التحرش، والتحريش الجنسي
ما الدور الوقائي للفن والإعلام؟
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
صُدم الرأي العام المصري، مساء ثاني أيام عيد الفطر المبارك 1429هـ بقيام ما يزيد على 100 شاب (تتراوح أعمارهم ما بين 15 - 22 عاماً)، بالتجمع على رصيفي شارع جامعة الدول العربية بحي المهندسين بالجيزة، ثم الانقضاض علي "وليمة" من فتيات ونساء عابرات، وتمزيق ملابسهن/ حجابهن، والاعتداء عليهن، وعلي من دافع عنهن. وكانت أجهزة الأمن قد ألقت القـبض علي حوالي 38 منهم، أمر المحامي العام الأول لنيابات شمال الجيزة بحبس32 متهما أربعة أيام، ووجه لهم تهمة هتك العرض والفعل العلني الفاضح. كما قرر تسليم 6 أحداث إلي أسرهم، والتحفظ علي 3 فتيات من الضحايا للاستماع إلي أقوالهن.
التحرش الجنسي في الشوارع والأسواق، وفي سائل المواصلات وأماكن العمل، ومن خلال التليفون والإيميل، تحول إلى "ظاهرة خطيرة علي السلوك العام" تتزايد معدلاته يوما بعد يوم. وهي لم تعد مقتصرة على الألفاظ الخارجة والجارحة، بل تنوعت في أشكالها: إشارات بذيئة أو لمس الجسد، أو التحرش والملاحقة في الشارع، أو عبر التليفون والإيميل الخ. أفعال تشكل إيذاء بدنياً ومعنويا، وشعوراً بالانتهاك، وعدم الأمان. ومن المؤسف أن هذا الأمر طال محجبات بنسبة تصل إلى 60% ممن تم التحرش بهن(1).
كما تعيد هذه الحادثة للأذهان وقائع جريمة أخري وقعت ليلة وقفة عيد الفطر من العام قبل الماضي. كذلك تنامي عرض وقائع قصتها بعض من أعتدي عليهن عبر برامج في قنوات فضائية، وقد قضت محكمة بالسجن ثلاث سنوات علي مرتكب احدي تلك الوقائع.بيد أن تلك الجريمة الأخيرة هي غير مسبوقة، كونها تعدت الطابع الفردي إلي ما يشبه "الجريمة الجماعية المنظمة"، وبخاصة أنها أتت بعد شهر رمضان، شهر الطاعات والقربات.. صوماً، وصلاة، وتلاوة، وقياماً، وزكاة. كما أنها تأتي ولما يجف بعد مداد أقلام "جماعات الحياء"، كما ُبحت أصوات الحملات المطالبة "بنشر الحياء في الشارع المصري" لمحاربة تلك" الظاهرة "المسكوت عنها (2).
. يشير كثيرون إلي أن ما يُحرض علي مثل تلك الحوادث هي أعمال فنية سينمائية ومسرحية، و"كليبات فضائية" تحتوي علي "مشاهد ورقصات ساخنة"، تفعل فعلها في هؤلاء "المتحرشين" الذين راحوا يفرغون ذلك "التحريش الجنسي" في المارة من فتيات ونسوة. فما هي الأسباب المسئولة عن تنامي هذا "السعار / الهوس الجنسي" الذي طفا بشكل مفاجئ وصادم على سطح مجتمعاتنا، وما علاجه، وما دور الفن والإعلام.. الهادف الجميل؟.
أسباب مُحرضة
- لانشغال البعض بتوفير المتطلبات المادية المُلحة.. تقلص الدور التربوي الأسري الغارس للقيم، والمراقب لسلوكيات أفراد الأسرة.
- غياب دور المدرسة التربوي، وضعف تأثير المقررات التربوية المدرسية، ودور المعلم/القدوة.
- التأثر بـ"الفن الهابط والمُسف"، فغالب وسائل الإعلام، تطارد الناس طوال ساعات اليوم بـ" تسلية مُخدرة"، وبث مشاهد تنافي قيم الحياء والعفة، وتخالف احترام "كينونة، وآدمية وكرامة وحقوق المرأة". فعرض جسدها العاري "كسلعة" لتسويق الفيديو كليب والأفلام والمسرحيات. لقد تحولت السينما إلي تجارة، والمسرح إلي مرقص، وهناك مئات الفضائيات، ومثلها من أشرطة الفيديو، و"الكاسيت" تطل برأسها، و"بإسفافها" البعيد عن خصائص "الفن الجميل"(3).
- لقد علت صيحات كثيرين:"لقد فقد العمل الفني شرفه"، فغالب الإعمال الفنية والدرامية "غثة" المضمون تتناول أموراَ وتفاصيل حياة هامشية، بعيدة عن خضم الحياة الواقعية. لكنها باتت تـُعني أكثر بـتزيين الشكل، وتتباري وتبرع في إغراق العمل، بـ"التوابل الفنية"(رقصات ماجنة، ولقطات غرف النوم الخ)، والأعين علي"شباك التذاكر". ويسأل "ارنست فيشر": لماذا تكون المرأة مجرد أداة لإثارة الشهوات، وإشباع الرغبات؟، أليس ذلك تكريسا لصورة نمطية سلبية عن الفن والمرأة "كسلع" للاستهلاك، وهل هدف الفن السعي إلى إثارة الغرائز، فكلما خمدت غريزة أوقدوا غيرها، في صور متنوعة، وليبقي حدود الإشباع غير متناهية، وليستمر الطلب عليهما معا؟ (4).
- القنوات الإعلانية التي تجاوزت أهداف التعريف بالسلع إلى استخدام/ استغلال جسد المرأة ليل نهار في الترويج الاستهلاكي. –تكنولوجيا الهاتف المحمول وتقنياته (كالبلوتوث) من أخطر وسائل الاتصال مساهمة بإثارة الغرائز, فهي توفر كروت الذاكرة التي تتزايد سعتها التخزينية يوماً بعد يوم، مما يسمح بتخزين/تبادل/ إرسال /استقبال مئات الساعات.. صورة، وصوتاً.
- الإعلام "المتعولم" وبعض برامجه "العابرة للقارات" تحمل ملامح لا تحترم خصوصياتنا الثقافية والاجتماعية، بغية "فرض نمط ثقافي / اسري/ اجتماعي/ استهلاكي/ رأسمالي.. متغلب ومُسيطر.
- توافر الإنترنت "بمواقعه الإباحية" ، و"غرف دردشته غير السوية" بدون "رقابة أسرية" وبخاصة علي الأطفال، يعد أحد المخاطر الهامة، وله عواقب الخطيرة. فأكبر محركات البحث في العالم "غوغل" يؤكد أن أكثر المواقع التي يتم التردد عليها من مستعمليه هي المواقع الجنسية.
- "عولمة القضايا الجنسية" و"ثقافتها" المغـُلفة بإطار من "الحرية، وحقوق الإنسان"، وتمييع القيم المرتبطة بتكوين الأسرة في إطارها السوي والصحيح والصحي.. يتم وضع نماذج آخري مغايرة للأسرة السوية، وللعلاقات بين الجنسين. ولم يعد ثمة "حياء" من مذيعي فضائيات عندما يسألون ضيوفهم عن أماكن الاستثارة الجنسية لدى المرأة، وطرق الإشباع الجنسي في العلاقات الشاذة، بل ونشر هذه "الثقافة" مجاناً في مطبوعات فاخرة.
- هناك مطالب "دولية" بتغيير المناهج الدراسية لتوفير "الثقافة والتثقيف الجنسي" في المدارس للأطفال والمراهقين، وتوفير وسائل "الجنس الآمن، وموانع الحمل"، والحق في الإجهاض للمراهقات اللاتي يحملن خارج نطاق الزواج. يلاحظ أن بعض وسائل الإعلام العربية تقوم بدور أساس في إيجاد حالة من "التحريش" والإلحاح لشد الجمهور نحو الأساليب الغربية للمعالجات الجنسية، سواء من النواحي الثقافية أو التعليمية أو القانونية أو السياسية لكي يتبعها المناقشات والحوارات الثنائية والجماعية لإيجاد "رأي عام" داعم لتلك المنظومة الإباحية.
- "الصحافة الصفراء" التي تسعي "للتحريش"، ترويج وإشعال (السعار الجنسي)، رغبة في زيادة مبيعاتها، أو تحت مسمي نشر الحوادث والقضايا ذات الصلة.
- غياب خطاب قيمي مؤثر في الشباب، ولعل ذلك "التحريش الإعلامي" سبب رئيس ينازع الخطاب القيمي وقد يجعله بلا مردود إيجابي.
- سلبيات الظروف الاقتصادية.. من عطالة وتضخم وغلاء، والمبالغة في تكاليف الزواج، وتأخر سنه (عزوبة وعنوسة).
- الفراغ الفكري والثقافي، وتنامي "ثقافة العنف"، والميول العدوانية. فالتحرش قضية عنف، مثل السرقة والقتل؛ فلا يتصور أن يمارس شخص علاقة جنسية بالإكراه وفي وضح النهار، وأمام أعين الناس.
