ظلِّ علاقات إنسانية سلمية.

2- هذه المهمةُ المشتركةُ لا تعني التوحُّدَ بين المسلم وغير المسلم، فللمسلم رسالتُه المكَلَّفُ بها وهي الالتزامُ بالإسلام والدعوة إليه.

3- الدعوة إلى الإسلام إنما توجَد ضمن قواعدَ شرعية منها: حقُّ الإنسان في الاختيار ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[ [البقرة:265]، ومنها: وجود علاقاتٍ سليمةٍ تسمح بالحوار ومحاولة الإقناع، وتقوم على تكريم الإنسان واحترام إرادته والتعايش السلمي مع خياراته الدينية ]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[[الكافرون:6]. ومنها: أن السلام هو الأصل الشرعي الثابت الذي يُوجِدُ أفضلَ الظروف لنشرِ دعوةِ الإسلام، وقد حفلت كتبُ الفقه بتنظيم التعايش مع غير المسلمين في كل الظروف بشكل تفصيلي.

وأمام هذا يتساءل فضيلةُ العلامة الشيخ فيصل: هل يُعْقَل إذا التقى مسلم بغير مسلم ألَّا يبدأَه بالسلام؟ وهو الذي يجب أن يبادِرَه بالدعوة؟، وأن يسبق إلى الخير ]فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[ [البقرة:148]. وهو المأمورُ بأن يدرأَ السيئة بالحسنة، ومن باب أوْلَى أن يبدأ بالحسنة ]وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[ [البقرة:83] .

وفي الفصل الثالث: استعرض سماحة الشيخ النصوص القرآنية في هذا الموضوع:

1- فالنصوص الداعية إلى التسليم عند دخول البيوت عامة للمسلمين وغير المسلمين.

2- والنصوص الداعية إلى ترك مجالس اللغو تأمر بالسلام عند المتاركة ]سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ[ [القصص:55]. ]وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا[ [الفرقان:63]. ]فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ[ [الزُّخرُف:89]. فإذا أُ مر المسلمُ في المتاركة بالسلام، فهو عند الاستقبال واللقاء أَوْلَى.

وقد سُئل سفيان بن عيينة رحمه الله: هل يجوز السلام على الكافر؟ فقال: نعم، وذكر آية الممتحنة ]لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ [الممتحنة:8].ثم قال: قال تعالى ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ[ [الممتحنة:4]. وقال إبراهيم لأبيه: ]سَلامٌ عَلَيْكَ[ [مريم:47].

وهو ما قاله الطبري ونسبه للسلف وابن مسعود وأبي أمامة والحسن الأوزاعي.

3- وقد تعجب سماحة الشيخ ممن يفرق في لفظ التحية بين المسلم وغير المسلم، أو يرفض رد التحية على غير المسلم بلفظ السلام، مع قول الله تعالى ]وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[ [النساء:86]. وقد روي الشعبي عن أحد أئمة السلف أنه قال لنصراني: عليك السلام ورحمة الله تعالى، فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ فأما قول النبي صلي الله عليه وسلم لليهود «وَعَلَيْكُمْ» فلأنهم كانوا غيروا اللفظ وقالوا: «السَّامُ عَلَيْكُمْ» أي الموت، فلم يشأ النبي صلي الله عليه وسلم أن يُفْحِش في الرد على أدبِهم السيِّء فاكتفى بقوله «وَعَلَيْكُمْ».

وفي الفصل الرابع: استعرض سماحة الشيخ نصوص السنة المطهرة التي تناولت قضية السلام، وقسمها قسمين:

القسم الأول: الأحاديث العامة، ومنها الحديث المتفق عليه: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم  أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

ومنها: الأحاديث الآمرة بإفشاء السلام بشكل عام، ومنها حديث أبي داود والترمذي- وحسَّنه- «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ».

القسم الثاني: الأحاديث الخاصة بإفشاء السلام بين المسلمين خاصة واعتبار السلام حقاً من حقوق المسلم على أخيه إذا لقيه، ومنها حديث مسلم «أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ».

