مُنزَلَق (المصلحة) ... بين (الميكافيللية) و (الذرائعيّة)
مُنزَلَق (المصلحة) ...
بين (الميكافيللية) و (الذرائعيّة)
راسم المرواني
العراق / عاصمة العالم المحتلة
في مقدمة الشروع بدرس (كفاية الأصول) الذي كان السيد الولي الشهيد (محمد محمد صادق الصدر) يلقيه على طلبته (قبل استشهاده) – وقبل عزوف (بعض) طلبته عن الدرس (بذرائع) دنيوية صرفة - لفت انتباهي إشارته الى مسألة الإختلاف بـ (التعريفات) ، حيث يقول (رحمه الله) :-
((الأشياء تكتسب تعريفات باختلاف الأغراض منها ، من قبيل أننا نعرف الموت (طبياً) على أنه :- وقوف الفعاليات الجسدية كوقوف القلب والدم والمخ ، لأن الهدف من الطب هو هذا ، ونعرف الموت (متشرعياً) بأنه :- خروج الروح من الجسد ، أو نعرف الموت (اجتماعياً) على أنه :- زوال الفرد عن ساحة المجتمع ،،، وهكذا ، يكتسب كل موضوع بعينه ، وكل مقهوم ، وكل شئ ، تعريفاً باختلاف المقاصد)) ... اِنتهى كلام السيد الشهيد .
وهذه التفاتة جميلة وواعية منه رحمه الله ، وتمتلك من الأبعاد ما يمكن أن تحصننا من الكثير من (المنـزلقات) ، وتنبهنا الى الكثير من (الكلاوات الشرعية) التي يمكن بها التقافز على الثابت ، وبنفس الوقت ، فهذه المقولة تشيرنا وتنبهنا وتحذرنا من (نسبية) التعاريف أو (التعريفات) على وفق الفهوم المتعلقة بالأغراض والمقاصد ، وأخطرها الوفق المسنى بـ (المصلحة) ، لأن المصلحة لا تخرج عن دائرة (المقاصد والغايات والأغراض).
إن أحد مشاكل العلم والعالم - الآن - تكمن في اختلاف (التعاريف) والتي ينشأ عنها الفهم الصحيح أو المخطئ وحتى (الخاطئ) للمواضيع ومصطلحاتها ، وهذا ليس حصراً على حقول العلم المختبرية ، بل هو ممتد إلى السياسة والاقتصاد والفلسفة والعلوم الإنسانية ، وحتى علم الفقه والأصول وعلوم الدين وبعض مصطلحات (التدين) ، لأن (التعريف) هو المنطلق الأساسي لفهم (الموضوع) والمحمول والتعامل معهما .
فللعولمة تعريفاتها ، وللإرهاب تعاريفه ، وللدين ، وللفكر ، ولفائض القيمة ، وللحرية ، وللقانون ، وللسيادة ، وللسوق ، وللمليشيات ، وللعمالة ، وللمرض ، ولكل شئ تعاريف متعددة – حسب الغايات والمقاصد - حتى على صعيد العلوم المختبرية والتي من المفترض أنها (متفق) عليها علمياً .
وعبارة (الولي الشهيد) أعلاه ، إنما جاءت تحذيراً من (نسبية) التعريف التي يمكن أن تشتت وعي القارئ أو المتلقي ، وتشتت الطرق المفترضة والجاهزة لديه في التعامل مع المصطلح أو التعريف حسب الإسقاط المعرفي أو المزاجي للشخص الواحد ، وحسب (اللحاظات) التي يبتني عليها الموضوع نفسه .
بل ربما حتى داخل (الموضوع الواحد) يمكن أن نجد عدة تعاريف ، وهنا نستميح (المولى المقدس) عذراً أن نضيف لما قاله في معرض شرحه عن تعريف الموت ما يؤكد مقولته (رحمه الله) ، فنقول :- وحتى بالنسبة للطب نفسه ، فقد قسم الموت الى موتين ، هما (الموت السريري) الذي يعني توقف الأعضاء عن الحركة والنشاط ، و (الموت الخلوي) الذي يعني توقف (الخلايا) عن نشاطها البايولوجي المتمثل بـ (الفعاليات الحيوية) .
إن تغير التعاريف على وفق (الغايات والمقاصد) يمكن أن نجده حتى في مسألة التعامل مع المرئي وتعريفه ، فهناك مجموعة من (الإسقاطات) لدى المتلقي تتأثر بالزمان والمكان ، وكما يقول جان جاك روسو : - (إن اللوحة الواحدة تصور بأشكال مختلفة تبعاً لاختلاف الحالات الداخلية في نفوس الناضرين ، فتباين أوضاع الصورة من مرة لأخرى لدى الشخص نفسه ، إنما يعود للظروف التي أحاطت به) .
وعلى سبيل الإفادة من (مطاطية) التعاريف ، فإن مصطلح أو مفردة أو مفهوم (العمالة) لا يخرج من دائرة تعدد التعاريف والتفسيرات ، وبالتالي فهو خاضع لتعدد الفهوم و (الأغراض والمقاصد) ، ولكن التفسير الأكثر شيوعاً لدى البسطاء ، والأكثر (إسقاطاً) لدى الوعي الجمعي والذاكرة الجمعية عند المتلقين أنه (العمل على تحقيق مصالح القوى الخارجية) ، وهو قريب جداً من فهم البعض لمفردة (الجاسوسية) ، ولذا فغالباً ما تلحق مفردة (القوى الأجنبية) بمصطلح (العمالة) لتصبح جاهزة كالآتي :- (العمالة للقوى الأجنبية) ، وهذا فهم محدود رغم صحته وشيوعه .
ولو أننا سلمنا بهذا المعنى للعمالة لاختلطت علينا الأوراق ، ولتبعثرت الخطوات ، ولم نعد نفرق بين العمالة بمعناها السلبي أو الإيجابي ، ولم نعد نفرق بين العمالة للمعسكرين الرأسمالي والاشتراكي ، أو العمالة لإسرائيل ، أو حزب الله (لبنان) ، أو حماس أو فتح أو منظمة الجهاد الإسلامي (فلسطين) ، أو العمالة للسعودية أو إيران أو سوريا أو حتى (الأردن) ، ولانحسرت المفاهيم تحت طائلة التشظي .
ففي الوقت الذي ترى فيه بعض القوى أن (عمالتها) للمحتلين الأمريكان في العراق تمثل (تعاوناً) مبرراً ومنطقياً على وفق (المصلحة) ، وفي الوقت الذي يجد (البعض) من حاجياتهم اليومية تبريراً للتعاون مع (الصهاينة) داخل فلسطين ، يراه البعض على أنه (عمالة) ليس لها تبرير وهي خيانة للأرض والدين والعرض .
وفي الوقت الذي يعتبر البعض فيه أن التعاون مع أمريكا هو عين (العمالة) ، يرى البعض الآخر أن التعاون مع إيران هو عين (العمالة) أيضاً ، وهذا يشمل كل (عميل) أو متعاون مع دول الجوار ، أو دول (الحوار) ، أو حتى التعاون مع المخابرات (الروسية) أو (الكورية) أو (اليابانية) داخل العراق ، وليس هناك معادلة رياضية أو قانون (رياضي) يحكم الفهوم ، وليس هناك خطوط تحدد مستويات العمالة ومبرراتها أو مسوغاتها ، (وكل حزب بما لديهم فرحون) .
ورغم وجود (قانون) شرعي وأخلاقي وعرفي ، وإنساني ، يحكم على هذه المفاهيم وحدودها ونتائجها ، ويقوم بتقنينها ، ألا أن الواضح جداً أن البعض من (المتدينين) وغيرهم بدأ ينـزاح نحو (الذرائعية) تحت سلطة (المسوّغ) المبتني على حساب النتائج ، والمنطلق من بودقة (الدعم الروائي) أو (النص) أو حاكمية (العقل) ، في وقت يضع فيه (الذرائعيون المتدينون) سلطة (العقل) في المرتبة (الثالثة) بعد (الكتاب والسنة) في مسألة استنباط الحكم الشرعي ، متناسين أهمية و (حاكمية) العقل على استنباط وتفكيك وفهم (النص) من الكتاب والسنة .
ففي بعض المواطن التي يراد منها إضفاء الضبابية على (فتوى) أو توجيه ، وتسويقه بشكل (شرعي) يتقدم (العقل) على الكتاب والسنة ، ويصبح هو (الحاكم) على فهم وتحديد (المصلحة) كما يعبرون ، وهذا أشبه بالعودة الى (أهل الحل والعقد) ولكن بمصطلح جديد عنوانه (المصلحة) .
ولو أننا أخذنا مفردة العمالة بمعناها المجرد ، كالتعاون ، والتعامل ، أو المعاملة ، أو الإستثمار ، فسنجد أنها ليست مشينة بأصلها ، إلا بقدر تعلق الأمر بما تقتضيه نوع وشكل وتطلعات القوة والأجندة والبرامج التي يتم التعامل معها .
لأننا لو نظرنا إلى مسيرة التأريخ ، بل لو نظرنا لأنفسنا وحركتنا اليومية ، لوجدنا أن كل إنسان هو (عميل) لوطنه أو لعشيرته أو لحزبه أو لجهة معينة بقصد أو من دون قصد ، ويحاول أن (يجلب المنفعة) للجهة التي يتبناها أو تتبناه ، ويدفع (المفاسد) عنها .
فهناك العميل للمؤسسة الدينية ، وهناك العميل للمؤسسة الثقافية ، وهناك العميل للمؤسسة الاقتصادية ، وهناك العمالة للمؤسسة السياسية ، وهناك العمالة (المزدوجة) والعمالة المركبة وغيرها ، وعلى كل حال ، فمصطلح (العمالة) يدور في فلك (العمل) و (التعامل) و (المعاملة) ، والتي يفترض أن يحددها ويقننها (الشرع) الحقيقي ، والقانون (الإلهي) وليس (المصلحة) .
بل هناك عمالة واضحة لطرف من الأطراف داخل المؤسسة الواحدة ، كالعمالة والتجسس ونقل الأخبار لـ (مدير المؤسسة) أو (المسؤول) أو (المتنفذ إدارياً ومالياً) ، وربما من أوضح صور العمالة هو أن يتحول (العميل) الى (ذيل) وضيع ومطيع لـ (أصحاب القرار) ، ولو على حساب المبادئ والثوابت .
وإذا كانت (العمالة) تعني (تبادل المنفعة) فهناك الكثير من العمالات (المبطنة) كعمالة (وكلاء الشركات التجارية والعقارية والصناعية) الأجنبية ، أو (مروجي البضائع) ، أو (مروجي الأفكار) ، أو (ناقلي الأخبار) كالمراسلين مثلاً ، أو (حاضنات الغرباء) ، ولكن ، يبقى الحاكم الأكبر والضابط الأوضح على نوع العمالة هو الشارع المقدس والأخلاق والعرف والمفاهيم الإنسانية .
لقد أصبح مصطلح (العمالة) يُستخدم بشكل كيدي ، فحين يكون أحدهم في طرف المعادلة ، فانه يتهم كل من يقف مع الطرف الآخر من المعادلة بالعمالة ، في نفس الوقت الذي يتهمه فيه المنتمون للطرف الثاني بأنه عميل لطرف معادلته ، وهكذا تتناثر التهم (الجاهزة) .
فعملاء المعسكر (الرأسمالي) يتهمون أعدائهم (الصوريين) القدامى بالعمالة للمعسكر الإشتراكي ، وعملاء (التطرف) يتهمون غيرهم بـ (العمالة للشيطان) ، والمسلمون العرب الشيعة متهمون بالعمالة لإيران ، والأكراد متهمون بالعمالة لأمريكا ، والعرب المسلمون السنـّة متهمون بالعمالة الى (السعودية أو سوريا أو الأردن أو الكويت) و (التركمان) متهمون بالعمالة لتركيا ، وهكذا تساق التهم وتطلق (التعريفات) بشكل (جمعي) ودون (تبعيض) لرغبة دفينة في نفوس البعض ، ولغاية يراد منها إسقاط (الآخر) ، وهذا هو الخضوع (السلبي) لعملية (الإسقاطات) الذوقية والمزاجية ، وهي قريبة – كمصداق – لمقولة (جان جاك روسو) التي أوردناها أعلاه .
ويمكن أن نفهم بأن القرآن الكريم قد أشار الى أهمية (الإسقاطات) في الفهم ، وأخذها بنظر الإعتبار ، من خلال (سورة الفتح) المباركة ، حين قال جل من قائل :- (إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ) .
ولأننا نؤمن بعصمة الأنبياء ، ولأننا نؤمن بأنهم منـزهزن عن (الذنب) صغيره وكبيره ، ولأننا نقر بأنهم لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم ، ولأننا نؤمن بأن القرآن يقر بـ (عصمة) النبي ، فسنجد أنفسنا أمام نص قرآني لا يمكن تفسيره إلا بكونه يقر بوجود (الإسقاطات) لدى الطرف الآخر .
فقريش ترى النبي (مذنباُ) ، ذلك لأنه قوّض سلطانها ، وسفـّه أحلامها ، وقريش ترى الرسول (مذنباً) و (عميلاً) لليهود ، لأنه أكد حلم اليهود ونبوئتهم التي كانوا بها (يستفتحون) على قريش بظهور (محمد) الذي سيكسر شوكة قريش والمشركين ، بل ويعتبرونه (ص) عميلاً لليهود حين حالفهم إبان غزواته الأولى .
وكذلك اليهود يعتبرون (محمداً) مذنباً لأنه قوّض مؤسساتهم المالية الربوية ، وهدم (برجوازيتهم) داخل مجتمع مكة والجزيرة العربية ، والعرب يعتبرونه (صلى الله عليه وآله) مذنباً ، وأبناء عمومته يعتبرونه مذنباً ، بل وحتى أقرب الناس إليه كان يعتبره (مذنباً) لأنه سفه أحلام كبرائهم وهد كبريائهم .
وبذا ، يكون رسول الله (ص) مذنباً حسب (إسقاطات) الجهات والفئات التي كان رسول الله سبباً في تقويض مصالحها الدينية والإقتصادية والسياسية وغيرها .
ولذا فـ (التصريح) القرآني الذي يقول :- (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ) ، هو في حقيقته (تلميح) لا يمكن أن يكون معناه إلاّ منطلقاً عن وعد إلهي لرسوله بأنه سـ (يغفر) أي (ينـزع) أو يمحو عن صدور من يرون رسول الله (مذنباً) كل أنواع (الغل القديم) ، بل وسينـزع عن قلوبهم الغل (الجديد) المحتمل ، الذي سينشأ عن أساليب الإصلاح والتغيير التي سيحدثها رسول الله في المجتمع الجديد .
إن أكثر الثورات في العالم تحتاج إلى الدعم ، وتحتاج إلى الاتكاء على مصادر التمويل ، ذلك لأن أغلب الثورات تنشأ من أوساط الفقراء والمعدمين ، ربما لأن (الفقراء) مكلفون – وراثياًً - بالقيام بالثورات ، ليجني الإنتهازيون ثمارها فيما بعد ، بل حتى الدين الإسلامي على عظمته ، ما كان ليقوم إلاّ (بسيف علي ، وأموال خديجة ، وصبر محمد ، وحماية أبي طالب).
وعليه ، نجد أنفسنا أمام مشكلة معقدة في فهم الـ (عمالة) ، فعادة تكون العمالة من (الفرد) للمؤسسة ، أو تكون من الأدنى للأعلى ، أو من (العائل) للمعيل ، أو من الأقل للأكثر ، أو من الداخل للخارج ، أو من الضعيف للقوي ، وهي هنا تعني مختلف أنواع (الدعم) ، كالدعم المادي والمعنوي والتعبوي والسياسيى والتسويقي وغيره ، وهنا سيتبادر الى أذهاننا مجموعة من الأسئلة ، أهمها ، هل كان الرسول عميلاً لخديجة حين وظف أموالها لنصرة الإسلام ؟ أم كانت هي عميلة له من خلال دعمها إياه ؟ وهل كان أبو طالب عميلاً للرسول ؟ أم كان الرسول عميلاً لأبي طالب ؟ خصوصاً وأن البعض ما زال يعتبر أن (أبا طالب) من المشركين ويعتبره خارجاً عن المؤسسة الدينية الإسلامية .
وكمثال معاصر ، نجد إن إسرائيل تتهم المقاومة الفلسطينية و حزب الله بالعمالة لإيران لقبولهم الدعم المادي والمعنوي الإيراني ، كما تتهم إيران بالعمالة للتشيع لترويج فكرة (تصدير الثورة) ، بيد أن إيران تتهم كل من يدور في فلك أمريكا وإسرائيل) بأنه عميل لهما .
