مئوية باكثير

د. إيمان الطحاوي

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

د. إيمان الطحاوي

طبيبة و كاتبة مصرية

[email protected]

تابعت الاحتفال بمئوية الأديب علي أحمد باكثير (1910 – 1969) ، كما كنت أتابع على قناة روسيا اليوم احتفالهم  بالمئوية الثانية لأديبها (ألكسندر بوشكين) في الأيام ذاتها. و التقطت فوارق بسيطة للمراسم على الفضائيات.

بين بوشكين و باكثير: ما هي تلك الفوارق عزيزي القاريء؟

أولا: ليس لدي شعور بالدونية و لا انظر لغيري إلا بعين المتفحص للفرق فيأخذ ما يناسبه دونما انبهار مبالغ، أو انسياق مذل.

ثانيا: الأدب لا وطن له، فحري بنا أن نحتفل بأي أديب دونما حرج ما دام قدم رسالة للعالم. فهذا بوشكين ذو الأصول الأفريقية - التي تركت شعره مجعدا و شفتيه غليظتين - سميت فترة إنتاجه بالعصر الذهبي للشعر الروسي، وهو عصر التقارب بين الأدب الروسي من جهة والآداب العربية والشرقية من جهة أخرى. و باكثير العربي اليمني المصري - الإندونيسي مولدا- هو ذاته باكثير الإنسان. بل هو باكثير العالمي الذي يجب أن نلتف حول أدبه الذي يجمع، و نبتعد عن كل ما يفرق.

ثالثا: لولا تغطية قناة الجزيرة مباشر ما كنت عرفت أن هناك احتفالية بالرغم من أني تابعت لفترة موقع الأديب و الرابطة العالمية للأدب الإسلامي بين الحين و الآخر. و آخر ما أذكره هو اختلافهم عن مكان الاحتفال هل هو مصر التي عاش فيها و عاشت فيه، أم اليمن بلده و أمه الأصل، تماما كما يختلفون في أحقية مكان الدفن بالفقيد. و أضيف أن هناك تغطية من قناة الحياة (مصر)، قناة اليمن، الثقافية (السعودية). هذا لاحظته سريعا من  الميكرفونات المتواجدة على المنصة. أقيمت الاحتفالية من الأول من يونيه حتى الرابع منه.

رابعا: الاحتفال بموعد أو تاريخ الموت أو الوفاة. حيث يفضل البعض الاحتفال بذكرى الميلاد تفاؤلا لكنهم  قد يحتفلون لأيام و في نطاق محدود من الأنشطة. لكنهم يحتفلون لسنوات ببوشكين الذي ولد عام 1799م و مات عام 1837م. أما احتفالية باكثير فقد امتدت لأربعة أيام، لكنها ذخرت بالكثير من الأبحاث و القراءات النقدية المهمة. لهذا؛ فأنا اتفاءل خيرا بهذه الاحتفالية. ليس فقط لأنها عقدت في مصر التي شهدت يوما على بعض المغرضين بالمسرح ممن تجاهلوه، و ها هي تعترف به و تكفر و لو قليلا عن ذنبهم. لكن لأنني رأيت كثافة الحضور و التفافهم على غرض واحد و هو أهمية استعادة التعريف بهذا العملاق للجيل الجديد من الشباب. و لا يفوتني  أن أذكر أن باكثير سخر من القلة التي حاربته في مسرحيته(حبل الغسيل) عام 1965.

عزيزي القاريء،انطلق معك إذن في تحليل ما رأيت:

المنصة الرئيسية شملت معالي وزير الثقافة المصري. لا أعرف السبب في أنني اعتقدت أنه كان سعيدا جدا و يفتخر، لأنه بين هؤلاء الأدباء و المفكرين و في هذا الاحتفال الناجح؟ نعم هذا ما قرأته في وجهه.

كانت كلمة الشاعر فاروق شوشة مؤثرة و موجزة:

ساتخير فقط كلمته لكونها أبكتني، مع احترامي لكل من تحدث من أساتذنا و أخوتنا.

