تمثال ستالين.. وتماثيل أخري

أ.د. ناصر أحمد سنه

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

لسنا مع توجهات "جورجيا" نحو الغرب العنصري/الإمبريالي/ الاستغلالي، ولا مع ميل روسيا لإعادة إنتاج "إرثها وحقبتها السوفيتية/ الفولاذية"، ومحاولة "إثبات وجودها"..عنوة وتسلطاً وقهراَ.. عصاَ وجزرة، رغبة ورهبة، في صراعات هنا وهناك .. لقد بات المشهد مختلفا كل الاختلاف عن تلكم الحقبة البائدة. لكن إنما هي سطور تفرض نفسهاـ ليس تفشيا كيلا يحزن مناصروه، ومحبوه إن كان ثمة مناصرين ومحبين؟ ـ .. تأملاً، وعظة وعبرة، ودلالات أفرزها هذا المشهدـ مشهد إزالة تمثال "ستالين" البرونزي، لينقل لمتحف محلي، بعد نحو ستة عقود (1952م)علي نصبه في ميدان كبير، بمسقط رأسه في مدينة"غوري" من أعمال جورجيا.

انقلب وجه التمثال البرونزي إلي الأرض.. وكم لهم من تماثيل ذهبية ونحاسية وفضية وبازلتية الخ تليق بهم. لقد غادر وقفته هناك، ببزته العسكرية الرسمية المُميزة.. وكم لهم من هيئات وبزات، مميزة متنوعة، حسب الأحداث والمواقف والحفلات والاحتفالات والانتصارات والانتكاسات.. ومن أجل التقاط الصور لتحفظ في أرشيف التاريخ.. يحسبون أنها تُخلد ذكراهم: (..كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد:17).. لكن هاهو المصير.. تنقل الصور "صفعة" أحد الناس علي رأسه الضخم.

لقد كان"جوزيف فيساريونوفيتش ستالين"( 21 ديسمبر 1879 - 5 مارس 1953) ـ كغيرة من الديكتاتوريين/ الزعماء الفولاذيين ـ ملء السمع والبصر. قائداً ثانياً للإتحاد السوفييتي السابق، ويعتبرونه المؤسس الحقيقي للاتحاد السوفيتي. في فترة توليه السلطة قام بقمع وتصفية خصومه السياسيين، وشمل القمع والتصفية ـ ضمن ما شمل ـ كل من كانت تحوم حوله شكوك.

"ستالين" ببزته.. وعلي اليسار "لينين" مع "ستالين" في مارس 1919م. 

اعتنق ستالين فكر  "فلاديمير لينين". وفي عام 1913، تسمّى بالاسم ستالين" وتعني "الرجل الفولاذي".تقول إحدى الحكايات أن "فلاديمير لينين" أطلق هذا اللقب على "جوزف" لأنه قام بإلقاء قنبلة يدوية على القيصر أثناء عمل "ستالين" في القصر مع مجموعة من العمال الذين كانوا يقومون بعملية طلاء للقصر حيث قام ستالين بإلقاء القنبلة بين قدمي القيصر وتابع عمله كأن شيئاً لم يكن. تقلّد ستالين منصب المفوّض السياسي للجيش الروسي في فترة الحرب الأهلية الروسية وفي فترة الحرب الروسية البولندية، وتقلّد أرفع المناصب في الحزب الشيوعي الحاكم والدوائر المتعددة التابعة للحزب. وفي العام 1922، تقلّد ستالين منصب الأمين العام للحزب الشيوعي وحرص "ستالين" أن يتمتع منصب الأمين العام بأوسع أشكال النفوذ والسيطرة.

مناصب، نفوذ، سيطرة، تحكم، بطش، قهر، طغيان، حرب، نصر، هزيمة، هدنة، استسلام، سلم، قواعد، معاهدات، نهب الثروات الخ. تراهم ــ هم، هم نفس الزعماء والمتنفذين، يتقلبون بين مختلف الأفكار والرؤى والأيدلوجيات والسياسات، يموتون علي تلكم الكراسي الذهبية (التي تُدفن معهم)، فرحين بتحكمهم في رقاب العباد، والدواب، والبلاد:( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف:51). إنهم "أشرف" من أن يحكموا هؤلاء الناس لقد تنازلوا علي مضض كي يحكموهم، وهم أطهر من أن يتلوثوا ألسنتهم بالحديث إليهم، فقط لتتحدث الأملاك والثروات.. والتحكم والقهر والبطش.

وتراهم يتقلبون من أقصي اليسار لأقصي اليمين، من شيوعية واشتراكية، واشتراكية ديمقراطية، وقومية شوفينية، وفكر قديم، وآخر جديد، ومحافظون قدامي، وآخرون جدد.. إلي رأسمالية إمبريالية، عولمية، مستغلة جشعة، ساحقة، وليبراليون، وليبراليون جدد الخ ما يستجد من أفكار ورؤى وأيدلوجيات.