وفي طرف من أطراف المعادلات نجد أن العرب يتهمون مصر بالعمالة لأمريكا ، ويتهمون (الأنظمة العربية) بالعمالة لإسرائيل ، ويعتبرون (رفرفة) العلم الإسرائيلي على بعض العواصم العربية دليلاً على العمالة ، وبعض الأنظمة العربية (المتهمة) – بفتح الهاء- تتهم الحكومة (العراقية) الحالية ، والمشاركين بالعملية السياسية في ظل الإحتلال بأنهم عملاء وموالون لأمريكا ، وإيران تتهم أمريكا بالعمالة لإسرائيل ، وحزب الله يتهم بعض القوى (اللبنانية) بالعمالة لفرنسا أو أمريكا أو إسرائيل ، وبعض القوى (اللبنانية) المتهمة بالعمالة لأجندات خارجية تتهم (حزب الله ) بالعمالة لقوى خارجية هي إيران ، وكل (مدّعي) يمتلك من الوثائق ما يثبت ادعاءه .
إن أغرب المشاهدات عن العمالة هي أن تجد بعض (حكومات) الدول العربية أو غير العربية ، تنحني بتواضع وذوبان أمام المصالح الأمريكية والمشاريع الصهيونية ، بل وتعمل جاهدة لإرضاء الساسة والشركات الأمريكية ، وتتقاسم مع أمريكا وإسرائيل توزيع المكاسب والمناصب ، بيد أنها تعتقل أحد مواطنيها بتهمة (التجسس) أو العمالة لأمريكا وإسرائيل ، بل وتتهم بعض المجموعات (المعارضة) بأنها (عميلة) ومدعومة من قبل أمريكا وإسرائيل ، في معادلة صعبة محكومة بمصطلح (المصلحة) ، هذا المصطلح (السحري) الذي يقلب المفاهيم ، ويلغي (الثوابت) ويغير (الستراتيجيات) ، ويربك (المتحركات) .
بل إن من إطلاقات مصطلح العمالة أن تجد (الشعوب المضطهدة) تطلق صفة (العميل للدولة) على الأفراد المتعاونين مع حكوماتها (المستبدة) ، وتعتبرهم بموضع الشبهة ، بل وتستهجن عملهم ، وتعتبره سبـّة أخلاقية ، وتحاسب أو تعاقب عليه بعد انفراط قوة الحكومة .
وعلى نفس المسار نجد (على سبيل المثال) أن المخابرات (الألمانية) تنظر للمواطن (العراقي) المتعاون مع أجهزة المخابرات (العراقية) على أنه (عميل للمخابرات العراقية) وبذا ، يتغير مفهوم العمالة من (الداخل للخارج) الى عمالة (داخلية) محضة ، فتتغير نسب ومؤشرات (التعاريف) على وفق الغايات والمقاصد .
ولو أننا عدنا الى الربط بين مصطلحي (العمالة) و (المصلحة) لوجدنا إن أول المتعاطين مع مصطلح (المصلحة) هم المتدينون ، بدءً برجال وعلماء الدين ، وانتهاءً باصغر طالب من طلبة العلوم الدينية ، في محاولة – زاعمة - لدفع (مفسدة) أو جلب (منفعة) بآلية دينية (مولوية) لا تقبل (الجدال) ولا (الحوار) ولا (المناقشة) ، وبطريقة يُتصوّر من خلالها بأن (رجل أو عالم الدين) هو (المتلقي) الوحيد للفيض الإلهي الذي يحدد (المصلحة) ، بيد أن الحقيقة والعقل والمنطق يشيرنا الى أن من يستحق امتلاك القدرة على تشخيص (المصلحة) هم (أهل العصمة) من الأنبياء وأوصيائهم الحقيقيين ، وكذلك أهل التخصص .
إن (الوهم) الذي يعيشه الإنسان في الحياة ، ويسلم به ، هو الذي يدفعه لقبول فكرة (المصلحة) ، ومن قبلها الرضوخ والتسليم لمصطلحات (الحكمة الإلهية) و (المشيئة الإلهية) و (إرادة الله) ، التي يستخدمها (بعض) المتدينين لقطع الطريق أمام (المشكيين) والباحثين عن الحقيقة ، أو لإلقام (الآخر) حجراً .
ولقد قامت (الصهيونية) على أسس خرافية روجتها (الكنيسة التدبيرية) إتكاءاً على التعاليم التوراتية التي تتعلق بالمشيئة والحكمة والإرادة الإلهية ، والتي تقتضي (بناء وطن قومي لليهود) في فلسطين ، والتحضير لمعركة (هرمجدون) ، ثم شقت هذه التعاليم لنفسها طريقاً معبداً ومحمياً بمصطلح (المصلحة) .
