الموقف من التراث
جميل السلحوت
يتساءل كثيرون عن جدوى كتابة وتدوين بعض جوانب تراثنا الشعبي القولي، فبعضهم يعتبرون ذلك من باب التسلية، وبعضهم الآخر يستنكر عملية التدوين على اعتبار انها تسجل لمراحل " تخلف " من حياة شعبنا وامتنا، وبعضهم يستنكر مضمون هذا التراث لأنه لم يعد يناسب المرحلة المعاشة، وبعضهم يهاجم الكاتب الذي يقوم بعملية التدوين معتبرا ان المضمون الذي جاء في جزئية التراث المدونة يمثل موقف الكاتب.
ولهذا ولأسباب اخرى كان لا بد من الوقوف وقفة عابرة ومختصرة مع التراث، لأن التفصيل في ذلك يحتاج الى مجلدات.
وفي البداية دعونا نتساءل عن مفهوم التراث الشعبي، وللإجابة على هذا السؤال يجب ان نعود الى الأصل اللغوي لكلمة تراث، فهي مشتقة من الفعل ورث يرث، وهو ما ورثه الأبناء عن الآباء والأجداد، واقتران التراث بالشعب ومصطلح التراث الشعبي يعني ما ورثناه من حكمة الآباء والأجداد، مع التأكيد على ان كل حضارتنا السابقة لجيلنا هي إرث الآباء والأجداد، فالدين ورثناه عن أبائنا واجدادنا، فكمسلمين مثلا فإن الوحي نزل على الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه، واكتمل الدين الاسلإمي في عهد النبوة، ونحن ورثنا هذا الدين أبا عن جد وجيلا بعد جيل، وكذلك الحال بالنسبة للديانات الأخرى ، والكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الاقصى وغيرها وكذلك كنائس القيامة في القدس والمهد في بيت لحم والعذراء في الناصرة وغيرها هي ما ورثناه عن أبائنا وأجدادنا.
والأدب الرسمي الفصيح بدءا من الشعر الجاهلي والمعلقات السبع مرورا بشعر صدر الدولة الاسلامية والعصور اللاحقة الى الجيل السابق لنا، يضاف اليه عيون أمّهات الكتب في مختلف المجالات كلها مما ورثناه عن الأباء والاجداد ومبدعوها معروفون بالإسم .
وما يهمنا هو التراث الشعبي وهو مجهول القائل بل هو ابداع شعبي جماعي ،أو ربما أبدعه شخص بعينه فاستساغه الشعب وردده دون ذكر قائله، وقد أطلق الباحثون الغربيون على الأدب الشعبي"علم الفلكلور."
والتراث الشعبي ينقسم الى قسمين هما:
1) التراث العملي: وهو ما يتعلق بالحضارة العملية الموروثة مثل الأبنية والمدن والقرى والحصون، والازياء الشعبية، وادوات المطبخ، وادوات الزراعة، والادوات الموسيقية ......الخ
2) التراث القولي: وهو الأقوال الموروثة مثل الأمثال ، الحكايات ، الأغاني ...الخ
التراث جزء من الهوية الوطنية:
والتراث في مجمله هو حضارة الآباء والأجداد ، ولا يمكن لشعب ان ينتج حضارة اذا لم يعرف الاستقرار، وأمّتنا العربية أورثت العالم أجمع حضارة كانت الرائدة في مختلف المجالات، بل تربعت على عرش الحضارة العالمية دون منازع حتى القرن الرابع عشر الميلادي بعد ان نشبت الصراعات داخل أقاليم الدولة.
