تركيا: التديّن والأسلمة وما بينهما
د. محمد نور الدين
لم تنته قضية الحجاب في تركيا بإقرار التعديل الدستوري الذي يتيح ارتداء الحجاب في الجامعات على الأقل.
فرغم توقيع رئيس الجمهورية على القانون وصدوره في الجريدة الرسمية، فإن العديد من الجامعات لا تزال تمنع المحجبات من دخول أبوابها بذريعة أنه يجب تعديل المادة 17 من ملحق قانون الجامعات. ورغم أن رئيس مجلس التعليم العالي أرسل كتاباً إلى رؤساء الجامعات لتنفيذ قانون السماح بارتداء الحجاب فإن مجلس الشورى أصدر رأياً بمنع الحجاب إلى أن تعدل المادة 17 المذكورة.
ربما ينتظر معارضو الحجاب قرار المحكمة الدستورية التي لا تزال تنظر في الطعن المقدم من المعارضة العلمانية ومن حزب الشعب الجمهوري بالذات لإبطال قانون الحجاب.
وإلى أن يصدر قرار المحكمة الدستورية سيبقى الهرج والمرج والفوضى في تطبيق القانون ما يعني أن حزب العدالة والتنمية لا يزال يواجه صعوبات في إثبات مرجعيته كسلطة سياسية وحيدة في البلاد.
وهذا يظهر أيضاً في تحدّي الهيئات القضائية في اتجاه إغلاق الأحزاب السياسية ولا سيما حزب المجتمع الديمقراطي الكردي، حيث إنه رغم تعديل قانون الأحزاب لتصعيب حظرها فإن القضاء التركي لا يزال يجد نوافذ يدخل منها لعرقلة عملية تطبيع الأوضاع السياسية.
وفي الواقع لا تزال قلة في تركيا تحاول السير بعكس التيار بل الإرادة الشعبية.
وتنتشر في هذه المرحلة الكتابات التي تحذّر من انتشار المظاهر الإسلامية في المجتمع التركي في محاولة للتشكيك بنوايا حزب العدالة والتنمية وبخطابه العلماني الذي يريد حماية الحريات الفردية والجماعية الدينية وغير الدينية.
وقد لفت في هذا الإطار ما عرضه الكاتب التركي محمد علي بيراند في صحيفة حرييت من تعداد لمظاهر التدين المتزايدة في المجتمع التركي.
فعلى صعيد الكلام اليومي بين الناس يقول بيراند إن الناس تكثر في أحاديثها من المفردات العربية وتقتبس الكثير من الآيات القرآنية. ويغلب على خطابات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان هذا النوع من اللغة الدينية.
وتبدو أيضاً لغة الجسم بارزة في السلوك اليومي. فمن قبل كان إذا التقى شخصان من جنسين مختلفين يتبادلان القبلات بصورة عادية وعفوية، أما اليوم فإن امتناع المرأة عن التسليم باليد ينتشر بسرعة وغالباً ما يكون تسليم الرجل عبر وضع يده على قلبه أو حتى هزّ رأسه كإشارة على المصافحة مع امرأة. وهذا لا يسري فقط على مناصري حزب العدالة والتنمية بل كذلك على مؤيدي حزب الحركة القومية.
كذلك بدأت بالاختفاء المشروبات الكحولية في المطاعم والمقاهي وإذا كان أحد يريد شرب ذلك فعن طريق طلبها من النادل وليس عبر وجودها تلقائياً على الطاولة كما كان سابقاً. فيما يغلب على المشروبات تناول عصير الفاكهة أو العيران (اللبن).
وتأثرت الملابس أيضاً بالحالة الإسلامية حيث تكثر مرتديات الثياب الشرعية والمعاطف الطويلة.
وتتكاثر الفنادق والمسابح والشواطئ المخصصة للنساء كما تحظى صلوات الجمعة بحضور جماهيري لم تشهده سابقاً حتى من قبل من لم يكن يقصد الجوامع من قبل للصلاة وليس فقط من قبل الجيل الجديد. كما ينتظر الناس قدوم شهر رمضان المبارك بفارغ الصبر.
أيضا تهتم الصحافة ووسائل الإعلام أكثر من قبل بما يحدث في العالم الإسلامي وبدأت تنتشر في الكتابات الصحفية مصطلحات ذات طابع ديني.
كما تخلق الفئات الإسلامية مصانعها وأغنياءها وموظفيها وطبقتها العاملة ومن خلفهم عائلات بكاملها تتحرك وفقاً لهذا المناخ الإسلامي.
وإلى هذه المظاهر لا تختلف استطلاعات الرأي عن الانتشار المتزايد للحالة الإسلامية حيث تؤكد أن أكثر من 75 في المائة من المجتمع التركي يؤيدون السماح بارتداء الحجاب في الجامعات ومنهم 71 يريدون إلغاء حظره حتى في المؤسسات الرسمية.
ويلفت كذلك أن 35 من قاعدة الحزب العلماني الأكثر تطرفاً أي حزب الشعب الجمهوري وخمسين في المائة من قاعدة الحزب العلماني الآخر الأقل شعبية حزب اليسار الديمقراطي يؤيدون إلغاء حظر الحجاب.
من الواضح أن المجتمع التركي يجد أمامه فرصة للتعبير عن هوية حرم منها طوال عقود من تحكم علمانية غير طبيعية. لكن الأهم برأينا أن تكون مظاهر التدين الحالية جزءاً من ترسيخ نظام قيم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تمنح «الآخر» المختلف فكرياً ودينياً ومذهبياً وعرقياً حريته الكاملة في السلوك والعقيدة والتعبير والفكر وهذه لاشك مسؤولية سلطة حزب العدالة والتنمية.
أما المتشددون من العلمانيين فربما عليهم أن يأخذوا دروساً في الفرق بين التديّن والأسلمة.