وخلص سماحة الشيخ فيصل من كل تلك الأحاديث إلى أن السلامَ في الأصل هو تحيةُ الناس جميعا، وأن الله وضعه في الأرض كلها، ولكن المسلمين هم أَوْلَى الناس به، وعليهم إفشاؤه فيما بينهم أولاً، وتجاه سائر الناس ثانيا.

حديث «لا تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلامِ».

كان الصحابة يتعاملون مع الناس وفق المبادئ السابق، ويلقون السلام ويردونه على الجميع، حتى كان يوم قريظة، فقال النبي صلي الله عليه وسلم «إِنَّا غَادُونَ عَلَى يَهُودَ فَلاَ تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلاَمِ فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» (أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح).

وأما حديث مسلم في الصحيح «لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ» فالمقصود به في حالة الحرب؛ حتى يستقيم مع السبب المذكور في عدم التسليم على اليهود في قريظة، ومع ما سبق من نصوص ومبادئ عامة في إفشاء السلام ونشره.

وهذا الذي قال به الشيخ رشيد رضا، ووجهه: أن السلام تأمين، ولا يجوز لمسلم أن يؤمن محاربيه وهو غير آمن منهم.

وأما الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» فيستخلص من رواياته المتعددة: أن السلام كان معروفا بين المسلمين واليهود إلقاءً وردًا، لكن اليهود حرفوا لفظ «السلام» إلى «السام» وأصبحوا يبدؤون أو يردون على المسلمين بهذه الكلمة، فكان ردُّ الفعل الطبيعي أن يُمْنَع المسلمون من ابتدائهم بالسلام، وأن يكتفوا في الرد بلفظ «وَعَلَيْكُمْ».

بل منع النبي صلي الله عليه وسلم من الزيادة على ذلك رغم ظهور سوء نيتهم، فحينما قالت عائشة لهم: "السَّامُ عَلَيْكُمْ يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَعْنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ مَهْ!». فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَوَمَا سَمِعْتِ مَا رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ يَا عَائِشَةُ لَمْ يَدْخُلِ الرِّفْقُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ».

وعلى هذا فمتى زال السبب، وعاد اليهود والنصارى إلى قول «السلام عليكم» في الابتداء وقول «وعليكم السلام» في الرد، عاد المسلمون إلى الأصل وهو إلقاء السلام، ورد التحية بأحسن منها أو مثلها.

وقد أخرج الشيخان «أن النبي صلي الله عليه وسلم مرَّ بمجلس فيه أخلاط من اليهود والمسلمين فسلم عليهم»، ولا ينبغي أن يقال في هذا: إن النبي ^ قصد المسلم فقط بسلامه، بل قصد الجميع، ومن جاز إلقاء السلام عليه في جماعة جاز إلقاء السلام عليه منفردًا.

وقد جاء في حديث الطبراني والبيهقي: «إِنَّ اللهَ عز وجل جَعَلَ السَّلامَ تَحِيَّةً لأُمَّتِنَا، وَأَمَانًا لأَهْلِ ذِمَّتِنَا» وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني، وإن يكن فيه ضعف؛ إلا أن النصوص العامة الكثيرة تقوى معناهما.

ومما يقوي ذلك: عمل عدد من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر كما عند البخاري في الأدب المفرد وأبي نعيم في حلية الأولياء، ومنهم أبو أمامة الباهلي كما عند الطبراني وأبي نعيم. وممن نقل عنهم القول بابتداء الكافر بالسلام: ابن عباس وابن مسعود، وابن محيريز، وعمر بن عبد العزيز، وسفيان بن عيينة، والشعبي، والأوزاعي.

كما أن رسائل النبي صلي الله عليه وسلم إلى أمراء وملوك الزمان كانت تبدأ بالسلام، وتنتهي بقول «السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى».

وقال الطبري: قد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب.

وهكذا يتبين أن القول بعد ابتداء أهل الكتاب بالسلام إذا كانوا مسالمين غير محاربين ولا معتدين هو الموافق لمقاصد الشريعة السمحة ولقوله صلي الله عليه وسلم «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ».