الإسلام والدولة المدنية

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

مأساة المسلمين المعاصرين ، في العالم وفي مصر خاصة ؛ أنهم ضعفاء ، وأن النخب المحسوبة عليهم ، لا تؤمن بالإسلام عقيدة ومنهجا ، فكرا وسلوكا ، دينا ودولة ، ولكنها مفتونة بالنموذج الاستعماري الصليبي في جانبه المعتم والهامشي ، فخسرت الدنيا والآخرة ، وعاشت فشلا ذريعا غير مسبوق ؛ حيث هزمت عسكريا واقتصاديا ، وحدّث ولا حرج عن الإخفاق الفاضح في بقية الميادين العلمية والتعليمية والثقافية والزراعية والتجارية والإدارية ، إن هذه النخب لم تلحق بعنب اليمن ، ولا بلح الشام ، وصارت معرّة الأمم والشعوب !

هذه النخب التي تقود مصر تكره الإسلام كراهية شديدة ، وتصاب بالارتكاريا كلما ذُكرت كلمة الإسلام أمامها ، وقد نجحت للأسف نجاحا باهرا في خدمة المؤسسة الاستعمارية الصليبية - بقصد أو دون قصد - في حربها على ما يسمى الإرهاب ، وهي في الحقيقة الحرب على الإسلام ، ويكفي أن تشاهد الأفلام والمسلسلات المصرية التي أنتجت في السنوات العشرين الماضية ، لترى صورة نمطية مكررة للمسلم الذي يرتدي غترة بيضاء ويرتدي جلبابا أبيض وله لحية كثة ، وجبهة متغضنة مظلمة ، وملامح خشنة قاسية ، ويتمتم ببعض الآيات والأدعية في الوقت الذي يمارس فيه أبشع جرائم القتل والسرقة والزنا والتناقض بين القول والسلوك . يستحيل أن تجد شخصية إسلامية طيبة في مسلسل أو فيلم من المنتجات التي ظهرت في تلك الفترة حتى اليوم ، أو تسمع صوت مؤذن أو قارئ للقرآن الكريم اللهم في سرادقات العزاء الهزلية . إن المسلم الطيب في هذه المنتجات هو الذي يحمل اسما إسلاميا فقط ، ولكنه يمضي في تقليد سلوك عامة الاستعماريين الصليبيين تقليدا صوريا لا يصل إلى جوهر سلوكهم العملي في الإنتاج والابتكار والتنظيم والإدارة والنظافة والتفوق ، إنه لا يعرف الصدق ولا العمل ولا الجدية ولا الخلق الحسن . المسلم الطيب في الأعمال الدرامية التي تنتجها النخب الحاكمة في مصر؛ هو الذي يدير ظهره للدين والعقيدة والالتزام فيرتشي ويهمل  ، ويشرب الخمر ويخصص جانبا من بيته ليكون " بارا " يخزن فيه أفخر أنواع  الشراب الحرام ومكانا لتناوله ، ثم إنه يتقلب بين أحضان النساء ويفاخر بذلك ، ولا مانع لديه من إجهاض الخائنة التي تمارس العهر معه . المسلم الطيب هو الذي يقترض بالربا من البنوك أو من الأفراد ، وهو الذي يبيع بلاده ويصادق الأعداء ويتقرب منهم ويفضلهم على إخوته ، ويرفض الجهاد لتحرير الوطن  والمقدسات من الغزاة . المسلم الطيب هو الذي يقبل بالعيش بوصفه مواطنا درجة ثانية مع أنه يمثل الأغلبية الساحقة في ظل الأقلية المستقوية بالمؤسسة الاستعمارية الصليبية ويأتمر بأمرها ، ويرضخ لشروطها . المسلم الطيب هو الذي لا يتعاطى السياسة ولا يعنيه أمر الحكم بالشورى ، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر في مجالات الاستبداد وسرقة الشعوب وقهرها ، وتمكين الأعداء منها ومن ثقافتها واقتصادها وثرواتها .المسلم الطيب هو الذي لا علاقة له بالمسجد أو الحجاب أو النقاب أو تحية الإسلام : السلام عليكم . المسلم الطيب هو الذي يقبل ما يفتي به السادة الماركسيون السابقون والليبراليون ، والعلمانيون ، والماسونيون ، والطائفيون المتمردون في شأن الإسلام والمسلمين ، والمسلم الطيب هو الذي يفك ارتباطه بالأمة العربية والإسلامية وفلسطين والقدس ومكة المكرمة .. باختصار المسلم الطيب هو الذي يذهب إلى الكباريه ولا يذهب إلى المسجد ، ولا يرفع راية الإسلام في أي مجال !

