مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام
كتابات ساقطة
مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام
أ.د/
جابر قميحةبين يدي هذا المقال أحب أن أبرز حقيقة أغفلها الكثيرون وهي أنه ليس في الإسلام ولا في تاريخ المسلمين ما يسمى "بالتطرف الديني"، والصحيح هو "التطرف التديني"؛ لأن الدين في ذاته لا يعرف التطرف، إنما التطرف والغلو ينسب إلى "التدين" الذي يعني "عملية" اعتقادية وسلوكية.
والتطرف الاعتقادي أو التديني قديم، ولعل صورته الأولى تتمثل في قتل قابيل أخاه هابيل، وأوضح النماذج "للتطرف التديني" في تاريخنا الإسلامي: الخوارج الذين بلغ التطرف والغلو ببعض فرقهم إلى القول بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم، وأن سورة يوسف ليست من القرآن؛ لأنها قصة عشق، ولا يجوز ـ على حد قولهم "أن تكون قصة العشق من القرآن"(1).
ومع ذلك: حينما سئل علي بن أبي طالب عنهم: أكفارٌ هم؟ أجاب: "كادوا ... ولمّا، بل هم إخوة لنا بغوا علينا، ولهم ما لنا ما أقاموا الصلاة ..."(2). فلنتعظ بمثل هذا النهج السديد في الحكم على الآخرين من ناحية الاعتقاد بصفة خاصة(3).
***
وبين يدي هذا المقال كذلك أقول إننا لا نحجر على فكر أحد، ولكن الذي ننبه إليه هو أن على من يتصدى للفتيا، والحكم على الآخرين، وتقييم مواقفهم أن يملك "الأداة" التي تمكنه من هذا الحكم علمًا وفقهًا ولغة، وإلا كان كما قال الشاعر "كساع إلى الهيجا بغير سلاح".
وقد تصدينا من قبل لكتاب ساقط , وقفه مؤلفه "محمود أبو ريه" للهجوم الشرس الخسيس على الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
كما فضحنا – في مقال ثان- كتابًا آخر ساقطًا كتبه الطبيب "طلبة زايد" , نال فيه نيلاً فاحشًا من الصحابة والمذاهب والتابعين والأئمة المجتهدين، وكفّر فيه كل المسلمين.
وأمامنا في هذا المقال الثالث "طبيب أنف" مصري اسمه "حامد حسان" اتجه بكتابه إلى النيل المفضوح من الإسلام والتراث الإسلامي، وتفسير الآيات والأحاديث النبوية تفسيرًا ما أنزل الله به من سلطان.
واسم الكتاب "مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام" ومع طبيب الأنف المذكور آخران اشتركا معه في كتابة هذا الهراء.
حديث الذبابة..
وقبل صدور هذا الكتاب حاول "طبيب الأنف" أن يُلْقي عليه شيء من الأضواء، وذلك بإثارة مسائل مستهلكة , والخوض في أمور فرعية لا تهم المسلمين في هذا الوقت بالذات، محاولاً بذلك اكتساب لقب "مفكر إسلامي" , فبدأ يكتب في إحدى الصحف اليومية المصرية عن "حديث الذبابة" منكرًا الحديث متنًا وسندًا، وانطلق من ذلك إلى الهجوم على الصحاح وعلى رأسها صحيح البخاري.
وما زال حديث الذبابة هو السلاح المفلول الذي يشهره كل من يهاجم السنّة ورواتها، كأن السنة ليس فيها إلا حديث الذبابة، أو كان حديث الذبابة يمثل أصلاً من أصول الإسلام ,أو ركنًا من أركانه لا يصح إسلام المرء إلا به.
وكل من أوتي أثارة من علم يدرك أننا لو أسقطنا من كتب السنة ألف حديث كحديث الذبابة لبقيت السنة هي هي دون أن تفقد خطا من خطوطها التشريعية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية.
مخزن لتوريد العلم!!
وما قصدنا بهذه الإشارة إلا بيان نوعية "الاهتمامات" التي تشد الطبيب "حامد حسان" وتشغله، ولكن دعك ـ يا قارئي العزيز ـ من هذا الآن لنقف مع هذا الكتاب الغريب الذي أعتبره من أخطر كتب "التطرف الإنكاري"، بصرف النظر عن مستواه الفكري المتواضع، ومنهجه اللاعلمي في معالجة القضايا الدينية والسياسية.
والكتاب ألف في ظروف شاذة غريبة مما يسمح بطرح عشرات من التساؤلات التي يصعب ـ إن لم يستحل ـ العثور على جواب لها.