بعد ممات "فلاديمير لينين" في يناير 1924، تألّفت الحكومة من الثلاثي: ستالين، وكامينيف، وزينوفيف. وفي فترة الحكومة الثلاثية، نبذ ستالين فكرة الثورة العالمية الشيوعية لصالح الاشتراكية المحلية  مما ناقض بفعلته مبادئ "تروتسكي" المنادية "بالشيوعية العالمية". تغلب ستالين على الثنائي كامينيف وزينوفيف بمساعدة التيار الأيمن للحزب المتجسد في بوخارن وريكوف حيث نجحوا في طرد تروتسكي، زينوفيف وكامينيف من اللجنة المركزية في عام 1927 ثم من الحزب الشيوعي. وبعدها بشهور سعى ستالين لإضعاف نفوذ بوخارن واستطاع إزاحته من القيادة حتى أصبح هو القائد الأوحد. وتم ذلك بين عام 1928-1929. إلا أن ستالين لم يبلغ السلطة المطلقة الا بعد التصفيات الجسدية التي حدثت في الثلاثينات.

نفس الوجوه، إلا من أفكار وسياسات أيدلوجيات، تخدم المطامع والأهواء، وتضخم الثروات، والعيش في القصور والمنتجعات.. طائرات ويخوت وسيارات، ومليارات المليارات، بينما "الشغيلة/ والشبيبة/ قوي الشعب العاملة/ العلماء/ المثقفون الخ " تعيش شظف العيش، بزي موحد، فلا طبقات كي لا تتصارع، وبكوبونات لكل الحاجات البيولوجية (دون المعنوية والذاتية والقدرات والكفاءات المتميزة، والخصوصيات الفطرية).. من طعام وشراب وجنس (وفق نظرية الكأس التي ما إن تُملا حتى تفرغ في إي اتجاه).

ويقدم هؤلاء، وغيرهم، أرواحهم وقودا للحروب، من أجل أمتار من الأرض/ الثروة هنا أو هناك، وليت أحداً يتولي إحصاء عدد "الحروب العادلة/غير العادلة" عبر التاريخ؟، كما يتولي كم عدد "الزعماء/ القادة" الذين أحبهم الناس،مناصرهم وأعدائهم في آن معاً، وسجل صفحات ناصعة في كتاب التاريخ: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128). المُدهش أن التاريخ، وكتبته، غالباً ما يُسجلون فقط انتصار القادة والزعماء، بينما يُكرم هؤلاء "العامة/ الدهماء/ المشاة" بنُصب "الجندي المجهول".

لكن هاهي الأيام، والذاكرة الجمعية المتألمة تعيد، وستعيد فتح الحساب، حسابهم، الذي لا، ولن يسقط بالتقادم. فأن يري العالم ( الجمعة 25/6/2010) صورا كهذه لهذا الدكتاتور، الذي لم يدر بخلده، ولا بخلد غيره، أن يكون مصير تمثاله هذا المصير "الرمزي/ المعنوي الدلالة".

بوصول ستالين للسلطة في عام 1929، عمل على إبادة المتعاملين مع الأعداء من أعضاء اللجنة المركزية البلشفية وأعقبها بإبادة كل من يعتنق فكر مغاير لفكره هو، أو من يشك ستالين بمعارضته للشيوعية والتطبيق الصارم للاشتراكية. تفاوتت الأحكام الصادرة لمعارضي فكر ستالين فتارة ينفي العملاء والخونة إلى معسكرات الأعمال الشاقة، وتارة يزجّ بالأعداء الداخليين في السجون، وأخرى يتم إعدامهم فيها. بل ولجأ ستالين لنهج الاغتيالات السياسية. تم قتل الآلاف من الأعداء الطبقيين للعمال السوفييت وزج آلاف آخرين في السجون لمجرد الشك في معارضتهم للاشتراكية أو السماع بتعاملهم مع ما سمي بـ"الثورة البيضاء" ومبادئه الأيديولوجية أو حتى الشك بتعاونهم مع قوى خارجية مناهضة للاشتراكية.

رتّب "ستالين" لعقد محاكمات خصومه في العاصمة موسكو لتكون قدوة لباقي المحاكم السوفييتية! لم يسلم "تروتسكي"، رفيق درب "ستالين" من سلسلة الاغتيالات الستالينية إذ طالته اليد الستالينية الحديدية في منفاه في المكسيك عام 1940 بعد أن عاش في المنفى منذ عام 1936 ولم يتبق من الحزب البلشفي غير ستالين ووزير خارجيته "مولوتوف" بعد أن أباد ستالين جميع خصومه من أعضاء اللجنة الأصلية حتى انه لم يميز بين عضو كبير، أو صغير بالحزب، كان همه الشاغل بقاء الحزب نظيفا.

بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، قام "ستالين" بترحيل مليون ونصف المليون سوفييتي (كالدواب) إلى "سيبيريا"، وجمهوريات آسيا الوسطى. وكان "السبب الرسمي": إمّا تعاونهم مع القوات النازية الغازية أو معاداتهم للمبادئ السوفييتية!. لكن السبب الحقيقي هو "إلغاء الثقل العرقي لشعب ما، وتمييع التركيبات السكانية". كما فعل أيضا "جوزيف بروز تيتيو" في الاتحاد اليوغوسلافي (بجمهورياته الست)، وكما يفعل الصهاينة، وغيرهم في العمل الحثيث علي تغيير الوضع الديموغرافي لمدينة القدس والضفة ولعموم أرض فلسطين المحتلة.

وسيقف التاريخ ملياً أمام ما تم فعله في الأمريكيتين، والقارة الأسترالية من قبل "الغزاة الأنجلوسكسون/ العرق الأبيض المختار" من إبادة بشعة للسكان الأصليين من الهنود الحمر، مع دوابهم ومزروعاتهم، حذو القذة بالقذة كما يفعل الغزاة الصهاينة/ "شعب الله المختار" في فلسطين اليوم.

وكم شهدنا عبر التاريخ، وفي العقود الأخيرة من القرن المنصرم ، وإلي الآن، من حروب ومجازر، أعداد لا تُحصي من القتلي والضحايا من الشيوخ والنساء والأطفال، من أجل "التطهير العرقي"، وإعادة الوضع إلي ما هو عليه قبل هذا" التهجير والترحيل " و"الترانسفير" القسري /ن قبل أمثال هؤلاء الطغاة، وسياساتهم التي تدفع ثمنها الشعوب، رغم كر عشرات السنين.

بعد توقيع اتفاقية عدم الاعتداء بين الإتحاد السوفييتي وألمانيا النازية بعامين، قام هتلر بغزو الإتحاد السوفييتي ولم يكن ستالين متوقعاً للغزو الألماني. فكان ستالين توّاقاً لكسب الوقت ليتسنّى له بناء ترسانته العسكرية وتطويرها إلا أن هتلر لم يترك الإتحاد السوفييتي يؤهّل نفسه عسكرياً. وتمكّن الألمان من جني الانتصارات العسكرية في بداية غزوهم للإتحاد السوفييتي نتيجة ضعف خطوط الدفاع السوفييتية الناتجة عن إعدام ستالين لكثير من جنرالات الجيش الأحمر. وتكبّد الإتحاد السوفييتي خسائر بشرية فادحة في الحرب العالمية الثانية، إذ كان الألمان يحرقون القرى السوفييتية عن بكرة أبيها، وتقدّر خسائر الإتحاد السوفييتي البشرية في الحرب العالمية الثانية من 21 إلى 28 مليون نسمة. لكن صرامة ستالين وقسوته فيما يخص الاشتراكية وقضايا الشيوعية واستبسال المقاتلين في الجيش الأحمر وقوى الأنصار أدت في النهاية إلى النصر على النازية وجيوش هتلر في التاسع من مايو/ أيار عام 1945.

في الأول من مارس 1953، وخلال مأدبة عشاء بحضور وزير الداخلية السوفييتي "بيريا" و"خوروشوف" وآخرون، تدهورت حالة ستالين الصحية ومات بعدها بأربعة أيام. تم تحنيط جثته ووضعت بجانب "لينين" في التاسع من مارس وبقيت حتى سنة 1961 عندما نُقل رفاته ودفن بالقرب من الكرملين. وها قد جاء يوم إزالة تمثاله من ميدان بمسقط رأسه في مدينة"غوري" من أعمال جورجيا.

إنها سنة الله تعالي في خلقه، يقول جل شأنه:(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر:43)، سيبقي الطغاة، والعتاة، والمستكبرين، والمستبدين والظالمين، ومن لف لفهم، ودار دورانهم، وانتهج سبيلهم..فرادي وجماعات. وسيبقي "التدافع" معهم، فرادي وجماعات:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (القرة:251)،  من العادلين، الراشدين، المؤمنين، الأحرار، المناضلين، المدافعين عن الحق والعدل والخير والسلام والكرامة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء:70).

ويبقي السؤال المصيري ـ وفق معايير بادية للعيان، لا تحتاج لمزيد من بيان ـ  للناس، فرادي وجماعات، دويلات ودول وتكتلات: إلي أي فريق ينحاز، كي يقل عدد التماثيل الأخرى؟؟.