القوم يرون أن الإسلام ضد الدولة المدنية . والدولة المدنية بمفهومهم هي الدولة التي لا يكون فيها حضور للضمير الإسلامي ، والخلق الإسلامي والسلوك الإسلامي ، لأنهم يدّعون أن السياسة مدنسة ، ويسوّغون الوسيلة أيا كانت للوصول إلى الغاية ، وفقا للمذهب الميكافيللى ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، ويتساءلون وبراءة الأطفال في أعينهم كيف تضع المقدس في مواجهة المدنس ؟ ونسألهم : هل من اللازم أن تكون السياسة مدنسة وقائمة على الانتهازية ؟ ولماذا يكون الانتهازيون حكاما ، ولا يكون الشرفاء حكاما يشاركهم الشعب وفقا لمعايير الشورى والتداول ؟ 

القوم لا يقصدون أبدا أن تكون الدولة المدنية نقيض الدولة البوليسية أو الدولة العسكرية أو الدولة المستبدة الشمولية المخابراتية أو الدولة الكنسية التي يديرها البطريرك وتمنح صكوك الغفران ، وتحكم بالحرمان . إنهم يرون الدولة المدنية نقيض الإسلام وكفى ! ولو كانت تأكل لحوم بنيها وتضعهم في القيعان المظلمة إلى أجل غير مسمى، وتمنح اللصوص الكبار شرعية قانونية لنهبها وتدميرها ، وبيعها للغرباء ، كل ذلك لا يهم النخب التي تخدم الدولة الظالمة أيا كانت إلا أن تكون إسلامية الشكل والمضمون ، فهم في ظل الدولة المدنية المزعومة بمفهومهم لن يعانوا من البطالة والفراغ وضيق ذات اليد..!

القوم يعملون بدأب لاستئصال الإسلام في التعليم ، والإعلام ، والثقافة ، ويتخذون كل الوسائل الممكنة لحجب الصوت الإسلامي وإزاحته تماما ، ومنذ أعوام يجاهرون بالدعوة لإلغاء المادة الثانية من الدستور ، وهي مادة صورية لا ظل لها على أرض الواقع ، وإذا أثيرت قضية ما ؛ وعالجها بعض الناس من منظور إسلامي ، انهالت النخب عليه تقريعا وتسفيها وتحريضا بوصفه يدعو  إلى التطرف والإرهاب مع الدعوة إلى محاكمته ومصادرة آرائه ، بل وتقديمه إلى المحاكمة .فضلا عن اتهامه بالظلامية والدعوة إلى حكومة دينية تحكم بأوامر مقدسة لا تقبل النقض !

ولكن هؤلاء القوم يبلعون ألسنتهم حين يقول بابا الأرثوذكس : إنه لن ينفذ أحكام القضاء المصري المدني ، ولا يلزمه إلا الإنجيل ، ويعلن أن القساوسة الذين ينفذون أحكام القضاء سيتم شلحهم ، وأنه سيتحول إلى رجل آخر من أجل الإنجيل .. !

تأمل ما جرى بعد صدور حكم المحكمة الإدارية العليا مؤخرا ، بإلزام بابا الأرثوذكس بتزويج المطلق الذي لجأ إلى المحكمة ليتساوى بطليقته التي زوجتها المحكمة والكنيسة ، وكونت أسرة واستقرت ، ومارست حياتها الطبيعية . إن البابا يرفض هذا الحكم ويعده مخالفا للإنجيل ، وأنه لن ينفذه ، ولن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تجبره على تنفيذ هذا الحكم لأنه مخالف للإنجيل من وجهة نظره ، واقرأ بعض ما كتبته الصحف حول الموضوع .

قالت صحيفة المصري اليوم في 1/6/2010م :

" أكد البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، تمسكه برفض قرار المحكمة الإدارية بإلزام الكنيسة بإصدار تصاريح الزواج الثاني للمطلقين، وقال خلال عظته النصف شهرية بالإسكندرية مساء أمس الأول: «نحن لا يلزمنا أحد إلا تعاليم الكتاب المقدس فقط».وهدد البابا بـ«شلح» أي كاهن يقوم بتزويج شخص مطلق لعلة غير الزنى، مشددًا على ضرورة أن يكون الكاهن أمينًا على تعاليم الكتاب المقدس، وقال: «أنا طيب جدًا مع الناس الغلابة، ولكن إذا تعلق الموضوع بشيء يمس العقيدة، فسأتحول لشخص آخر».

وأوضح البابا أن الفرق بين حكم المحكمة وأحكام الكنيسة في الزواج هو أن الأول حكم مدني، والأخير تحكمه شرائع دينية، وقال: «الزواج أمر ديني بحت تحكمه قواعد دينية، ومن يقوم بعقد زواج هو رجل دين، سواء في المسيحية أو الإسلام»، مستطردا: «إذا أرادت المحكمة أن تصالحنا، فعليها إصدار قانون الأحوال الشخصية الخاص بالمسيحيين، الذي وقعت عليه جميع الكنائس، وفيه ما ينص على أنه لا طلاق إلا لعلة الزنى».

وقالت جريدة الشروق ( طبعة الإسكندرية 2/6/2010م ) :

 أكد البابا شنودة في محاضرته الأسبوعية رفضه الشديد السماح بزواج المطلقين للمرة الثانية إلا في حالات الزنا وللطرف البريء فقط، مضيفا أن لائحة 38 للأحوال الشخصية التي وضعها أعضاء المجلس الملي في ذلك الوقت باطلة، ورفضها المجمع المقدس وكل البطاركة في ذلك الوقت واللاحقين بعدهم.