جاء في ضمن الكلمات أن باكثير قد زار غزة ( ضمن رحلة أعدها مؤتمر أدباء و كتاب فلسطين) عام 1964. و كان هناك تواصل فكري بين أدباء مصر و غزة و العالم العربي. و ذكر أن باكثير قال لأهل غزة ستأتيكم يوما قوافل الحرية. (فتأثر الحضور حينها). فبين أنه من الصدف أن في تاريخ احتفالنا بميلاده تأتي قوافل الحرية لغزة الأسيرة لكن تعترضها و تقرصن إسرائيل طريقها. أضاف أنه كان مهذبا و متواضعا إلى أقصى حد. للدرجة التي لا يجلس فيها على الكرسي إلا و ترك مساحة جالسا على طرفه كأنما يترك مكانا لآخر! (الآن ترى مدونا نشر كتابا هزيلا، أو كاتبا لرواية عديمة الفائدة، يجلس كالطاووس في الفضائيات). كما عرج على ما حيك ضده من محاولات لتقويضه من بعض المغرضين.

إجماع على ما يلي:

أن أعمال باكثير فيها الكثير من المجهول أو ما لم ينشر للآن. و جل أعماله قد نشرتها لجنة النشر للجامعيين أو ما يعرف فيما بعد لنا (مكتبة مصر). و قد أثنى حضور الاحتفالية على الأديب عبدالحميد جودة السحار و أسرته لما يقومون به من مواصلة لهذا النشر.

و أجمع أكثر من متحدث  بالحفل على إدانة ما فعلته إسرائيل.

و أجمع الحضور أيضا على أن باكثير قد غبن حقه في نهاية حياته. لكنه لم يضق بمصر، إنما هم قوم ضاق صدرهم من أدبه. و لم يترك مصر حبا لها حتى مات فيها.عند هذا الحد يقف الفارق بين احتفالنا بأدبائنا بعد موتهم إذ لم ينصفوا في حياتهم. و بين احتفال و احتفاء الغرب بأدبائهم أحياءا و أمواتا.

رسائل SMS !

الرسائل الغبية التي ظهرت و لم تقم الجزيرة مباشر بحذفها. واحد يقول إنه حضرمي بينما الآخر يرد عليه أنه ليس كذلك و يسبه. لا أعلم لماذا لم تحذفها القناة إلا إذا كانت تريد أن تقول هؤلاء هم العرب الذين يتابعون معك الاحتفالية. لهذا سأكلف نفسي عناء الكتابة عنهم لأقول لهم إن الأديب لا ينسب للبلد بل ينسب لما قدمه و هذا ليس مجال فخر أن يكون ولد هنا أو عاش هناك بينما أنتم تتقاذفون السباب بعد موته. ماذا هذب فيكم الشعر و النثر الذي قدمه؟ إنكم لا تستحقون حتى التقنيات الحديثة التي أوصلتكم لإرسال رسالة نصية بسيطة تظهر على الشاشة فتكتبون فيها كلمة طيبة. لكن فقط تردون على بعضكم البعض (أنتم عبيد  الجواري... كان جنوبيا... لا وجود لجنوب... كان حضرميا). ما هذا المستوى المتدني؟ إذا كان هذا مستوى من يتابعون الحدث حقا أم إنه شخص واحد مغرض يرسل و يرد على نفسه؟  ربما....!

هذا ينقلني بسهولة لاحتفالية روسيا بمئوية بوشكين:

هيا بنا نركز ماذا فعل هؤلاء المسئولون و ماذا فعل الشعب الروسي و المتابعون للاحتفالية. إن هناك متحف فني يحمل اسم الأديب. وعرضت الفضائية عدة مقتنيات لكتب و أوراق كتبها بيده تظهر فيها طريقته في الكتابة و رسم الشخصيات الأدبية. عرض ذلك بعناية فائقة، و كيف لا و قد نصبوه أميرا للشعراء في حياته. يحتفلون من شهور و مستمرون في عرض الموضوع معنونا: روسيا و العالم يحتفل. (وفي يوم الذكرى يفتتح متحف بوشكين أبوابه أمام جميع الزوّار. ووفقًا للتقليد المرعي ستقدم "كلمة عن بوشكين" ومن ثم سيتم تقديم حفلة فنية يشارك فيها ممثلون من مسارح موسكو والفيلهارمونيا. أمّا المسرح الموسيقي "أماديي" فسيقدم أوبرا الملحن الروسي ريمسكي-كورساكوف "موتسارت وساليري". وستكون مسرحية "حكاية الصيّاد والسمكة" العرض الاخر لتكريم ذكرى بوشكين).   

