هستريا التعصب الطائفي

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

المصدر الأساسي للفتنة في الأوطان الإسلامية ، هو الغرب الصليبي الاستعماري المتوحش . وهو يرفع مصطلح الصليبية – مع إيماننا بأن المسيح عليه السلام لم يُصلب - دون أن يأخذ بقيم المسيح عليه السلام ولا أخلاقه ولا تعاليمه ، بل يُمارس القيم المضادة لقيم المسيح ، بكل قبحها ووحشيتها وإجرامها ، فالقتل والنهب والسلب والخداع والمكر والكذب وغيرها من قيم القبح والتوحش والإجرام لا تتفق مع تعاليم المسيح ؛ ولا الشريعة اليهودية ، فضلاً عن الإسلام .

ومع نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي 8/2/2008م ، نقلت الأنباء ثلاثة أخبار ، تصبّ كلها في خانة الفتنة التي يصنعها التعصّب الأعمى والحقد الدفين ، مع ضرب عرض الحائط بالقيم والأخلاق التي جاء بها المسيح عليه السلام .

الخبر الأول تضمن أن أسقف كانتربرى " روان ويليامز " – رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية في بريطانيا – تعرض لحملة ضارية وسيل من الانتقادات ، تحوّلت بشكل سريع إلى هستريا وفزع لدى القاعدة العريضة من البريطانيين حين سمعوا كلمة " الشريعة الإسلامية " تصدر عن الأسقف " ويليامز " في مجال اقتراح أبداه في محاضرة له يوم 7/2/2008م ، حيث طلب من البريطانيين أن يتعاملوا بذهن متفتح مع الشريعة الإسلامية من خلال تبنى بعض أوجهها في تسوية بعض القضايا بطريقة بناءة ، مثل الطلاق وغيره ، مما يساعد على الاندماج الاجتماعي .

وقد سبق ردّ الفعل الرسمي الردّ الشعبي ، حيث سارع رئيس الوزراء البريطاني " جولدن براون " على لسان المتحدث باسمه ؛ إلى رفض اقتراح الأسقف ، وشدد على ضرورة تطبيق القانون البريطاني استنادا على القيم البريطانية ( أي القيم البروتستانتينية ) ، زاعماً أن الشريعة الإسلامية لا تبرر انتهاك القانون البريطاني ، وأنه لا يمكن الاعتراف بمبادئ الشريعة أمام محكمة مدنية لمعالجة الخلافات ..

وتضامنت المعارضة البريطانية مع الحكومة في توجيه الانتقادات إلى اقتراح الأسقف ، حيث وجهت " سعيدة دارسي " ( واضح أنها من أصل إسلامي ! ) ، وهى وزيرة ظل بحزب المحافظين ، انتقادات حادة للأسقف ، ووصفت تصريحاته بأنها تزيد  التخبط في المجتمع البريطاني ! ( الأهرام 9/2/2008م ) .

وقد حاول الأسقف أن يهدئ الغاضبين ، ويعلن أنه لم يقترح أبداً إيجاد نظام قانوني إسلامي مواز للقوانين البريطانية ، وقال إن هدفه من هذه التصريحات تخفيف وطأة بعض المشكلات الخاصة بحقوق الجماعات الدينية التي تعيش داخل دولة علمانية ، واستخدم الشريعة الإسلامية مثالاً . ( الأهرام 10/2/2008م ) .

لقد اعتقد البريطانيون الذين أصابتهم الهستريا والفزع بسبب تصريحات الأسقف ، أن مسلمين خطرين جاءوا من خارج بريطانيا لتهديدها كما نقلت وكالات الأنباء ، وتجلى ذلك فيما كتبته الصحف الشعبية والجمعيات والتصريحات ! وما زالت تتوالى التصريحات من المسئولين والأساقفة الإنجيليكانيين ، بل والكاثوليك تحذر من تحويل بريطانيا إلى دولة إسلامية !!

إذاً هناك هستريا وفزع بسبب اقتراح أكبر الأساقفة البروتستانت ، وردت فيه الشريعة الإسلامية مثالاً لحل مشكلة الجماعات غير المسيحية في بلد الحضارة والاستنارة والتقدم ! ولكن المسلمين في مصر لا تصيبهم الهستريا والفزع حين يجعلون لغير المسلمين قانوناً خاصاً بأحوالهم الشخصية ، وتسمح لهم في الوقت نفسه أن يتحاكموا إلى قانون الأحوال الشخصية الإسلامية إذا أرادوا !

