كبيرة الإعراض عن القراءة
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
يقول الراشد:(الإعراض عن القراءة من كبائر الناس الكبيرة ، ولعلها الموبقة الحادية عشر بعد أن أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتناب العشر الموبقات ، فنعم فتيان الدعوة لو قرءوا...).
إن القراءة ينبوع العطاء المتجدد، ومصدر الفعالية المستمرة ، ووسيلة الوعي المتدفق ، تكمن أهميتها في أنها الخلفية القوية التي يجب أن تكون وراء تفكيرنا وتصوراتنا ، عن طريقها نصل إلى سعة الفهم وتعميق الفكر وألمعية الذهن وتزويد الرصيد، بها ننمي مكتسباتنا العلمية والمعرفية سواء في فقه الشرع أو في فقه الواقع، وكلا الفقهين من ضروريات الالتزام الفردي والجماعي ، ومن أبجديات التغيير والتمكين.
فضحالة القراءة أو نضوب الثقافة ، تكرس الأمية العلمية والفكرية والثقافية ، ومن ثم الابتعاد عن دور الشهادة على الناس ، لأن الشاهد يفترض فيه الحضور ، والفقراء علميا ومعرفيا شهود كغياب إذا حضروا لم يعبأ بهم وإذا غابوا لم يفتقدوا .
فالإعراض عن القراءة والمطالعة ، والجفول من الكتاب واستثقاله والخصومة معه ، وانخفاض منسوب المقروئية ، كلها خوارم عدها الراشد كبيرة إن لم تكن موبقة ، وقد أصاب كبد الحقيقة لله دره خاصة في مجال الدعوة ، لأن كثيرا مايكون القصور الذي نراه راجع أساسا إلى الفقر العلمي والمعرفي والثقافي ، ولايمكن أن نواكب الواقع المتغير بدعوتنا ونكون بها في مستوى العصر ، ونغري وننافس بها الآخرين ، بتخلف معرفي وفقر علمي واستهتار بالكتاب .
فكلما كثر إطلاع المرء وتعددت قراءاته ، كلما اتسعت مداركه وآفاقه وكثر علمه وزاد عمله وامتلك النظرة الصائبة في الحكم على الأشياء .
فالقراءة الدائمة والمستمرة والواعية والمبصرة هي طريق الريادة والقيادة والسعادة والنجاح ، فقد سئل الأديب الفرنسي فولتير : (عمن سيقود الجنس البشري ؟ فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرؤون).
إن الروح العلمية التي من المفروض أن تسود الوسط الدعوي والحركي ، من أول سماتها الشغف بالكتاب اهتماما وقراءة وتحليلا ونقدا كذلك ، وكلما زادت نسبة هذا الشغف وارتفع مستوى هذه المقروئية كلما قويت عناصر المناعة الفكرية والعلمية والمعرفية لدى أبناء الدعوة والحركة واتسع أفقهم الفكري وتخلصوا من الأحادية الثقافية والقراءة الانتقائية التي يتهمون بها من طرف خصومهم هذا إن قرءوا ، ومن ثم امتلكوا القدرة على الفلترة لما يقرءون وتوظيف ذلك في ترقية أنفسهم أولا وخدمة دعوتهم وحركتهم ومشروعهم ثانيا.
كذلك لابد أن نشير في هذا المجال إلى المعدل الذي ذكره الدكتور طارق السويدان في صناعة الثقافة ، إذ يرى أن المعدل المقبول للقراءة يجب ألا يقل عن كتابين شهرياً , كل كتاب ما بين 200 إلى 250 صفحة من الحجم المتوسط . اقل من هذا المعدل لن يكون بالإمكان تكوين ثقافة.
فلو استعملنا هذا المعدل ، فأين يمكن أن نصنف ابن دعوة وحركة وأمة ورسالة منطلقها (اقرأ) ، لايفتح كتابا في شهور وربما في سنة أو أكثر .
