التغيير لن يتحقّق على أيدي من يمنعون حدوثه
التغيير لن يتحقّق
على أيدي من يمنعون حدوثه
صبحي غندور*
هناك علاقة جدلية واضحة في المنطقة العربية بين سوء الحكم في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج. كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة في المجتمعات، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج من أجل ضمان استمراره في الحكم أو ربّما سعياً لدى البعض الآخر للوصول إلى الحكم، فإذا بها تصبّ بهم لاحقاً، وبالأوطان معاً، في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.
وللأسف أنّ أقلاماً عربية ارتضت أن تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ الانقسام بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفات وتسميات كانت في الماضي من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدّم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية!
فكيف بالله تستطيع أمّةٌ أن تنهض من كبوتها وممّا هي عليه من سوء حال إذا كان صانعو الرأي فيها يتنافسون على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!؟
وكيف ستقدر هذه الأمّة على مواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية إذا كان معظم قادتها منشغلين الآن في كيفية إدارة شؤون السلطة لا الوطن، وفي توفير ضمانات توريث الحكم وليس تأمين صمّامات أمان لوحدة الأوطان وتقدّمها!
كيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان وللأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً بأمور تفرّق ولا تجمع!
هناك أيضاً في هذه الأمّة حاكمون حالمون يعيشون أوهاماً عن السلام مع عدوٍّ لم يعرف إلاّ لغة الحرب والقتل والدمار، بينما يحاولون عزل تجارب المقاومة الناجحة ووأدها.
وهناك في هذه الأمّة من يتحدّث عن "يقظة دينية" بينما هي في معظمها عودة إلى "أصولية جاهلية" تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه.
ومسكينٌ هو هذا الجيل العربي الجديد الذي يتمزّق الآن بين تطرّفٍ سلبي لا مُبالٍ وبين تطرّفٍ جاهلي يدفع بعضه، باسم الدين، للعنف ولما هو من المحرّمات الدينية أصلاً.
سيكون هناك حتماً مستقبل عربي أفضل حينما يقوم الشباب العربي بدورٍ أفضل ممّا يفعله الآن. وسيكون مستقبل الأوطان أحسن حالاً حينما تتحوّل الحكومات إلى أنظمة دستورية مرجعيتها الشعب ومصالحه لا مصالح الفئة الحاكمة فقط.
وستنهض الشعوب والمجتمعات حينما تتحوّل الحركات السياسية إلى قوًى جامعة فعلياً لكلّ أبناء أوطانها فلا تنسخ سيّئات الواقع إلى داخل أفكارها وكوادرها.
كذلك في الأوطان الخاضعة للاحتلال، فإنّ المستقبل الأفضل مشروطٌ بتوفّر مقاومة سليمة قائمة على أرضية وطنية مشتركة وليست تعبيراً عن عقائد فئوية قد تنجح في تحرير الأرض لكنّها تفشل في بناء الوطن الواحد.
إنّ العرب اليوم هم بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. والمسؤولية هنا، عن تردّي الواقع العربي، شاملة شمولية المجتمع العربي بكلِّ ما فيه من حكّامٍ ومحكومين، من رسميين وشعبيين، من سلطاتٍ ومعارضات!
هي مشكلة كذلك في واقع الأرض العربية، وما حولها من طموحات إقليمية ودولية. ففي ظلّ هذا الواقع القائم على التجزئة تتخبّط الأفكار والتجارب والأوطان. إنّ محاولات تقسيم الأوطان والشعوب العربية الآن تتمّ أصلاً على أرضٍ عربية مجزّأة منذ عقودٍ طويلة. فالحاضر هو ما كان المستقبل بالأمس، وهو الماضي غداً، وهذا يعني أنَّ العرب يواصلون في حاضرهم مزيجاً من سلبيات التاريخ والجغرافيا معاً، خاصّةً أنَّ العرب لم يدركوا بعد مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين هوياتهم المتعددة، أي بين أن تكون لهم هويّة ثقافية عربية واحدة وانتماء حضاري واحد، وبين واقع لا يجسّدون فيه ذلك بأيِّ شكلٍ فاعل، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا أمنياً.. ولا حتى ثقافياً.
إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية، فمِن رحْم هذه الصراعات على أراضي العراق واليمن والسودان والصومال، كما هي قائمة بشكل أو آخر في فلسطين ولبنان، تتوالد أزمات سياسية وأمنية عديدة أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى التنافس المسلّح على السلطة والحكم، بل وعلى المعارضة أحياناً.
هذا هو حال منطقة الشرق الأوسط الآن، بما في ذلك الواقع الإيراني والعامل الإسرائيلي وهما متداخلان مع تداعيات الانحدار الحاصل في أوضاع المنطقة العربية والتعثّر في سياسة الإدارة الأميركية الحالية.
إنّ الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية المعنيّة الآن بأزمات منطقة الشرق الأوسط هي كلّها في مأزقٍ كبير وتبحث ضمنياً عن مخارج لهذه الأزمات لكونها عاجزة عن التقدّم إلى الأمام، كما أنّها لا تريد طبعاً الرجوع إلى الوراء، وقد يجد بعضها ضمانات لمصالحه في حال التصعيد والتأزّم.
وهناك الآن حالة "تكيّف" عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتمزّق بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع أوضاع الفساد السياسي والاقتصادي التي وصلت في بعض البلدان إلى حدّ العفن غير أنّ من يعيشون فيها وحولها اعتادوا على رائحتها الكريهة..!!
هناك تدَنٍّ حتّى في مستوى الشعارات المطروحة على المستويين الوطني والقومي. فبعدما كانت أهداف العرب في الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي التوحّد بين الأوطان، أصبح الهمّ الأساس الآن هو الحفاظ على وحدة كل وطن من خطر التشرذم والتقسيم. وبعدما كانت الحرّية تعني تحرّراً من الاحتلال والتسلّط الأجنبي، أصبحت معايير الحرّية تقاس الآن بمدى "الاستقلال" عن العلاقة مع دول عربية أخرى! كذلك بتنا نرى التراجع في مسائل العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد وكيفية توزيع الثروات الوطنية.
حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية، فإنّ شعاراتها انتقلت من عموميات "الأمّة" إلى خصوصيات المذاهب والاجتهادات، كما انتقل بعضها في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح وما يجلبه من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
المشكلة عربياً الآن هي في انعدام الإرادة العربية المشتركة، وفي تقييد الإرادات المحلية الوطنية ورهنها لسياسات خارجية. إذ لا مشكلة عربياً في الإمكانات والثروات، ولا في العقول والخبرات وحجم الطاقة البشرية، بل هي مشكلة عدم التوظيف الصحيح لما تملكه الأمّة من خيراتٍ مادّية وبشرية.
وهاهي المنطقة العربية "تتكيّف" الآن مع كلّ هذه الحالات السلبية المنتشرة على أرض العرب دون توفّر رؤية عربية مشتركة، ثمّ إرادة عربية مشتركة لمواجهة هذا الواقع وتغييره نحو الأفضل.
إنّ التغيير المنشود عربياً لن يتحقّق على أيدي من يمنعون حدوثه محلياً وخارجياً. فالتغيير الإيجابي سيحدث فقط بوجود مرجعيات سياسية سليمة تقود حركة تغيير مجتمعاتها.
الأمّة العربية تحتاج إلى مؤسسات وحركات شعبية ترفض الواقع، لكن ترفض أيضاً تغييره بواسطة العنف والإكراه.
الأمّة بحاجة إلى حركات عروبية ديمقراطية لا طائفية، تخلص لأوطانها وتعمل لوحدة مجتمعاتها، فيكون ذلك أساس ومعيار عملها لصالح الأمّة ككل.