و لسان حالهم يقول: افتحوا عقولهم قليلا، لتتعلموا منا كيف تكون المتابعة.

ننتقل للنقيض: هناك تعليق قال إن قصة (وا إسلاماه) حذفت من المنهج الدراسي. بالطبع التبديل و التغيير في المناهج مهم. لكن الحذف –إن صدقت المقولة- لن يكون للتتغير.  إن من قاوموا أفكاره في آخر أيامه هم من يفعلون هذا في هذه الأيام. لأنهم لا ينتهون فكل عصر فيه دانلوب التعليم و التدريس.

نشر جميع الأعمال دفعة واحدة: هل من الممكن؟

و بالرغم من أنني لست مهمومة فقط بالأدب العربي و الإسلامي و المقاومة. حيث اقرأ في الأدب العالمي و لكتاب عرب متباينين في ميولهم. لكن هذا لا يمنعني من التصريح بأنني استشعر أن هناك يد آثمة في مصر تحاول أن تحد من نشر أدب الكبار مثل باكثير و الكيلاني و غيرهم. لمجرد أن لهم ميولا قومية عروبية أو إسلامية. و هناك خطوة رائدة إذ تنشر الآن بعض دور العرض بعضا من أعمال باكثير. لكن الناشر له حسابات أخرى مادية خاصة، و تحفظية وقائية تماشيا مع السياسات العامة. فيأتي دور الهيئات الحكومية في مثل هذه الظروف.  و لو أن هناك خطوة تحسب لدار نشر...إذ قامت بإعادة تجميع أعماله –أو المعروف منها-. و اعتقد أنها لاقت إعجابا. (ملحوظة: قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب-سلسلة الأدب لعام 2009 بإصدار أعمال الأديب الروسي دوستوفيفسكي كاملة في ستة أجزاء مطبوعة باهتمام بالغ. و إنني إذ أشكرها جزيل الشكر، فإنني اتساءل: هل ننتظر العام القادم أعمال علي أحمد باكثير و الذي يليه د نجيب الكيلاني مثلا؟ و اتساءل: ترى كم سيكون عدد أجزاء مسرحيات باكثير السبعين؟)

استراتيجية تسويق الأدب في القرن الواحد و العشرين:

إن التسويق لأدب باكثير و غيره من الأدباء العرب يحتاج لجهد فعلي و مادي، مكثف و موزع على عدة جهات. و ذلك حتى يحقق غرضه و يقبل القاريء على كاتب مات عام 1969. فإقناع شاب بأن يقرأ مسرحية أمر صعب. و أن تكون لها إسقاطات أو نزعات سياسية أمر أصعب بالنسبة لجيل غالبا ما يقرأ المجلات و أخبار الفنانين و الروايات المتبلة بالمحرمات الثلاث. كما إن نشر أعمال كاملة تحمل رسالته للعالم العربي  الآن دفعة واحد يعد مغامرة. لكن هذه المغامرة ستكون لها رسالة: (نحن نعي جيدا تاريخ قضيتنا و نعرف مطامع عدونا، بل نعرف الحل الاقتصادي لهذه الأمور). هذا ما قاله باكثير في مجموعة أعماله. إنه لم يكتف بتشريح العقلية الصهيونية بل قدم لنا أسباب الأحداث التي نقع فيها فتقع مصيبة و احتلال صهيوني وحدا تلو الآخر من هجرة اليهود حتى 1948 حتى 1967. سيكون هذا النشر في حد ذاته رسالة تقول للعالم و خاصة إسرائيل: نحن نعرف و نقدر أدباءنا. نحن نعي جيدا ما قالوه و  تأثرنا به. و لعله قد فطن لهذا فأخذ يوم بتغليف بعض الأعمال الإسقاط السياسي ثم بصياغة المسرحيات الساخرة ليتهرب من المباشرة و يوصل المعلومة بطريقة اسهل و ألطف إن صح التعبير.

باكثير الأديب الدؤوب قدوة لنا:

يكفي أن تعرف أنه أكثر أدباء جيله غزارة؛ فكتب سبعين مسرحية !! و خمس روايات و قصائد و مقالات عدة. و كان يكتبر يوميا عشر ساعات كاملة!!. إن هذا يدل على أنه امتلك همة عالية و مثابرة. عفوا عزيزي القاريء. إنني اغبطه، فإن كنت كاتبا أو موهوبا مثلي فاجعله قدوة لك من الآن.

و قامت دار نشر خاصة بطباعة مجموعة نادرة من مخطوطات باكثير لم تنشر من قبل تحت اسم ( سلسلة الأعمال المجهولة لباكثير)، و منها مسرحية (فاوست). فاوست الجديد:  كتبها باكثير عام 1967م ونشرت عام 2001     

نشرت معظم أعماله لجنة النشر للجامعيين (مكتبة مصر).  

بل إن هناك أعمال أرسلت للمطابع و لم تنشر لأسباب ما و لم تر النور على الإطلاق: (قاب قوسين، سفر الخروج الاخير، شلبية، حزام العفة، ثماني عسر جلدة،....)

و هناك كتاب (الزعيم الأوحد) الذي لم يعاد طبعه.

و قد نوع في أدبه كثيرا من الرواية للمسرح للشعر. لكنه أجاد فيهم جميعا.

بل ترجم مسرحيته (شيلوك الجديد) و هي مستوحاة من تاجر البندقية لشكسبير. و كان قد قدمها لدور نشر أجنبية فلم تنشرها له.

محاولات آثمة لإحباطه:

يقول زوج ربيبته –ابنة زوجته المصرية- الأستاذ عمر عثمان:

أما مرض القلب فقد بدأ عنده في سنواته الأخيرة، عندما أسفرت الحرب عليه في مجال المسرح عن وجهها القبيح. و بدأ قراصنة (المسرح القومي) في الستينات يسحبون البساط من تحت قدميه من خلال استلام مسرحياته، و الصمت عليها، بل أحيانا يأخذ مكافأة المسرحية ثم لا تعرض و كانوا يريدون حرقه بذلك)

(بعد هذا لن أذكر الأيادي الآثمة التي حاولت اغتياله نفسيا و أدبيا فكان شديد الحياء و الهدوء لا يفكر في المساس بأحد مما أساء إليه...)

وفاته –رحمه الله-:

ثم  يقول: ((و إذا بي أرى ملامح وجهه تتغير و هو يقول لي: اسندني يا عمر...لا إله إلا الله)).

و اخيرا، باكثير يقول لكم في اللغة العربية:

 ثمانون مليونا يباهون  كلهم                    بخير لغات الأرض والذكر شاهد

ألا كل شيء ما خلا الله باطل                   ألا كل شيء ما خلا العرب بائد

على سبيل التذييل أو التقديم الذي تأخر:

يقول باكثير أنه على يقين من أنه سيأتي يوم لتظهر أعماله كاملة. فهل تنبؤاته التاريخية و السياسية المتتالية و التي تحققت  واحدة تلو الأخرى في أعماله تكتمل اليوم؟  

المصادر:

·  ما توافر على الإنترنت من معلومات.

·  موقع الأديب علي أحمد باكثير.

·  كتاب: الصهيونية في أدب علي أحمد باكثير: الأديب و القضية - خالد جودة أحمد. الهيئة العامة للكتاب، 2008.

·  بعض أعمال الأديب.

·  قراءة في رواية سلامة القس على مدونة شيء بقلبي.