لما لا تعتذر بريطانيا عن فترة احتلالها لمصر
لما لا تعتذر بريطانيا عن فترة احتلالها لمصر؟!!
بلال محمود القصاص
باحث تاريخي
خلال هذه الأيام تمر بنا الذكرى الرابعة والخمسين على خروج آخر جندي بريطاني من أرض مصر وذلك في 18 يونيه (حزيران) 1956.
ونحن لا نعلم لما لم تعتذر بريطانيا حتى الآن عن فترة احتلالها لبلادنا والذي استمر لما يزيد عن سبعة عقود متوالية، ذاقت فيها مصر كل ألوان الذل والاستكانة والمهانة على يديها.
أم أن بريطانيا لا زالت تعتقد بأن احتلالها لمصر ولكل البلاد التي قامت باحتلالها هو أمر كان حتميا، وضروريا في تلك الفترة، وأنها لم تكن تقصد ما حدث وإنما كانت تقصد من وراء سيطرتها على تلك البلاد أمرا آخر وهو تثقيف هذه البلاد والنهوض بها من عثرتها لكي تلحق بركب الأمم المتطورة وبركب الحضارة في ذلك الوقت، أو لا تعلم بريطانيا وغيرها من البلاد الاستعمارية الإمبريالية أنهم هم أنفسهم كانوا السبب الرئيسي في تأخر هذه البلاد عن ركب الحضارة، وكانوا السبب الأساسي في اضمحلالها.
لقد جثم الاحتلال على أرضنا أكثر من سبعة عقود، عمل خلالها على استنزاف بلادنا ماديا وسياسيا وثقافيا وأخلاقيا، فقد سادت في مجتمعنا أخلاق ومعاملات لم تكن موجودة من قبل وجود الإنجليز في بلادنا، أو كانت موجودة ولكن شرذمة قليلة هي من كانت تقوم بها، فقد انتشر الفساد في كل شيء في الإدارة والاقتصاد والزراعة حتى التعامل بين الأفراد، وأنهكنا الاستعمار ماديا وثقافيا وعسكريا، واستطاع أن يسخر كل إمكانيات بلادنا في خدمة أغراضه وبالأخص خلال الحربين العالميتين، والتي استغل فيهم مصر أبشع استغلال وتنكل لوعوده بعد انتهاءها بأنها سوف تعطيها استقلالها الكامل، كما أننا لا ننسى ما فعله الاحتلال في دنشواي وما فعله من تقسيم البلاد إلى مصر والسودان في اتفاقية السودان سنة 1899م، هذا بالإضافة إلى ما رسخه الاحتلال من فكرة التبعية وفكرة التغريب وما قام به من استلاب لكل ثقافات بلادنا وتغيير الكثير من عاداته وتقاليده، وما قام به بعد ذلك بالإغارة على بلادنا فيما عرف بالعدوان الثلاثي 1956م.
فما تكليف إيفلنج بارينج (اللورد كرومر) ـ والذي استعمر في منصبه لمدة ثلاثة وعشرين سنة ذاقت مصر على يده كل ألوان العسف والجور ولا ننسى أنه صاحب مذبحة دنشواي 1906 ـ بأن يكون معتمدا لها في مصر إلا خطوة كانت تأكد عدم خروج بريطانيا من مصر إلا بعد أمد بعيد، وتأكيدا على استمرارها في سياستها الامبريالية تجاه مصر، وهو ما تم بالفعل.
إننا نطالب بريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية مثل فرنسا وأسبانيا وكل من استنزف بلادنا واستغلها اقتصاديا وماديا وقام بعملية الاستلاب الثقافي لنا ـ والذي لا نزال نعاني من آثاره ـ أن يقدموا اعتذارا رسميا وغير رسمي (أي تؤمن شعوب هذه البلاد بأحقيتنا في الاعتذار) عن فترة وجودهم في بلادنا وأن يعلنوا أسفهم لما قام به أسلافهم من احتلال بلادنا والإساءة لها.
إن معظم بلدان العالم الآن تطالب باعتذار وتعويض ممن أساء إليها حتى ولو لم تكن الإساءة رسمية، فما بالنا بمن أساء إلينا رسميا وشعبيا طوال فترة طويلة وعصيبة من حياة بلادنا.
إنني أرى أن هذا الاعتذار ليس من شأن الحكومات وحدها أن تطالب به ولكنه شأن شعبي، ومطلب رسمي، لأن الإساءة نالت الشعب كله بجميع فئاته من أعلاه إلى أدناه.
إنه لا يزال الإنجليز يعتقدون أن ما فعله أسلافهم وآباؤهم باستعمارهم للأمم والشعوب كان هو الواجب الحتمي والضروري، كثير جدا من فئات متنوعة من الشعوب الأوربية كلها ـ سواء من الساسة أو المثقفين أو حتى العامة ـ لا إنجلترا فحسب، لا يزالون يؤمنون بهذه النظرة وأن أسلافهم كانوا على حق.
نحن نطالب باعتذار رسمي وشعبي لما بدر منهم تجاه بلادنا في الماضي، ولن نطالب بتعويض مادي عن تلك الفترة، لأننا أعز من ذلك، ولكن يكفينا اعترافهم بخطئهم في الماضي، وبما اقترفوا في حقنا قديما، كما نطالب أيضا بتغيير مناهج الدراسة التي تدرس في بلادهم وخاصة مناهج التاريخ، فما نتجت ثقافة الشعب البريطاني الذي لا يزال يؤمن بما فعلته بلاده قديما من استعمار العالم إلا عن طريق هذه المناهج والتي لا زالت تبث فيهم روح الامبريالية والاستعمار، ولا زال الكثير منهم حتى ومن بين مثقفيهم ومؤرخيهم يؤمنون بذلك.