مصر المسلمة لا ترى في تطبيق التشريعات النصرانية على النصارى زيادة في تخبط المجتمع المصري ، ولا تنتهك القانون العام ، ولا ترى غضاضة في الاعتراف بها ولا تظن أن صليبيين خطرين جاءوا من خارج مصر لتهديدها أو تحويلها إلى دولة صليبية !  ولكن القوم المتحضرين في بريطانيا يعتقدون أن الشريعة الإسلامية خطر عليهم !

الخبر الثاني هو حكم محكمة مصرية يجيز تسجيل ديانة المرتدين النصارى في البطاقات الشخصية . وقد أقام الدعوى محام متعصّب يعد المحامى الرسمي للكنيسة ، وقد هلّل للحكم ، وأبدى فرحه العظيم لأن القضاء المصري حقق رغبته في إثبات ديانة النصارى المرتدين عن الإسلام ، مع الإشارة إلى أنهم كانوا مسلمين . وهؤلاء من الذين انتقلوا من النصرانية إلى الإسلام ، لأسباب شخصية غالباً من قبيل الطلاق أو الزواج أو تسديد ديون ، وعندما حلت مشكلاتهم رجعوا إلى النصرانية ثانية ، وارتدوا عن الإسلام .

استقبال الحكم لدى المحامى النصراني المتعصّب ، لم يكن أقل هستيرية عن استقبال البريطانيين لاقتراح أسقف كانتربرى ، وبدا أنه حقق نصراً استراتيجياً عظيماً غير مسبوق ، وكأنه بمنطق التعصب الطائفي القبيح ، انتصار على الإسلام والمسلمين مع أن القضاة الذين أصدروا الحكم من المسلمين في بلد إسلامي !

مع أن المسألة ابسط من ذلك بكثير ، فلو خرج من ملّة الإسلام ثلاثة أو أربعة ملايين ، قدر عدد النصارى في مصر ، ما تغير من واقع النصارى شيء ، ولو انضم كل نصارى مصر إلى الإسلام ما تغير من واقع المسلمين شيء ، لأن المأساة التي يعيشها جميع المصريين أكبر من تحوّل شخص من هنا أو هناك ، فالفقر والغلاء والفساد والظلم والاستبداد وغيرها من أمراض متأصلة في المجتمع المصري لا يحلها انتقال شخص من هذا الدين أو ذاك ، ولكن يحلّها التعاون العام بين أفراد الشعب جميعاً على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وانتماءاتهم .. والعمل الجمعي لتحقيق الحرية والعدل والرخاء وتطهير البلاد من الفساد والفاسدين ..

ولكن المحامى الطائفي المتعصّب لا يفقه ذلك ، ويرى أن سماحة مصر ، بإقامة مؤتمر لأبناء الطائفة المهاجرين ، هو انتصار آخر له ، حيث يناقشون زيادة عدد الكنائس والمواطنة ، وزيادة عدد الكنائس أمر عجيب ، حيث تؤكد الإحصائيات أن نسبة عدد الكنائس بالنسبة لأتباعها ، أكبر من نسبة عدد المساجد بالنسبة للمسلمين ، ثم إن المواطنة صارت تعنى في المفهوم الدعائي السائد إلغاء الإسلام وتشريعاته بالنسبة للأغلبية الساحقة ، وهذا لعمري ظلم بيّن ، وتمييز صارخ ، وتجاوز غير مقبول !

الخبر الثالث ، جاء من جنوب السودان ، حيث قررت حكومة الجنوب التي يقودها نصارى متعصبون ، ويشارك فيها شيوعيون مسلمون ، طرد البنوك الإسلامية ، وفى مقدمتها بنك فيصل الإسلامي السوداني ، وتصفية وجودها في الجنوب الذي يشكل الوثنيون أغلب سكانه ، ويزيد فيه عدد المسلمين على عدد النصارى ، وكان السبب المعلن هو تنفيذ اتفاق نيفاشا بين الخرطوم ونصارى الجنوب ، ولا أدرى كيف تضيق السماحة النصرانية بوجود بنوك إسلامية تسهم في ازدهار الاقتصاد ، وتقديم الخدمات ، وإفادة أهل الجنوب ؟ وما علاقة نيفاشا بالبنوك ؟ إنها الهستريا الطائفية المجنونة وإنه التعصب الرخيص الأحمق الذي لا يقبل بالإسلام ، مع أن القوم صدّعونا بالحديث عن قبول الآخر ، والآخر لا يقبلنا ولا يرضى بنا !

لاريب أن الغرب الصليبي الاستعماري المتوحش ، هو المصدر الرئيسي للفتن والمصائب والمصاعب !