المعتقل السياسي من يعوضه عما خسره

المعتقل السياسي من يعوضه عما خسره

من عمره في السجن؟..

الطاهر إبراهيم *

دخلت مساء إلى البيت وأمسكت بالريموت كونترول أقلب به بين القنوات الفضائية. كان في جملة ما رأيت المسلسل السوري "رياح الخماسين" في حلقته الأولى. ظهر المعتقل "فريد" وقد أطلق سراحه بعد خمسة عشر عاما "نامها" على جنب واحد (كما يقال في أدب السجون). حاول "فريد" أن يجد بيته وقد ظهر عليه كأنه تاه عن مكان البيت بعد أن بني في الحي بيوت جديدة. فسأل صاحبَ دكان في الحي عن بيت "فريد" هذا دون أن يشعره أنه هو فريد. فرد عليه أنه لا يعرف أحدا بهذا الاسم في الحي. عندها عرّف صاحبَ البيت بأنه "أبو ماهر". قال صاحب الدكان: الجاسوس؟ ومعلوم أن الأجهزة الأمنية عندما تعتقل أحدا فهي تشيع عنه أنه إرهابي أو جاسوس حتى لا يتعاطف أهل حيه وجيرانه معه.

أثارت مشاهد المسلسل في نفسي مشاعر مؤلمة، قديمة وجديدة، حول الاعتقالات السياسية وما يتخلف عنها عند المعتقل وأهله وأهل حيه. لنترك حلقات المسلسل يتابعها المشاهدون، ولنحاول أن نرصد الآثار الرهيبة التي خلفتها سنوات الاعتقال على الذين اعتقلوا وأمضوا ردحا طويلا من حياتهم، عشر سنين أو خمسة عشر عاما أو أكثر من ذلك، خصوصا بعد إطلاق سراحهم. وكيف وجد المعتقل زوجته وأولاده، ووالديه، إن كان بقي أحد منهما على قيد الحياة؟

أما صحته الجسدية والعقد النفسية التي ترسبت في نفسه خلال سنوات الاعتقال التي قضاها في السجن، فحدث عنها ولا حرج. أما وضعه الاقتصادي فقد أضحى رثا بعد أن فقد وظيفته بحكم اعتقاله. ربما كانت تهمة "الجاسوس" التي واجهت "أبا ماهر" بطل المسلسل الذي افتتحنا المقال به أهونَ المشاكل التي واجهها. فهذه التهمة لا يصدقها إلا قلة من الناس. أما معظم أهل الحي فيعرفون أنها تهمة "مفبركة" تطلقها أجهزة الأمن على كل من تعتقله (لزوم الشغل).  

زوجة المعتقل الذي أمضى سنوات طويلة من عمره في السجن وقد تركها صبية تتلألأ الصحة في وجهها، سيجدها شاحبة الوجه مغضنة الوجنات غادرتها البسمة، وكأنها شجرة عرّى الشتاء أوراقَها. أثوابها اختلطت ألوانها فلم تعد تميز بين لون وآخر، لا من ضيق ذات اليد فحسب، بل لأنها فقدت منذ زمن الرغبة في لبس الجديد بعد أن غاب زوجها الذي كانت تتزين له. قبل أن يعتقل زوجها كانت متفرغة لشئون البيت، فلمااعتقل أبرزت شهادتها الثانوية وتقدمت بها لتعمل في مؤسسة خاصة خوفا من (السين والجيم) التي تسأل عنها أجهزة الأمن، بحثا عن انتماء من يتقدم لوظيفة حكومية. أثاث المنزل بقي كما تركه المعتقل والذي اهترأ منه أو تقطع أصلح عدة مرات، فلا يوجد في ميزانية الأسرة بند لشراء أثاث جديد.

ربما كان أصعب مهمة ألقيت على عاتقها وأعقدها على الإطلاق خلال اعتقال زوجها، التعامل مع الأولاد الذين كانوا يكبرون وتكبر معهم مشاكلهم. فلا ينتهي يوم حتى تكون قد تصدت لعدد من المشاكل، بعضها بين الأولاد أنفسهم وبعضها من تفاقم طلبات دراستهم. فإن زوجة المعتقل أي معتقل، تصر على متابعة تعليم أولادها. فهي تقتطع حتى من الضروريات لتؤمن مصروف الدراسة لهم. ولو رحت أعدد ما واجهته الأم أثناء غياب الأب أو أصور أحزان والديه، أو من بقي منهم حيا، لالتهمت هذه الأمور كل مساحة المقال، فأكتفي بما أوردت.

لن ندخل مع المعتقل إلى السجن لنرصد همومه وأحزانه التي تنوء منها الجبال الراسيات. بل سنخرج معه منذ اليوم الأول لإطلاق سراحه لنرى المشاكل التي كانت تنتظره خارج معتقله وقد ظن يوم أطلق سراحه أن مشاكله كلها قد حلت دفعة واحدة.

