النفق السوري فوضى لإختطاف الربيع أم لبعثرة الأوراق؟
النفق السوري
فوضى لإختطاف الربيع أم لبعثرة الأوراق؟
فادي الحسيني
قد لا يختلف عربيان على أن ما ظنوا به ربيعاً قبل ما يزيد عن الثلاثة أعوام لن يأول لما آل إليه هذه الأيام، فما عاد للانتفاضات مكان، ولم يبقى لأحاديث الحريات والديمقراطية مجال، فذهبت آمال الديمقراطية أدراج الرياح، وبعد أن شوهت الدماء والمعاناة الصورة رويداً رويداً، بدى وكأن ربيعهم قد إختطف بعيداً عما كان يجب أن يكون عليه. ظهرت النصرة فداعش، فخلطت الأوراق، وأججت من جديد نظريات المؤامرة، فيما رأى آخرون أن ما كان لهذا أن يكون لولا الجهل المستشري بين شعوب العرب، وواقع الأمر هو خليط بين هذا وذاك.
لقد فرح كل عربي بسماع أخبار ثورات العرب- بإستثناء المنتفعين من الأنظمة السابقة- وتسابق في بداية الأمر الكثير من المفكرين والكتاب ليرسموا مستقبلاً متفائلاً للعرب، بعد أن ظنوا أن اللحظة التي طال إنتظارها قد جاءت أخيراً. أما الغرب، ورغم بعض التردد والإرتباك في بادئ الأمر، رحب- ولو ظاهراً- بهذه الثورات، حتى أن أشد منتقدي العرب من كتاب الغرب ظن في هذه الثورات بداية لدخول العرب في حظيرة الديمقراطية.
تغيرت المشاعر قليلاً مع الإشتباكات المسلحة في ليبيا، وتسلل القلق إلى قلوب الجميع مع تفاقم الأمور في سوريا، وبدأ المواطن العربي يتساءل هل يجب على شعوب العرب أن تعيش في هذه الويلات من أجل الحصول على الحرية والكرامة والديمقراطية؟ بل، وذهب البعض ليقبل ببقاء الأنظمة الديكتاتورية على الخوض في غمار مآسي شاهدوها عبر شاشات التلفاز في بلاد "الربيع" المفترض.
سوريا كانت ومازلت ميناء الفرقة والإلتقاء، فتارة تجمع الفرقاء، وتارات تفرق الرفقاء، حيث كشفت تباين واضح في سياسات العديد من النظم والدويلات. ففي حين كانت تصبو السعودية بشكل عام لبقاء الوضع في المنطقة على ما كان عليه قبيل الربيع المفترض (Status-Quo)، بإستثناء ليبيا وسوريا التي لم يكن يجمعها بهما (أي برؤسائهما) أية علاقة طيبة، كانت تراهن إيران وتدعم التغير الجذري الثوري في المنطقة (Revolutionary Change) أملاً في إستنساخ تجربتها في المنطقة العربية، بإستنثاء سوريا الحليف بطبيعة الحال، أما تركيا فكانت مع التغير المتدرج (Gradual Transition)، أيضاً بإستثناء سوريا التي أرادت فيها تغير جذري وإسقاط نظام بشار الأسد.
وكما كانت سوريا محل خلاف في رؤى تلك الدول، كان ظهور النصرة ومن بعدها داعش في سوريا ومن بعدها في العراق أيضاً محل خلاف بين هذه الدول وغيرها. فعلى الرغم من توافق الجميع على خطورة هذه المجموعات على مستقبل المنطقة بأسرها، إلا أنه وحتى اللحظة لم يتشكل بعد أي توافق حقيقي بشأن محاربتها بشكل جدي أو إزالتها. فبالنسبة لبعض القوى الإقليمية، إضعاف هذه المجموعات لا يعني فقط إبقاء الأسد، بل تقويته وإسترداد نفوذه في المناطق التي تسيطر عليها هذه المجموعات. قوى إقليمية أخرى ترى في إضعاف هذه المجموعات تقوية لمجموعات أخرى كحزب العمال الكردستاني و/أو الميليشيات الشيعية في هذه المناطق. قوى أخرى ترى أن إزالة هذه المجموعات سيزيل أحد أسباب لجوء دول المنطقة للقوى الكبرى في محاربتها للجماعات الجهادية. وعليه، فلم يكن من المستغرب أن نسمع عن توافق أو تحالف لبعض الدول العربية مع إسرائيل في مجابهة مخاطر متعددة لم تكن يوماً في الحسبان، فتقاطعت المصالح وغُيبت المبادئ في قضايا قومية أصيلة.
وكان ظهور نائب الرئيس الأمريكي ليكيل الإتهام لبعض الدول بدعم هذه المجموعات مفاجئاً للغاية، فهو خروج غير مألوف عن سلوك السياسة، ثم أنه قد تناسى أمراً غاية في البساطة والأهمية، وهو أن معظم القوى العالمية والإقليمية، قدمت الدعم المالي واللوجيستي والعتاد العسكري، لأي وكل مجموعة- بغض النظر عن خلفيتها- من أجل محاربة الأسد وإضعافه.