ولئن كان القس أو الحاخام أو المرجع أو الـ (ريش إمّه) أو البابا أو غيرهم من (قمم) التدين أو من هم على سفوح (التدين) يمكن أن يمتلكوا (القدرة) على (استنباط الحكم الشرعي من مصادره) فهذا ليس دليلاً (قطعياً) على امتلاكهم لملكة (القدرة) على تشخيص (المصلحة) ، ولا ملازمة بين (القدرتين) .
وإذا كانت دراسة المنطق وعلم الأصول وعلم الدراية والمكاسب وعلم اللاهوت والناسوت أو دراسة النص القرآني أو الإنجيلي أو التوراتي أو غيرها من العلوم الدينية والإنسانية يمكن أن تمنح (دارسها) كل القدرات (السياسية والإقتصادية والثقافية) وغبرها ، لأصبحت الدراسة مقتصرة على هذه العلوم ، ولأغلقت جامعات العالم أبوابها بوجه الدارسين والباحثين .
لقد اختلطت المفاهيم والتعريفات بشكل لم يعد يستطيع معه (الباحث) أن يفرق بين (المصلحة) والمذهب (الميكافيللي) ، والبراغماتية (المكسوة) باستنباط النص ، ولم يعد بوسع أحد أن يطلق تسمية (عميل) على أي (عميل) على وفق الرؤية المجتمعية ، فقد يصبح التحالف مع (الشيطان) وسيلة من وسائل (جلب المنفعة) أو (دفع المفسدة) على وفق مصطلح (المصلحة) ، بل قد تتحول (اسرائيل) أو (أمريكا) الى صديقة (باطنية) أو (ظاهرية) على وفق ما تقتضيه (المصلحة) .
وقد يكون دعم الصهيونية أو تنظيم القاعدة أو التنظيمات أو السلفية أو التكفيريين أو الإرهابيين أو دعم أمريكا أو بريطانيا أو التعاون معها أسلوباً من أساليب الحفاظ على (المصلحة) ، بما يمتلكه مصطلح (المصلحة) من مطاطية يعرفها (القائمون) على تفسيرها وتعريفها حصراً .
بيد أن الحقيقة – كما أسلفنا – تشيرنا الى أنه لا يمكن لشخص بعينه أن يعرف (المصلحة) أو يقررها أو يحددها ما لم يكن محصناً بالعصمة (الذاتية أو المكتسبة) أو الإتكاء والتعكز على (النص) ، أو يكون متكئاً على آلية (استشارة اللجان) من أهل الخبرة والإختصاص ، وبخلافه ، فسيصبح تشخيص (المصلحة) نوع من أنواع الإجتهاد (مقابل النص) ، وسيصبح محض هراء وانهيار وتردي ، بل سيصبح مصطلح (المصلحة) أشبه برصاصة (الرحمة) أو النقمة في جبين أي مشروع من المشاريع على طول العالم وعرضه .
إن نظرة واحدة الى القوى السياسية والأحزاب العلمانية والدينية والدول والحكومات في العالم تدل على أن (الميكافيللية) باتت منتشرة و(منتصرة) بأدق تفاصيلها ، وهذا ما أشرنا إليه في بداية مقالنا هذا بأن مشكلة العالم تكمن في (التعاريف) ، وبالنتيجة ، فسواء أطلقنا تسمية (المسكر) على الخمر أو النبيذ أو الفقاع ، فالقاعدة الفقهية الحاكمة تدل على أنه (محرم) وإن تعددت التسميات والتعريفات والموضوعات والمحمولات .
فالبعض – خصوصاً من المتدينين - يشتم (نيكولاي ميكافيللي) ، ويحرم قراءة كتاب (الأمير) ، في الوقت الذي ينتهج فيه حرفية ما جاء به كتاب (الأمير) ، ويغير من ستراتيجياته على وفق ما تقتضيه (المصلحة) .
ولولا أن أمير المؤمنين علي (ع) قد قال مقولته المشهورة :- ((إلهي !!! أنا ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، ولكني وجتك أهلاً للعبادة ... فعبدتك)) ، لتخيلنا أن (الميكافيللية) أو (المصلحة) أو البراغماتية قد تسللت (حتى) للعبادة والتعامل مع الله سبحانه وتعالى .