ونحن كفلسطينيين وكجزء من الأمتين العربية والإسلامية، ورغم كافة المؤامرات التي حيكت ضد بلادنا، وكثرة الغزوات التي تعرضنا لها عبر التاريخ، الا اننا ساهمنا مساهمة ملحوظة في بناء الحضارة الانسانية، والمراقب المحايد لفلسطين التاريخية سيجد انها أشبه ما تكون بمتحف كبير يحوي في جنباته كنوزا حضارية، بناها الآباء والأجداد عبر التاريخ، وهذه الحضارة هي جزء رئيسي من مكونات الهوية الوطنية الممتدة تاريخيا، واذا كان الآخر ينبش باطن الارض بحثا عن شيء ولو ضئيل ليثبت وجوده التاريخي في هذه البلاد، فإن مئات المدن والقرى والمساجد والكنائس، والزوايا والتكايا والقصور والحصون والكهوف والمنحوتات والرسومات تقف شامخة امام البعيد والقريب وشاهدة بأن هذه الديار تأبى أن تكون الا فلسطينية عربية.
ولا يخفى على أحد ان تراثنا الشعبي يتعرض لعمليات طمس وتشويه وسرقة، ويحاول الآخر ان ينسبه اليه بعد ان يجردنا منه في محاولة لإثبات وجوده ونفي وجودنا، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك، وقد جاءت هذه المحاولات المعادية مصاحبة لنكبة الشعب الفلسطين وتشريد ملايين الفلسطينيين في اصقاع الارض، وعدم وجود دولة وطنية ترعى شؤون الفلسطينيين، فإن ضياع التراث الفلسطيني اصبح مسألة جدية، ومن هنا تنبع أهمية جمع التراث الفلسطيني ووضع الجانب العملي منه في متاحف، وتدوين القولي واخضاعه للبحث والدراسة ونشره.
وقد يتساءل البعض مثلا من باب الردة الثقافية، أو الانسلاخ عن الجذور، أو من باب الجهل عن جدوى جمع والحفاظ على اشياء تراثية عفا عليها الزمن؟ مثل ماذا نستفيد من"الطابون" ومن "الصاج" اذا وضعناهما في متحف، ونفس الشيء المحراث البلدي وغيره؟ وانا اقول ان "الطابون" و "الصاج" -الذي كان يُعد عليه خبز "الشراك"- اللذان استعملتهما أمّهاتنا وجداتنا، يحق لنا ان نفخر بهما، لأن غيرنا لم يكن يعرف الخبز في تلك المرحلة، وهذا لا يتناقض مع استعمال زوجتي وابنتي للفرن الكهربائي مثلا في هذه المرحلة، واستعمالنا للمحراث البلدي لحراثة أراضينا على الحمير والبغال والبقر هو موضع فخر لنا، سابقا والآن ولاحقا، فبلادنا فلسطين جبلية أجزاء كبيرة منها لا يمكن استعمال الآلات الزراعية الحديثة فيها لوعورتها، وبما ان شعبنا شعب مزارع فإنه لا يترك أرضه الجبلية بدون استغلال، ولا سبيل أمامه لحراثتها الا بهذه الطرق، وقد سجل الكثير من السائحين الى هذه البلاد اعجابهم بقدرة الانسان الفلسطيني على استغلال ارضه الجبلية، وتحويلها لى حدائق غناء رغم وعورتها، وهذا بالطبع لا ينفي استعمال الألات الحديثة في السهول.
أما بالنسبة للتراث الشعبي القولي، فإننا مطالبون ايضا بجمع وتدوين هذا التراث بما له وما عليه، بإيجابياته وسلبياته، وما قد يعتبره البعض سلبيا في عصرنا هذا لم يكن كذلك في عصره.
ويجدر التنويه هنا ان تراثنا الشعبي تراث طبقي، فكل طبقة اجتماعية افرزت تراثها من أغان وحكايات وامثال ونوادر وعادات وتقاليد .......الخ ومن السذاجة بمكان ان يرى البعض ان من يدون جانبا من جوانب التراث، ويقوم بنشره انما يعبر عن نفسه، فمثلا الأغنية الشعبية الغزلية التي قالها احد الأعراب والتي يصف فيها حبيبته بقوله:
بوزك يلمع مثل بوز البسطار
وحبك في قلبي مثل دبيك البغال
لا يمكن ان نصف ناقلها بأنه قائلها، وكذلك الحال بالنسبة للحكايات الشعبية التي تحمل مضمونا سلبيا من المرأة، وكما قالوا ناقل الكفر ليس بكافر ..وهكذا .