وكما كانت الولايات المتحدة الأمريكية كلمة السر وراء سخط الشعوب على حكامهم في هذا الربيع المفترض، والذين إتهموا حكامهم طويلاً بولائهم لها، ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً لتؤكد أنها تحمل العلامة الرائدة في سخط شعوب المنطقة، ففي اللحظة التي أعلنت عن بدء حملتها العسكرية ضد داعش، بدأت أعداد المتطوعين في صفوف هذه المجموعات تزداد بشكل متسارع، حيث سجل إنتساب أكثر من ستة آلاف متطوع في داعش منذ إعلان بدء عمليات القصف الجوي الأمريكي وحلفائها.
وكان في ظهور داعش السريع، وسيطرتها على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق سبباً في تأجيج الشعور بوجود مؤامرة تحاك على هذه المنطقة. وعلى الرغم من أن بعض المحللين رأوا في العمليات الجوية الأمريكية سبباً في ضحد أية إدعاءات بوجود مؤامرة، إلا أنني أجد في هذا الرد ضعفاً لأسباب عدة.
فبعيداً عن مدى دقة ما نسب في وثيقة الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA) إدوارد سنودين حيث أفاد بأن وكالة الإستخبارات الأمريكية والبريطانية إضافة إلى الموساد عملوا سوياً من أجل خلق دولة إسلامية في العراق وسوريا من أجل جذب جميع المتطرفين من بقاء الأرض، يوجد أسباب أخرى تدعو للنظر جدياً في وجود خيوط لمثل هكذا مؤامرة.
أولاً، شهد جميع المراقبين بأن الضربات الجوية على داعش لا تحقق ضرراً حقيقاً على بنية ونشاط هذا التنظيم، وكأنها عمل شكلي ترويجي ليس إلاّ، حتى أن السناتور الأمريكي جون ماكين قال لل CNN يوم السابع من أكتوبر الحالي أن تمدد داعش المستمر يؤكد على عدم فاعلية هذه الضربات. ثانياً، حمل تحرك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها المتأخر الكثير من المعاني والتي تذهب في ذات الخلاصة، فعلى الرغم من حجم الجرائم التي إرتكبت، لم يتم التحرك إلا بعد أن تضخمت هذه المجموعة بشكل كبير، وأصبحت وفق خبراء الإستخبارات "الأكبر والأخطر". ثالثاً، حتى وإن قامت الولايات المتحدة بضرب وإيذاء داعش، فإن هذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود دور أمريكي في خلق أو تمويل هذا التنظيم، ولقد قدم التاريخ لنا الكثير من الأمثلة (نورييجا بنما على سبيل المثال) والتي قامت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية بضرب وخلع حلفائها حين تضاربت المصالح.
في هذا السياق، يقول إسماعيل حسين زاده في مقاله "فوضى مخططة في الشرق الأوسط- وما أبعد" والتي نشرت في Counter Punch يوم 18-20 يوليو 2014، أن السياسات غير المتسقة، وغير المنطقية، والمتناقضة للولايات المتحدة الأمريكية هي في واقع الأمر فوضى تمثل نجاحاً وليس فشلاً، حيث تصب في مصلحة المستفيدين من الحرب وصناعة السلاح، ويضيف زاده بأن بذور هذه الفوضى بدأت منذ ما يقارب من 25 سنة على الأقل، أي منذ سقوط حائط برلين.
ولكن علينا أن نقر جميعاً بحقيقة أن ما كان لهذه الفوضى أن تحدث دون إنتشار الجهل وتراجع معدلات التعليم لدى المواطنين العرب، والتي جاءت نتيجة لسياسات أنظمة وديكتاتوريات أدانت بالولاء للولايات المتحدة الأمريكية. تجهيل الشعوب، وجعل الكتاب أبعد صديق عن المواطن العربي سهل عمل الجماعات المتطرفة، التي إستغلت تقاطع الجهل مع اليأس، إضافة للسخط على حكام العرب والنقمة على الغرب.
هي فوضى، ولكنها بكل تأكيد غير خلاقة، فهي فوضى تلتهم مقدرات العرب البشرية وغير البشرية، وإن إعتقد من إعتقد أن هذا الطريق هو سبيل إيقاف عجلة التغير الديمقراطي في المنطقة، خوفاً على مصالحة فقد أصاب، ولكن إلى حين، أما من ظن بأن هذا السبيل هو الأمثل لإستمرار إستغلال ثروات هذه المنطقة فقد وهم، فمع إتساع حجم هذه الفوضى، ستخرج عن حدود هذه المنطقة، وستأتي نارها على البعيد والقريب على حد سواء، فلا مناعة لأحد من هذا البلاء، ولا حماية لحضارة من هذا الوباء.