وقد تبارت المواقع الطائفية بنشر بيانات لمن يسمون بمحامي الكنيسة ، ومستشاريها القانونيين من أبواق التمرد الطائفي ؛ مضمونها أنه لا توجد قوة على ظهر الأرض تستطيع إرغام الكنيسة على تنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا !

زعيم الطائفة الأرثوذكسية يرى أن تفسيره هو التفسير الصحيح للإنجيل ، وأن أحدا لن يستطيع إجباره على تنفيذ حكم القضاء المصري المدني ، مع أن هناك طوائف مسيحية أخرى ، تمثل الأغلبية الساحقة من المسيحيين في العالم – يفسر زعماؤها الإنجيل تفسيرا مغايرا ، ويسمحون بالطلاق والزواج دون مشكلات ودون قهر للمواطنين المسيحيين ، أو حرمان لهم  من تكوين أسرة طبيعية ، وفقا للفطرة الإنسانية .

الأنبا لا يدافع عن الإنجيل ، ولكنه يدافع عن تفسيره الخاص للإنجيل ، فقد سبقه باباوات صنعوا قانون 1938م ، وتحاكم به النصارى عقودا طويلا ، وتفسيرهم يختلف عن تفسير شنودة ، لأنه لصالح الناس ، ويتفق مع تفسير أغلبية الكنائس في العالم بكل طوائفه ، ولكن شنودة يتعصب لتفسيره ، ثم يبتز به السلطة الرخوة التي تسلم له بكل ما يريد ، وها هو يضع مسمارا في نعشها ، ويعلن عن نفسه سيدا لا يخضع للدولة المدنية ! ثم يحول المسألة إلى صلب العقيدة ، لكي يجيش وراءه قطعان المتعصبين المتمردين ، ويكرس الجيتو النصراني الذي يفصل الكنيسة عن المجتمع !

 إن مئات الألوف من النصارى يضطرون إلى تغيير مذهبهم ( نشأت كنيسة المقطم - مكسيموس لهذا السبب !) ، أو يذهبون إلى كنائس أخري كاثوليكية أو بروتستانتية ، أو يعتنقون الإسلام ، ثم يصرخ المتمردون : أنقذونا من الأسلمة ، والاضطهاد الإسلامي ، ويعتكف الأنبا حتى يتم تسليمه من يعتنق الإسلام من النصارى ؟ !

يزعم الأنبا أن الذي يقوم بالزواج في المسيحية والإسلام رجل دين ، ونصف الكلام صحيح ، لأن الإسلام لا يعرف شيئا اسمه رجل دين . هناك عالم دين ، والذي يقوم بتوثيق الزواج الإسلامي اسمه مأذون ، أو موظف في المحكمة أو الشهر العقاري . ثم إن الزواج الإسلامي يتعرض لإدخاله تحت مظلة النظام الكاثوليكي على يد معالي وزيرة الختان وتحديد النسل ، وذلك برفع سن زواج الفتيات( بحجة أنهن قاصرات ، وترتب على ذلك محاكمة العديد من المأذونين الشرعيين !) في مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية ، ولا يستطيع مسلم أن يحتج او يتكلم على تشريعات الوزيرة ومن يساندونها .

قارن ذلك بما يقوله الأنبا من أنه سيتحول إلى شخص آخر إذا تعلق الأمر بالعقيدة .. هل يستطيع عالم دين إسلامي أن يقول مثل قول الأنبا؟

الإجابة معروفة ، واسألوا مشايخ السلطة !

الذي يعنينا في الموضوع أن النخب التي تقود الشعب المصري المسلم البائس لم تفتح فمها بكلمة عن الدولة المدنية ، بل ابتلعت لسانها الطويل ضد الإسلام دائما ، ولم تنبس ببنت شفة ، ولم تتكلم عما فعله زعيم الأرثوذكس المتمرد الذي يتحرك بصفته رئيس دولة سوبر داخل دولة مصر العربية المسلمة المستسلمة (!) ، ولم تقل له إنك تخالف الدولة المدنية .

لقد صمت المستنيرون ، وسكتوا ، وكاتب السلطة الوحيد الذي تكلم كان صوته خافتا ، وتحدث عن روح الإنجيل ، التي تشبه روح القانون !

بالتأكيد فالقوم حين يتكلمون عن الدولة المدنية يكذبون ، لأنهم يعلمون أن الإسلام أول من أقام الدولة المدنية على ظهر الأرض التي لا تستخدم العصا الغليظة ولا تؤله الحاكم ، ولا تمنح شخصا قداسة فوق قداسة البشر ، ولا تحكم بالحرمان ولا تمنح الغفران .

إنهم كذابون وأفاقون ومنافقون ، والويل لهم من الله !

هامش :

عقب كتابة المقال أصدرت المحكمة حكما ببطلان إجراءات تنصيب البابا عام 1985 ، وأعلنت سيدة نصرانية إسلامها ونطقت بالشهادتين ، أمام المحكمة ذاتها وفي الجلسة نفسها ، بعد أن حكمت لها بالخلع من زوجها . ولعل لنا عودة إن شاء الله إلى الموضوع .