ففي سنة 1977م قُدم مجموعة من الشباب المصري للمحاكمة في محكمة عسكرية عليا بتهمة "التطرف الديني" أو ما سمي ـ آنذاك ـ بالتكفير والهجرة، ونشرت جريدة الأخبار القاهرية في 26 / 10 / 1977م أن رئيس الجماعة المتطرفة طلب من رئيس المحكمة أن يتحدث عن فكر الجماعة.
وهنا انبرى طبيب الأنف "حامد حسان" وتقدم للمحكمة قائلاً "يسعدني أن يتحدث زعيم الجماعة عن فكر جماعته حتى نثبت له أن ما تصدينا له كان فكره"(4).
وأضاف "ونحن على استعداد لدحض أي فكر آخر"(5).
ـ هكذا قال الطبيب الذي عبر عن نفسه به (نحن) .. ودون أن يعرف حقيقة هذا الفكر الآخر، وإن كان هذا الفكر يحتاج إلى تأييد أو دحض .. ودون أن ينظر الطبيب إلى مدى إمكاناته وقدراته في التصدي لهذا "الفكر الآخر" الذي ما زال في علم الغيب. وهذا نوع من الادعاء يشير إلى الأزمة الثقافية الحادة التي يعيشها هذا الطبيب، بل تعيشها مجتمعاتنا، دعك من النرجسية والتعاظم والشعور بالنقص، فالمقام لا يتسع للحديث عن كل هذه الآفات النفسية التي تدل عليها عبارة طبيب الأنف.
ملحظان مهمان..
وقبل أن نعرض لبعض ما ضمه هذا الكتاب بين دفتيه أجد لزامًا عليّ أن أُوقف القارئ على ملحظين مهمين، بل أراهما في غاية الأهمية:
الأول: أن موقفنا من هذا الكتاب لا يعني بالتبعية الموافقة على اتجاه ما يسمى "بجماعة التكفير والهجرة" وفكرها ومعتقداتها، وكذلك لا يلزم منه رفض هذا الفكر، لسبب منهجي بدهي هو أن إصدار مثل هذا لحكم ـ أعني الموافقة أو الرفض كليًا أو جزئيًا- يقتضي الاطلاع على فكر الجماعة وتعمق دراسته من مصادرها. وهذا ما لا أدعيه.
ولكنني أقرر في هذا الملحظ أنني أرفض التطرف بكل أنواعه , واستخدام القهر والقوة غير المشروعة لتحقيق الأهداف.. وهذا هو منطق الإسلام الحق الذي ندين به.
الثاني: أن الطبيب الكاتب اعتمد اعتمادًا كليًّا في مناقشة فكر الجماعة على "محاضر التحقيق" الحكومية باعترافه الكتابي الذي نشر نصه مرتين: مرة في أحشاء كتابه، ومرة على ظهر غلاف هذا الكتاب.
مصدر مرفوض منهجيًا..
والاعتماد الكلي في مناقشة فكر جماعة ـ أية جماعة ـ على محاضر التحقيق في أي مرحلة من مراحلها لا يعتد به , ويرفضه المنهج العلمي لأسباب واضحة أعتقد أنها لا تخفى على الكاتب نفسه.
وأهم هذه الأسباب:
1 ـ أنها ـ كما أشرنا من قبل ـ أقوال أو اعترافات، أيسر ما يقال عنها أنها أخذت أو انتزعت في ظروف غير عادية تحت سطوة التعذيب، وهو احتمال قوي جدًّا(6). ولو افترضنا نفي هذا الاحتمال جدلاً لبقي لنا أن نسجل أن هذه الأقوال أخذت، والمتهمون لا يتمتعون بجو الحرية والطمأنينة الذي يسمح لأمثال هؤلاء بقول كل ما يريدون ومن ثم يصدق على هذه الأقوال قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . وبذلك تعتبر هذه الأقوال ـ من وجهة النظر الدينية والقانونية ـ غير صالحة لأن تكون مصدرًا يعتد به للتعرف الكامل على آراء الجماعة وتضاريسها الفكرية والعقدية.
2 ـ وحتى في نطاق هذه الأقوال نجد الطبيب حامد حسان اعتمد على مبدأ "الانتقاء" من هذه الأقوال، ولم ينظر إلى هذه الأقوال نظرة شمولية فاحصة، بل انتقى منها ما يتفق مع هواه في حدود صفحات قليلة جدًّا، مع أن التحقيق يبلغ آلاف الصفحات.
ويل للمصلين ..!!
وأكثر من ذلك نجده يقطع السياق، ويسقط منه ما يشاء على طريقة "ويل للمصلين"، مما يدخل في نطاق ما يسميه رجال القانون "التزوير بالترك" . ولنضرب مثالاً واحدًا لهذا النهج الغريب:
ينكر "طبيب الأنف" على الشيخ سيد سابق أنه أورد الحكم التالي في كتاب "فقه السنة":
"ترْك الصلاة جحودًا بها، وإنكارا لها خروج على ملة الإسلام بإجماع المسلمين، أما من تركها مع إيمانه بها واعتقاده فرضيتها ولكن تركها تكاسلاً أو تشاغلاً عنها بما يعد في الشرع عذرًا، فقد صرحت الأحديث بكفره ووجوب قتله".
وأستطيع أن أقول إن طبيب الأنف لم يفهم منهج الشيخ سيد سابق في كتابه "فقه السنة"، أو فهمه وأغفله عن عمد.
وأساس ها المنهج وجوهره يتلخص في عرض الآراء الفقهية المختلفة في تنسيق وتبسيط شديد، وكل رأي من هذه الآراء مصحوب بأدلته النقلية والعقلية، ولكي يوهم الطبيب القراء بأن هذا الرأي هو رأي الشيخ سيد سابق لجأ إلى وسيلتين:
الأولى: عدم نسبة هذا الرأي لأصحابه، وإغفال الأدلة التي ساقها الشيخ سيد لتأييد هذا الحكم، وكلها أحاديث صحيحة وردت في الكتب الصحاح(7).
والثانية: أنه أسقط "الرأي الآخر" الذي أورده سيد سابق، وفيه يقول بالنص "... ولكن كثيرًا من علماء السلف والخلف منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب، فإن لم يتب قتل حدًا عند مالك والشافعي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: لا يقتل، بل يعزر، ويحبس حتى يصلي، وحملوا أحاديث التكفير على الجاحد، أو المستحل للترك"(8).
ويورد سيد سابق مناظرة في تارك الصلاة بين الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ قال الشافعي: يا أحمد، أتقول إنه يكفر؟
قال نعم.
قال الشافعي: فبم يسلم؟
قال أحمد: يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال الشافعي: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه.
قال أحمد: يُسْلم بأن يصلي.
قال الشافعي: فصلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم له بالإسلام بها.
فسكت الإمام أحمد رحمهما الله(9).
ولكن طبيب الأنف ـ كما قلت ـ أسقط أدلة الحكم الأول، ولم ينسبه إلى الفقهاء الذين قالوا به، كما أسقط الحكم الثاني وأدلته. ليخلص من ذلك إلى الإيهام بأن هناك من الفقهاء المعاصرين ـ أمثال الشيخ سيد سابق ـ من يكفرون الناس ويستبيحون دماءهم.. ومثل هذه الآراء تخلق جوًا يسمح بظهور الجماعات الدينية المتطرفة.
التفسير بالهوى ...
وأخطر من كل أولئك أن يتصدى "طبيب الأنف" لتفسير كتاب الله وسنة رسوله تفسيرا لا يتفق لا مع الدين , ولا مع اللغة , ولا مع الحد الأدنى من العقل. والأمثلة كثيرة جدًّا في تضاعيف كتاب طبيب الأنف، وأجتزئ منها بمثالين فقط: مثال من القرآن وآخر من السنة.
من أقول جماعة التكفير والهجرة "نتحدى أن توجد آية واحدة قطعية الدلالة على إثبات أن الله قد سمى المسلم فاسقًا ولو مرة واحدة"(10).
وفي مجال الرد على هذا التحدي يستدل الطبيب حامد حسان بقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزيَ الفاسقين ) [الحشر: 5].
ويقول بالحرف الواحد "وكما هو معلوم فلفظ (الفاسقين) في الآية يشير إلى بعض المسلمين الذين اعتمل في صدورهم التردد في تنفيذ أمر الرسول بقطع اللينة (النخلة) أو تركها فوصفت هذه الآية هذا النفر المسلمين بالفسق"(11).
والمعروف أن هناك إجماعًا على أن هذه الآية نزلت لما حاصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بني قريظة وأمر بقطع نخيلهم إهانة لهم، وإرعابًا لقلوبهم، فبعث بنو قريظة يقولون لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟!!" فأنزل الله هذه الآية الكريمة ليقرر أن قطع النخل أو ترك القطع فيهما إخزاء للفاسقين أي اليهود.
فالقطع يغيظهم لأنه يجلب عليهم الخسارة، والترك كذلك إخزاء . وعلى ذلك إجماع من كل المسلمين، والمقصود بالفاسقين اليهود بإجماع المفسرين لم يشذ عنهم أحد بقدر علمنا(12).