فمن القصور والتفريط أن الدنيا من حولنا غرقى في بحر المعلومات ونحن نعاني جوعا وشحا معرفيا وعلميا وثقافيا ، ولو اطلعنا على ترتيبنا العالمي في نسب المقروئية وطبع الكتاب مقارنة بغيرنا أعداؤنا على وجه الخصوص لوجدنا واقعا مرا ووضعا كارثيا ومخيفا ، ولأدركنا لماذا لم نتقدم بل تقادمنا ، ولم نتطور بل تورطنا في مدارك التخلف والتبعية والذيلية كأمة في كثير من الأحيان .
والقراءة التي نقصدها ، والتي تكون من مستلزمات الإيجابية والفعالية والوعي ، ليست الترف الفكري الذي عناه طه حسين بقوله:(كثيرا مانقرأ لنقطع الوقت ، لالنغذ العقل والذوق والقلب ، وكثيرا مانقرأ لندعو النوم ، لالنذوده عن أنفسنا)، بحيث إذا أصيب أحدهم بأرق أمسك كتابا، فإذا بالنوم يحضر في الحين .
فبقدر منزلة الكتاب عندنا، وقيمته في ساحتنا والشغف به لدينا ، تتحدد قيمتنا في الحياة ، كما قال الزيات صاحب مجلة الرسالة :(مادمنا لانرى الكتاب ضرورة للروح ، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن ، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش الحياة).
ولو تأملنا سيرة سلفنا الصالح لوجدنا عجبا في شدة الاهتمام بالقراءة واللهف على الكتاب حتى ملأوا الدنيا علما ومعرفة ففرضوا احترامهم وهيبتهم وريادتهم على العالمين ، فهذا الإمام الزبير بن بكار تنظر زوجته إلى ناحية في البيت مملوءة بالكتب فتقول:(والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر)، لشدة ولعه بها وعنايته بدراستها.
ويحدث الإمام ابن الجوزي عن نفسه:(وإني أخبر عن حالي ماأشبع من مطالعة الكتب ، وإذا رأيت كتابا لم أره ، فكأني وقعت على كنز ، فلو قلت أني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في طلب الكتب ، فاستفدت بالنظر فيها ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعاداتهم وغرائب علوم لايعرفها من لم يطالع).
وهذا أبو الحسن الفالي اضطر لشدة فقره وحاجته لنفقة عياله لبيع كتاب الجمهرة لابن دريد بستين دينارا ، وكان الذي اشترى الكتاب الشريف المرتضى ، فوجد في آخر الكتاب أبياتا غاية في اللوعة والتأثر سطرها أبو الحسن وهو يبيع كتابه الذي كان له أرفع قيمة وأسمى مكانة في نفسه وشعوره قال فيها:
أنست بها عشرين حولا وبعتها لقد طال وجدي بها وحنيني
ماكان ظني أنني سأبيعها ولو خذلتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شؤوني
وقد تخرج الحاجات ياأم مالك كرائم من رب بهن ضنين
فلما قرأ الشريف الأبيات أرجع النسخة إلى أبي الحسن وترك الدنانير له).
وحتى لانبعث اليأس في النفوس بأن المعاصرين لايملكون هذه الروح الشغوفة بالكتاب والمتلذذة بالمطالعة ، فإننا لابد أن نشير إلى تفرد بعض الأفاضل بذلك فأبدعوا وأنتجوا وأثمروا ، فهذا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يتحدث عن تجربته فترى العجب العجاب يقول:(لو أحصيت معدل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم ، فلو جعلت كل ساعة عشرين صفحة ، اقرأ من الكتب الدسمة نصفها ومن الكتب السهلة نصفها ، لكان لي في كل يوم مائتا صفحة...).
فأين نحن من همة القوم وسعة إطلاعهم وتنوع قراءاتهم وحسن استغلالهم لأوقاتهم ، مجسدين عمليا قاعدة:(الوقت هو الحياة).
فإلى القراءة إلى القراءة ، حتى نكون عند حسن ظن القائل:(نعم فتيان الدعوة لو قرؤوا).