- عدم سد الفجوة التشريعية الرادعة، حيث يعتبر التحرش نوعا من "السب والقذف وخدش الحياء"، أما إذا كان باليد فيعد "هتكا للعرض، وفعلاً فاضحًا في الطريق العام". وتتراوح العقوبات بين الحبس شهر مع الغرامة، وقد تصل إلى الحبس 3 سنوات أو الغرامة. هناك تصور خاطئ بأن هتك العرض يعني الاغتصاب، فقط، وهناك شريحة كبيرة من الضحايا لا يعرفن حقوقهن، وأن ما يتعرضن له من تحرش هو جرائم يعاقب عليها القانون. خاصة أنه يسبب لهن أضرارًا نفسية وعصبية قد تمتد آثارها لفترات طويلة.
- عدم انضباط الشارع وبخاصة في المناطق المحتمل كثيرا حدوث عمليات التحرش فيها. ولعل اعتبار قضايا التحرش الجنسي غير ذات أولوية أو وقائع عرضية، عاملا مساعدا يشجع المتحرشين على ارتكاب جرائمهم، وهم يشعرون أنهم في مأمن من الملاحقة والعقاب.
- عدم طرح هذه المشكلة بالشكل الكافي، والتوعية بالمخاطر الشخصية والاجتماعية والأمنية والسياحية لهذه الظاهرة.
ما العلاج؟
- استعادة دور الأسرة في تربية الأبناء، وغرس القيم الخلقية التي تعصمهم من الزلل وارتكاب المعاصي. فلنباشر ـ بحرص وعناية وصبرـ تربية أولادنا صغارا ليسهل عليهم تكريس القيم.. غلمانا وشبانا:"أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم"( رواه ابن ماجه). ففي حسن الخلق، وإحياء قيم المجتمع من عفة وحياء ورحمة وتراحم..الأمن والسعادة، والنهوض، ولله در الشاعر حينما قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت = فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
- عدم إعطاء المبررات للجاني، واستحداث قوانين "مُغلظة" خاصة بالتحرش الجنسي لحماية النساء والفتيات، وصون أعرضهن.
- تفعيل الخطاب الثقافي/الدراسي المؤثر في الشباب، والاهتمام بهم؛ ومخاطبتهم بلغتهم، واستثمار طاقاتهم في الطرق مشروعة وضرورة العمل علي سرعة وتيسير شان زواجهم.
- التوعية بالمخاطر التي تستهدف فرض "منظومة الغرب الإباحية". ففي عصر "السيولة" القيمية، و"الذبذبة" الأخلاقية، وشيوع العنف الحاكم لعصر العولمة والحداثة وما بعدها يبقى المعيار القيمي والسلوكي هو تعاليمنا وثقافتنا.
- السعي لإنتاج فن رفيع راق، والحرص علي "فضاء إعلامي مسئول" يرتقيان بالمجتمع، وينهضان به في كافة المجالات.
إن تفشى هذه "الظاهرة" دفعت الكثير من صناع السينما لتقديم أعمال فنية ترصدها، فالسينما هى مرآة المجتمع. فالمؤلف "محمد دياب" رصد هذه الظاهرة خلال فيلمه السينمائي الجديد "789" الذي سيقوم بإخراجه في أولى تجاربه الإخراجية، ويجسد فيه دور البطولة النسائية بشرى، الفتاة المصرية التي تتعرض للتحرش الجنسي، وتخوض معركة قضائية كبيرة حتى تثبت حقها، ويشاركها البطولة نيللى كريم ، وباسم السمرة وأحمد الفيشاوي.العمل من إنتاج شركة "نيو سنشرى" للإنتاج السينمائي التي رصدت له ميزانية 10 مليون جنيه، حيث يستعرض دياب فى الفيلم بعض مظاهر هذا التحرش . أما المخرج "أحمد رشوان" فقرر عرض هذه الظاهرة في محور من محاور فيلمه "طعم الحياة" الذي بدأ فى تحضيره، ومن المقرر أن يشارك في بطولته أحمد الفيشاوي وسوسن بدر، ويستعرض أيضا بعض المشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة المصرية.
- يبقى على عاتق مؤسساتنا التربوية والتعليمية والعلمية والإعلامية والاقتصادية دور كبير ورائد في تجديد حياة المجتمعات نحو الأمن والأمان والسعادة والنهوض والريادة.
هوامش
1-للمزيد حول هذا الموضوع طالع بعض المواقع والمدونات علي الشبكة العنكبوتية.
2- كان علي رأس تلك الحملات أ.د/ "محمد سيد أحمد المسير" أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر "رحمة الله تعالي"، كذلك الحملة القومية لمحاربة "التحرش الجنسي" التي يقودها للمركز المصري لحقوق المرأة.
3- أنظر مقال لكاتب هذه السطور، أ.د. ناصر احمد سنه:"تسلية مخدرة"..أم فن جميل؟، مجلة الدوحة، العدد الثامن، جمادى الأول 1429هـ ـ يونيو 2008م، ص:152-157، قطر.
4- بتصرف، ضرورة الفن، ترجمة اسعد حليم، مركز الشارقة للإبداع، د.ت.، ص 314.