وإن من أوتي فهم اللغة العربية وتذوق سياقاتها وبلاغتها يجل البيان القرآني عن أن يصف فئة من المسلمين في هذه الآية بالفسق .
ويفتري على السنة أيضًا..
أما السنة فموقفه منها أعجب وأغرب.. ولننظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
إن الطبيب حامد حسان يفسر هذا الحديث على النحو التالي ـ من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده: "أي من رأى منكم منكرًا من نفسه هو فليغيره بيده فهو المسئول عن سلوكه؛ لأن كل إنسان قد أعطاه الله الإرادة والقدرة على تغيير ما يصدر منه من منكر..
ـ فإن لم يستطع فبلسانه: "أي فإن لم يستطع الإنسان أن يغير ما في نفسه بإرادته وقدرته، بالهمة الواجبة ودون تراخ فإن عليه أن يقف كابحا جماح نفسه، ليدور ذلك الحوار الداخلي الذي يذكر فيه الإنسان نفسه بعاقبة المعاصي.
ـ فإن لم يستطع فبقلبه "أي فإن لم يستطع الإنسان أن يردع نفسه بإرادته وقدرته، ولا حتى بلسان الحجة، وكانت النتيجة أن ظل على هذا المنكر، فإن ذلك يكون دليلاً على ضعف إيمانه ووجود المرض في قلبه، أي أن المنكر قد استقر بقلبه وهذا أضعف درجات الإيمان"(13).
ومن حق القارئ أن يضحك في مرارة من هذا التفسير، أو هذه السذاجة اللاعلمية التي ابتعدت بالطبيب "الفقية عن منطق العقل والدين واللغة:
فالمعروف بداهة من قواعد التفسير أن النص يؤخذ بظاهره ولا يؤول، ولا يخرج به عن هذا الظاهر، ما لم يكن ثمة مسوغ قوي لذلك. والحديث يجزم بأنه لا مسوغ لمثل هذا الخروج.
ومن ثم لا يستقيم تفسير "الرؤية" بالإحساس والشعور النفسي، بحيث يكون التغيير في نطاق "الذات" لأن الرؤية لغة تقتضي طرفين: رائيًا ومرئيًا.. ناظرًا ومنظورًا.
ولو سايرنا الكاتب في تفسير اليد بالإرادة والقدرة النفسية، فمن حقنا بعد ذلك أن نتساءل: ما قيمة اللسان في "الحوار الداخلي" أو في لوم الإنسان نفسه إذا أتت منكرًا؟ إن "الحوار الداخلي" أو "المحاسبة الذاتية" لا تحتاج إلى لسان يا سيدي الطبيب.
والعجيب كذلك أن "الطبيب حامد" جعل تغيير المنكر على درجتين فقط:
تغيير باليد، وتغيير باللسان، وصرف الدرجة الثالثة للمنكر ذاته فيكون تفسيره على النحو الآتي: من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه (وهاتان الدرجتان في دائرة الذات) فإن لم يستطع تحقيق هاتين الدرجتين: فالمنكر (قائم) بقلبه. وهذا يدل على أضعف درجات الإيمان على حد قوله.
ولست أدري كيف يكون "استقرار" المنكر في القلب درجة من درجات الإيمان؟ وكيف يستقيم هذا التفسير مع البلاغة النبوية فكرًا وأسلوبًا؟
التفسير السديد..
والتفسير السديد للحديث يدركه أي إنسان مهما كان حظه من المعرفة. ويظهر ذلك في ضوء المثال العملي التالي: إذا هم بعض الشباب بخطف فتاة في سيارتهم في الطريق العام (وهي جريمة تحدث كثيرًا للأسف في بعض العواصم العربية) فموقف المسلم حينئذ واحد من ثلاثة مواقف هي:
1 ـ أن يخلص الفتاة من أيديهم بيده وقوته، حتى لو ناله بعض الضرر.. وهذا الموقف - ولا شك- يمثل أعلى درجات التغيير.
2 ـ أن يحاول منع الجريمة بإرشاد الشباب إلى فظاعة عملهم هذا وحرمته، أو يستنجد بالناس أو الشرطة لتخليصها وهذا هو التغيير باللسان.
3 ـ أن يعجز المسلم عن الموقفين السابقين لسبب ذاتي كمرض يمنعه من السعي أو النطق ـ مع رؤيته المنكر ـ أو محاولة الخاطفين قتله أو قتل أحد أبنائه أو ما شابه ذلك، فعلى المسلم في هذه الحال استشعار الغضب والنقمة على هذا المنكر وكراهيته والتقزز منه.
