العروبة والمستقبل
أصوات من الماضي
زهير سالم*
[email protected]
منذ
زمن غير قليل خمدت المعركة بين القوميين والإسلاميين. أدرك الفريقان أنهما، وإن
اختلفا، يواجهان عدوا مشركا، أو هكذا حاولوا أن يقنعوا أنفسهم، ربما جمعهم الضعف،
أو وحدهم الجرح، أو شعر فريق منهم أنه بعد أن فقد المرتكز أصبح معلقا في الهواء،
بينما طمع فريق آخر في أن ينجح في عملية احتواء تعود بالطائر إلى عشه.
مر
زمن غير قصير والساحة العربية تفتقد الصوت العروبي الذي ينفي عن نفسه الشيفونية
والاستعلاء والتمرد والانخلاع وتسول العقائد والأفكار والثقافات. ولقد افتُقد
بالفعل الصوت العروبي هذا كما افتُقد في الوقت نفسه الصوت اليساري الذي أخذ على
عاتقه حينا من الدهر التعبير عن معاناة الطبقات المسحوقة. فقد القوميون العرب
مرتكزهم كما فقدت القوى اليسارية العربية مستندها، فطاشت كفة هؤلاء وهؤلاء ليتركوا
من ورائهم ساحة مكشوفة، وثغرة مضيعة. ذلك أن الخطاب العام في برامج وأطروحات القوى
المغايرة لا تعطي بالضرورة الموضوعات التي يتفرغ لها هؤلاء وأولئك نفس الحظ من
الاهتمام والمعالجة والمتابعة، ومن هنا نشأ خلل لا يخفى عن الغياب أو التراخي الذي
أصاب الحراك القومي والحراك اليساري على السواء.
منذ أعوام قليلة وبعد غياب دام عقودا استأنفت أوتار قومية عروبية عزفها، وراحت
تستعيد وعيها، وتتلمس دورها على الساحة العربية بشكل عام، حركة للكتابة وللقاءات
وللمشاركة في المؤتمرات بعثت في النفوس بعض الأمل في أن يعود بعض التوازن لساحة
المدافعة الأولية؛ ولاسيما بعد أن اشتدت الحملة على الهوية العربية والإسلامية،
وتعالت نداءات التفتيت في كل بلاد العرب والمسلمين.
بغبطة بالغة استقبلت الساحة العامة عودة الصوت أو عودة الروح إلى الجسد الكبير
المسجى، ولكن لم تلبث هذه الغبطة أن ذوت وبردت ثم تحولت إلى تساؤلات موضوعية حول
حقيقة هذا الحراك وماهيته وقبلته!! لقد خرج رجال المد العربي في القرن الحادي
والعشرين على أبناء الأمة خروج أهل الكهف يوم خرجوا من كهفهم متلطفين. الثوب نفسه،
والكلمات نفسها، والأشخاص أنفسهم، وكأننا أمام حالة ارتدادية تحاول أن تستعيد
الماضي ليس بمناخاته وطقوسه فقط كما يحاول الماضويون وإنما بشخوصه أيضا كما حلمت
بعودة (الغائب المنتظر )الكثير من فرق المسلمين.
ومع أنه لا يخفى علينا مقام جيل من القوميين العرب في ميادين الفكر والثقافة
والقدرة على استقراء التاريخ والوقوف عند معالمه وقوانينه وأسراره إلا أننا نفاجأ
بهؤلاء الرجال الذين كنا نظن عندهم بعض الرجاء لهذه الأمة ما يزالون متسمرين عند
تجارب الماضي القريب الكالحة يعيدون تجميل قبيحها، والدفاع عن مخازيها، والتعبد في
محاريب طغاتها.
ثم
إذا أتيح لك أن تحاور واحدا من هؤلاء فتسأله عمن صنع ليل هذه الأمة، فصادر حرية
أبنائها، وكسر في السجون والمعتقلات إرادتهم، وذوب بالأسيد عظامهم، وقادهم تحت وعود
الأمل الخادع والنصر الكاذب إلى الفقر والجوع والخوف الهزيمة أجابك جواب درويش من
دراويش (الملاخانة) إنه القدر الغالب، والعدو الغادر، والجماهير فاقدة الوعي
والتمييز، فكانت الهزيمة بحقنا قدرا مقدورا وحتمية من حتميات التاريخ لا مفر منها
ولا مقر إلا في قرارتها، أما الزعماء الملهمون فهم فوق المساءلة وهم وجلاوزتهم لم
يكونوا إلا ضحايا المعارضات الداخلية الغبية التي لم تحسن بسط الخدود للمداس أو مد
الأعناق لسكين الجلاد..
هذا
الصوت العروبي الذي ما يزال يدور في فلك مستبد عدا ومستبد جلس يصفق هنا ويترحم هناك
أو يأمل بعودة قريبة للغائب الذي ما نزال نسمع كل يوم تسويغاً لخطاياه وتبريرا
لآثامه؛ نقول هذا الصوت قد فجعنا بنفسه، وأعادنا إلى المربع الذي يقال للقائل فيه:
ليته سكت.
لقد
تغير الكثير من ملامح ساحة الصراع ومحاوره ومقدماته منذ خمسينات القرن الماضي. نحن
الآن نعيش في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والمطلوب من جميع القوى
والأحزاب والحكومات والشخصيات أن تعيد تحديث برامجها الذهنية بمعطيات العقد أو
العام أو الشهر الذي نعيش فيه. أوردوا بالأمس أن هناك برنامجا للغوغل جديد، أيها
السادة يا رجال الأمة ويا نساءها حدثوا مدخلات برامجكم الذهنية ثم تحدثوا إلى
شعوبكم من جديد...
نتمنى لرجال العروبة إطلالة حقيقية على عالم المستقبل علهم يكونوا معاونين على جبر
ما كسروا، ورتق ما فتقوا، وسد الثغرة التي أحدثوا.
(*) مدير مركز
الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية