خبرٌ عابر
أسوأ من الخيانة !
بسام الهلسه
*خبرعابر بثته احدى الفضائيات العربية قبل ايام لمراسلها في استانبول..
لم يأتِ الخبر ضمن النشرات الاخبارية الرئيسة, ولا في اطار ندوة او لقاء حواري, بل ورد في سياق التقارير الموجزة والقصص الاخبارية القصيرة التي يعدها مراسلو القناة الفضائية.
لو كنا في زمن عربي آخر يهتم بشؤون الامة واحوالها, لكان الخبر قد حظي بما يسميه الاعلاميون: المتابعة, اي: ملاحقة الخبر وتسليط الاضواء عليه بما يستحقه من اهمية.
لكن الخبر مر سريعا في ثنايا اخبار اخرى في آخر النشرة. وجرى بثه في وقت لا يحظى بنسبة مشاهدة عالية.
* * *
واضح ان الخبر ليس مهما في سياسة وعرف ادارة القناة الفضائية ومديري ومحرري برامجها.
فلو كان مهما, لتسابقت الفضائيات العربية الاخرى ـ ومعها وسائط الاعلام المرئية, والمسموعة, والمقروءة, والالكترونيةـ الى الحصول عليه وتقديمه لجمهورها.
لكن هذا لم يحدث, وظل الخبر عابرا..
* * *
- لماذا؟
لا يحتاج الامر الى شرح وتوضيح بالنسبة لنا ولمن يعرف اننا نعيش في الزمن العربي الردىء. ففي الازمنة الرديئة يتدنى الوعي العام للبشر, فتنحصر اهتمامات اغلبيتهم الفقيرة بتلبية حاجاتها الاولية, وتنصرف اهتمامات اغلبيتهم الغنية الى اشباع ملذاتها ولهوها وتسلياتها.
اما مؤسسات التواصل مع الرأي العام, فينحط دورها الى مستوى مخاطبة الغرائز واثارتها, سعيا وراء توسيع قاعدتها الجماهيرية, إن كانت مملوكة للقطاع الخاص, او تنهمك في الدعاية للمسؤولين وترويجهم, إن كانت مملوكة للحكومات.
* * *
ولأننا في زمن رديء بائس, فربما تقتضينا الحال ان نشكر القناة الفضائية التي فطنت للخبر دون غيرها, فأوردته على اية حال.
وإلا, فمن ذا الذي يهتم لحال اللغة العربية التي قال الخبر انها تنتشر في تركيا, وان الشباب والشابات الاتراك يقبلون على تعلمها بحماسة لافتة, بعد عقود طويلة من حظر اتاتورك لها ومنع الكتابة بحروفها؟
- وما شأننا بهذا الموضوع الذي يخص الاتراك وحدهم؟
- أو لا نفعل نحن مثلهم, فنتعلم لغات اخرى؟
-
* * *
في مثل هذه المحاججات تكمن المسألة والمشكلة.
فلو ان اقبالنا على اللغات الاخرى جاء من باب الاستزادة في التعلم, لكان مفهوما ومطلوبا وواجبا.
اما ان يترافق مع هجر لغتنا الام, فهو مرفوض لأنه يدل على نظرة دونية للذات, وعلى شعور بالنقص تجاه الآخرين الذين نظن اننا نتماهى معهم حينما نتخاطب بلغاتهم فيما بيننا. وهذا افصاح عن عمق نفاذ التبعية الثقافية وتغلغلها في عقولنا ومشاعرنا بما يهدد شخصيتنا الحضارية. فالعالمية لا تعني الذوبان في الآخرين, بل تعني الحضور معهم ومشاركتهم الشؤون الانسانية العامة, بذاتنا المستقلة المتفردة. والاستلاب اللغوي لا يقل خطورة عن انواع واشكال الاستلاب والتبعية الالحاقية الاخرى التي نعانيها: السياسية والاقتصادية والمعرفية والامنية...
وتزيد الخطورة مع ادراكنا للدور المتميز الذي قامت وتقوم به اللغة العربية في بناء الشخصية العربية منذ العهد الجاهلي. وهو الدور الذي عززه وطوره القرآن الكريم الذي جاء بلسان العرب. وفي ضوء واقع التجزؤ والانقسام العربي الحالي, لا يخفى على احد مدى الدور الذي تنهض به اللغة العربية في حفظ هوية الامة وتواصلها. ولندرك اكثر اهمية هذا الدور, فلنتخيل ما تكون عليه حال العرب لو تم اقصاء اللغة العربية لتحل محلها لغات اجنبية او محكيات محلية في اقطارهم المختلفة.
* * *
الدفاع عن اللغة العربية وتعليمها وتعميمها, والانتاج, والتعبير, والتخاطب بها, هو مهمة ملحة يجب ان تأخذ حقها ومكانها من الاهتمام, في المجال العربي العام, وفي مجال كل دولة عربية.
اما هجرها وتركها فريسة للاستباحة واجتياح اللغات الاخرى, فهو اهمال..
لكنه اهمال من ذلك النوع الذي قال عنه القائد الفرنسي شارل ديغول: أسوأ من الخيانة.