وهذه المرتبة تأتي في الدرجة الثالثة من المرتبتين السابقتين، لذلك عبر عنها الحديث بأنها "أضعف الإيمان".
وهذا الحكم لا يعني انعدام قيمتها وإلا ما جعلها الحديث مرتبة، ثم إن "الضعف" هنا نسبي، أي بالقياس إلى المرتبتين السابقتين فأعلى المراتب التغيير باليد وأوسطها التغيير باللسان وأدناها التغيير بالقلب.
ولكن: هل استشعار الكراهية للمنكر, والغضب والنقمة عليه يعد "تغييرًا" ؟ أقول نعم: وهذا ما لم يدركه "طبيب الأنف".
فهذا الشعور في ذاته ـ كما تقول الدكتوره نيفين عبد الخالق - "يشكل طاقة كامنة للتغيير يمكن أن تبزغ فجأة إذا وجدت الاستطاعة"(14).
وتبلور مثل هذا الشعور إذا اتسعت قاعدة المشتركين فيه يصنع ما يسمى "بالرأي العام" وهو من الناحية الواقعية المنطلق إلى التغيير الفعلي الحقيقي.
أهو إسلام جديد؟!!
وكأني بطبيب الأنف يحرص بكتابه هذا أن يطرح علينا إسلامًا جديدًا معزولاً عن الحياة في السياسة، والحكم والمجتمع.
ومن ثم حاول أن يطوّع الآيات والأحاديث تبعًا لما يريد ويحرص، وأختم قولي فيه بتفسيره "المدهش جدًّا"، للحكم بما أنزل الله . يقول طبيب الأنف بالحرف الواحد ".. معنى الحكم بما أنزل الله ليس له علاقة بالحكم أو السلطة، وإنما يتعلق بحكم الإنسان على نفسه في كل أمر من أمور حياته، بحيث يأتمر بما أمر الله به، وينتهي عما نهى عنه، فيما أنزله الله تعالى في القرآن والسنة"(15).
وهذا الهراء يلحق بسابقه، فهو يدور في نفس الفلك هشاشة وسقوطًا، حقًا (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج 46
الهوامش والمراجع
1 ـ الشهرستاني: الملل والنحل: 1/128 طـ2، بيروت 1975م.
هذا ومن عجب أن الذين يتحدثون عما يسمونه بالتطرف الديني ويكفرون أصحابه، لم نجد واحدًا منهم يتحدث عما يمكن أن نسميه "بالتطرف اللاديني" أو "التطرف الإنكاري" الذي نجده عند غلاة العلمانيين.
2 ـ انظر السابق 1 / 192.
3 ـ للمرحوم الإمام حسن الهضيبي كتاب قيم جدًّا في هذا الموضوع بعنوان "دعاة لا قضاة".
4 ـ ربما قصد الطبيب أن هذا الفكر الذي تعتنقه الجماعة هو فكر رئيس الجماعة نفسه وليس فكرًا ينهل من معين الإسلام كما يقول رئيس الجماعة شكري مصطفى.
5 ـ يذكرني هذا بما تكتبه بعض المحال والمطاعم في إعلاناتها وفواتيرها من أن "المحل مستعد لتوريد الطلبات إلى المنازل".
6 ـ يؤيد هذا الاحتمال تقديم عدد كبير من ضباط الشرطة للمحاكمة بتهمة التعذيب، وقد أدين كثير وصدرت ضدهم أحكام، وإن كان ذلك بعد سنوات في قضايا مشابهة تتعلق بالجماعات الدينية.
7 ـ انظر "فقه السنة" 1 / 80 (دار الفكر بيروت ـ 1977م).
8 ـ فقه السنة 1 / 82.
9 ـ فقه السنة 1 / 82.
10 ـ ص 1360 من التحقيقات (كما أورد حسان في كتابه ص 33).
11 ـ حامد حسان: "مواجهة الفكر المتطرف في الإسلام" 34 طـ2 القاهرة 1980م.
12 ـ انظر الفخر الرازي 8 / 124 .. والقرطبي 8 / 6489 والكشاف 4 /81 والجلالين 463. ومختصر تفسير ابن كثير 3 / 471 والصابوني في صفوة التفاسير 3 / 349 وسيد قطب: في ظلال القرآن 6 / 3523.
13 ـ حامد حسان 110 ـ 111.
14 ـ المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي 129 (مكتبة الملك فيصل. القاهرة. 1985م).
وانظر: جابر قميحة: المعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق 44 ـ 47. (دار الجلاء القاهرة 1988م)
15 ـ حامد حسان: 117.