علمانية , ليبرالية , ديمقراطية , والحصيلة ماذا
علمانية, ليبرالية, ديمقراطية, والحصيلة ماذا؟!
(4-4)
د. نصر حسن
أدى الفهم النخبوي الثقافي الجزئي على الساحة السياسية في سورية في الفترة الماضية إلى تمديد نزهة المثقفين في غابة الألفاظ , فوجدوا فيها ضالتهم وتحولوا إلى أسرى استبدادين اثنين ,استبداد النظام السياسي واستبداد الثقافة الفردية النظرية وضاعوا في متاهاتهما ,أنتج هذا بدوره تعثر الصراع مع نظام شمولي فردي , بمواجهة خجولة لحراك سياسي , كل مافي جعبته خطاب لفظي هش مبعثر مثلته معارضة مبهمة, تحكمها أحاديات طائفية أو اجتماعية أو سياسية, وثنائيات فكرية وتناثرات اقتصادية عملت على انفراد ,وكأنها متوازية لا تلتقي ولا تتقاطع ولا تتحاور , وبالتالي لم تنجح في توليد عوامل ربط وطنية بين المجموع الاجتماعي , فضعفت قدرتها على بناء منظومة فكرية جامعة تقترب من مفهوم الدولة الوطنية .
وكانت "الميليشيات" الثقافية ولا تزال منعزلة بفرديتها ونخبويتها وتبعيتها النظرية وتائهة فيها , وكأنها كتلة هلامية أشبه بالعدم المعرفي موجودة كماً وغائبة نوعاً واتجاهاًَ, وبالتالي ضعفت مشاركتها في الحياة العامة وغاب تأثيرها على مسار الأحداث, وبهذا الشكل السائب غير الواضح رافقت فترة التحولات الكبرى في نهاية القرن العشرين الذي اختتم بانهيار الاتحاد السوفياتي , ومعه انهارت الكثير من الأحلام الثورية والاشتراكية والتركيبات العقائدية والسياسية ,وتشتت معه النخبة ولاذت كل منها إلى كهفها أو إلى أقرب المقربين إليها , باحثةً عن بقايا غطاء فكري أو سند سياسي أو إرث طائفي أو متبني دولي جديد لها لتجديد وجودها والتقاط أنفاسها ومحاولة التأقلم بصيغة ما مع الوضع الطارئ الجديد , محاولةً إعادة التموضع السياسي والأهلي المحلي في سياق عالم جديد مهزوز هو الآخر , وأصبح ثقله كله في كفة ميزان واحدة .
والحال هذا , لازالت مصرة على الحصاد بنفس المنجل وفي نفس مساحة البور التاريخي, أي تكرر الفهم الأحادي لحركة المجتمع وتناقضاته وتتمسك بنفس الشعارات الإشكالية ,وتستخدم نفس الكيل وذات الأوزان التي فقدت كتلتها, وبالتالي وزنها وتأثيرها في عالم معلوماتي عولمي متحرك على الخط السريع , وعابر لكل الهياكل التاريخية التقليدية للدول والمجتمعات .
وكنوع من صراع البقاء, تحاول تلك النخبة اليوم إعادة إنتاج نفسها, لكن بأطر وأنساق نظرية لازالت بعيدة عن تناقضات الواقع وحركية المجتمع السوري وهمومه الأساسية, وضمن وضع عربي من لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى غربه وشرقه أصبح كله في مهب الريح , ريح السيطرة والاحتلال والتمزق ونهب الثروات وحشر المنطقة كلها في الفقر والتخلف والصراعات الداخلية , ورغم كل هذا الكم الهائل من النكبات , لازالت النخبة متناقضة في جزئية المفاهيم ومعانيها ودلالاتها وترتيبها وتائهة بين أولوياتها وثانوياتها ,ولم تدرك بعد أنه لا علمانية بدون حوار صريح مع الواقع واحترام مكوناته وتاريخه والمصالحة معها , وحسم مشاكله بأفق محلي استراتيجي مستقل , ولا ليبرالية بدون حسم اتجاه حركة المجتمع وشكل الدولة ومضمونها ودورها , ولا ديمقراطية بدون حرية فكرية وسياسية وحقوقية وإنسانية , ولا تقدم بدون تنمية بشرية وقانونية ومؤسسات ونظم إدارية عصرية ,هنا تبدو الحاجة ملحة إلى نوع من العقلانية النقدية العملية التي ترى ترابط العوامل وتقر بالتكامل , والنظرة المجسمة للواقع والمفاهيم وضرورة الإقرار أن خلاص سورية من الاستبداد كبنية وثقافة وعقلية وعلاقات أهلية واقتصادية ومصالح متناقضة بين شعب وسلطة طاغية , لا يتم سوى بنظرة مركبة متسقة مع واقع المجتمع وبجملة عوارضة الظاهرة والمخفية ,وبالتالي نجاحها في اشتقاق طريق جديد ينقل المجتمع إلى الأمام لا إلى الخلف .
وعليه , في هذه المرحلة الهجينة من تاريخ سورية التي طغت عليها سلطة فردية مستبدة فضفاضة حقوقياً ومتناقضة سياسياً وفاشلة وطنياً وتنموياً ,وسرطانية اقتصادياً قائمة على النهب واحتكار ثروة البلاد والسوق معاً ,وتتلاعب على الشعب بما يضمن لها السيطرة عليه وعلى ثروة البلاد , فتراها تتشدق بالاشتراكية حيناً وتنادي بالديمقراطية المركزية حيناً وبدولة الرفاه حيناً آخر , وبالقمع والنهب وعلى حامل سياسي واهن بادعاء الصمود والممانعة والتحرير في معظم الأحيان , والشعب غارق في الفقر والأزمات , والقمع هو الشيء الوحيد المتطور والمتجدد باستمرار!.
والحال هذا ,يدل أن النخبة السياسية السورية المعارضة للنظام انطلقت من نفس تناقضاته , وبدل حلها ضاعت فيها وانقسمت حولها وطغى على عملها مبدأ السجال ورد الفعل على النظام والمراهنة على عودة الوعي والوطنية إليه , وليس على قراءة الواقع الاجتماعي والاقتصادي ومعرفة أبعاده الداخلية , ورداً على فردية النظام وتغييب الحريات وانتهاك الحقوق ,ركبت النخبة الديمقراطية متأخرة عربة حقوق الإنسان , وركزت على القضايا الفردية حيناً,وعلى مفاهيم العدالة والمساواة بمسحة اشتراكية حيناً آخر,وعليه وقعت في نفس هلامية النظام وزكزاكيته.
واليوم ,بظل نظام مستبد محتكر للسياسة والاقتصاد والمجتمع معاً, ومجرداً من أية منظومة حقوقية أو قانونية أو سياسية ,ويفهم الاقتصاد على أنه حريته في النهب المتعدد الأشكال , وتترسب فيه كل مساوئ النظم السياسية في الغرب والشرق ,مضافاً إليها فشله المطلق في التنمية بكل أشكالها وبمشروعه القومي بكافة شعابه ,واستمرار عمله على الشعارات اللفظية والمساومات السياسية , وبهدف واحد هو ضمان استمراه في الحكم , يقابله على الجانب الآخر المعارض للنظام وفرة من الواجهات اللفظية المعروضة غير المؤثرة في موازين القوى المادية على الأرض , من العلمانية إلى الديمقراطية إلى الليبرالية إلى الحداثة , إلى أشكال أخرى من التصنيفات النظرية البحتة التي تتشبث فيها نخبة , ولا تعكس علاقات اقتصادية معينة ولا تحظى بقوة فردية فكرية أوسياسية أو أهلية جامعة أو جاذبة أو محركة للشعب , بهذا الشكل يبدو الأمر كأنه مجرد إسقاطات نظرية على واقع تعصف فيه تناقضات مركبة أكبر مساحةً وأكثر عمقاً في مستواها وشكلها ومضمونها.
والحال هذا , يبقى الأمر غائم وعائم أشبه بمراوحة في فراغ المفاهيم وتفريغها من بعدها العملي , تكرر النخبة محاولة إعادة تأسيس أو تسييس لما هو موجود بصيغ تراها جديدة , لكنها في أحسن أحوالها تمثل صيانة القديم بشكل تقليدي وأشبه بعملية رصف وهمي أو تجديد " تبليط الوعي " النخبوي بمفاهيم نظرية ديكورية تبدو حداثية , لكنها معزولة عن محيطها الاجتماعي والسياسي المحلي, فلماذا هذا الإصرار على التكسير الفكري والمفاهيمي والتشقق السياسي والمواربة بصلات البعد والقربى مع الاستبداد ؟!, و التمركز البائس على مخزون فكري وهمي من نزعة الفردية وحب التميز والدوران فيهما ! .
هنا السؤال يفرض نفسه , أما آن الأوان لنقد النظرية والممارسة وحصيلتهما ؟؟!و فحص محتوى السلة بعد طول انتظار موسم الحصاد الوهمي, الذي أنتج كل هذا الخواء والفشل والتشقق والقمع والتخلف والفوضى !.
أما آن الأوان بالنزول إلى المجتمع والتفاعل معه وبدء حوار مباشر وصريح مع واقع الشعب السوري ؟!.علَه , أي الشعب يحلم ببعض العنب بعدما أصبح " الضَرَس " جينة وراثية في أنساقه الفكرية والثقافية والسياسية , بل في حياته كلها!.
بعض الإجابة الفكرية والسياسية تأتي مفاجأة هذه المرة , من الجغرافيا السورية والعربية , التي بدورها تخضع الآن لنفس التعذيب والتغريب والتبويب ,الذي تعرضت له الثقافة والسياسة معاً ! وهي مفارقة العقل العربي "العاقر" وآلية عمله الموصوفة بالحث الخارجي لا بالتوليد الداخلي !.