يفرح الأهل والجيران بالمفرج عنه ويستقبلون معه المهنئين، وربما تمتد الاستقبالات عشرة أيام وأحيانا أكثر. خلالها كان أهل الحي يقدمون الطعام إلى بيت المفرج عنه، كل بقدر استطاعته، يأكل منه المهنئون والأقارب والجيران. وبعد أن تنتهي أيام التهاني يخلو المفرج عنه إلى نفسه وقد تشاركه زوجته هذه الخلوة، وتكون خلوة إعادة حسابات أو تقويم لما هو قادم.

الرجل من دون عمل. وراتب زوجته كان يكفي الأسرة كفافا وهو لا يريد أن تعيله زوجه فماذا يعمل والظرف صعب؟ لو كانت القضية شهرا أو شهرين أو حتى سنة لتدبر أمره بالاقتراض. وربما زاد الطين بلة أنه أطلق سراحه فخرج وهو يحمل معه بعضا من الأمراض المستعصية. وبسبب ذلك فهو لا يستطيع أن يعمل حتى لو وجد العمل. وربما يكون المرض استفحل معه في داخل السجن، لكنه كان مشغولا عنه بهموم الحبس فلا يكاد يحس بألم المرض. أما وقد انتهت محنة الاعتقال، فسيجد أن  المرض ينكأ عليه هناءه أشد مما كان في المعتقل.

أثناء النوم تتوافد عليه خيالات ذكريات قضاها في السجن أيام كان يصب عليه العذاب صبا، أو يسمع صراخ معتقلين آخرين أثناء حفلات التعذيب، فيفيق من نومه مذعورا. أحيانا يرى نفسه وقد أحاطت به أجهزة الأمن تريد اعتقاله، فيحاول أن يهرب منها، لكن أنّى له الفرار؟ فيحاول أن يلقي بنفسه من على سطح الدار، فيستيقظ وقد سقط من على السرير.

يوم أن اعتقل ترك بضعة من الأولاد زغب الحواصل، مشاكلهم قليلة، إلا من مرض يصيب الأطفال في مثل أعمارهم. وعندما يطلق سراحه سيجد أصغرهم في سن السابعة عشرة، ويجد أمهم ألقت سلاح المقاومة في وجه مشاكل أولادها فيما بينهم ومشاكلهم مع الآخرين. فإن كانوا أربعة، فثلاثة منهم صاروا مدخنين، إلا أكبرهم سنا الذي رفض الالتحاق بالجامعة وعمل في ورشة نجارة أو بائعا في "سوبر ماركت" صغير ليساعد أمه في مصروف البيت. وإذا كان في البيت بنت أو أكثر فأنت ترى في عينيها نظرة انكسار، ربما لوجودها بين أخوة ذكور فلا تسلم من كلمات جارحة بحقها، وربما لأنها رأت ما تقاسيه أمها مع أخوتها فهي تشعر بمرارة الحياة التي تقاسيها أمها. كل هذا وربما أكثر، على المعتقل الذي أطلق سراحه أن يتصدى له لأن هيبة الأم ستتضاءل في وجود الأب ولو كان هيكلا عظميا.

ربما كان المعتقل الذي صورنا حالته آنفا أسعد حظا من غيره من المعتقلين. فبعض المعتقلين انحرف أولادهم عن الجادة الصحيحة، وبعضهم أدمن المخدرات، وبعضهم ترك المدرسة، ولم يلتحق بعمل. بعض المعتقلين انقطعت أخباره عن أهله، فما يعرفون إن كان في الأحياء أو في الأموات فيعرض والده على زوجة ابنه إن كانت ترغب في الطلاق وهو سيتكفل بأبناء ابنه. أكثرهن كن يرفضن الطلاق ويفضلن البقاء مع أولادهن، وقليل منهن طلبت الطلاق وتزوجت. بعضهن تزوجها أخو زوجها ليعيل أبناء أخيه بعد أن انقطعت عنهم أخباره. وحدثت أكثر من مرة أن المعتقل أطلق سراحه ليجد زوجته مع زوج آخر، والمصيبة تكون أمر وأدهى على المفرج عنه إن كانت زوجته تزوجت أخاه.

أجدني مضطرا لإنهاء المقال ومايزال هناك ملفات كثيرة واجهت المعتقلين بعد إطلاق سراحهم لم استوعبها في هذه العجالة.

هؤلاء المعتقلون هم أبناء الوطن وقد اعتقلتهم أنظمة بلادهم، ويبقى السؤال: أليس هناك أسلوب للحوار مع هؤلاء المعارضين المعتقلين إلا أسلوب "الكرباج" والصعق بالكهرباء والاعتقال؟ لو كان عدد المعتقلين ألفا لأصبح من يحقد على النظام عشرة آلاف(زوجات وأولاد وأقرباء درجة أولى). فكيف إذا كان عدد المعتقلين يعد بعشرات الآلاف؟ بل إن بعض البلدان العربية تجاوز فيها عدد المعتقلين والمنفيين مئات الآلاف. عندها على الحاكم المستبد أن يستحضر آلة حاسبة ويحسب كم هو عدد الذين يكرهونه ويحقدون عليه بسبب اعتقال ذويهم وتشريدهم في المنافي؟

              

* كاتب سوري معارض يعيش في المنفى