دولة الحق والقانون
ودساتير الطوارئ العربية
د. لؤي عبد الباقي
رغم التباين الواضح بين أنظمة الدول العربية، ما بين جمهورية وملكية أو اتحادية ومركزية، لا نجد اختلافاً كبيراً بين دساتير الدول العربية من حيث تأكيدها النظري على أهم أسس ومبادئ دولة الحق والقانون. فمعظم هذه الدساتير تنص على الفصل بين السلطات الأساسية للدولة، وعلى مبدأ سيادة القانون، وتتضمن نصوصاً حول الحقوق المدنية والحريات وضمانات العدالة. بل إن دساتير بعض الدول العربية لا يشوبها أيّ غموض في تأكيدها الصريح على مبادئ مساواة المواطنين أمام القضاء، وتكافؤ الفرص، وحرية الرأي والتعبير، وحق المقاضاة أمام محاكم مستقلة وعادلة، وبراءة المتهم ما لم تثبت إدانته، ومنع الاعتقال التعسفي والتعذيب الجسدي والنفسي بحق المتهمين ([1]).
إلا أن هذه القواعد والضمانات الدستورية والبنى القانونية الرسمية تبقى معطّلة في معظم الدول العربية عبر أنظمة قضائية وأمنية موازية تتمتع بصلاحيات وسلطات تفوق صلاحيات النظام القضائي العادي. وهذه الأنظمة القضائية البديلة، التي تسمح للسلطات التنفيذية بتجاوز القواعد الدستورية ومخالفة الإجراءات القانونية المَرعيّة، تستند إلى قوانين الطوارئ التي نصت عليها معظم دساتير الدول العربية. وتستمد قوانين الطوارئ مشروعيتها من نظرية الضّرورة المعتمَدَة في الفقه القانوني، والتي تجد جذورها في الفقه والتشريع الإسلامي، كما يُقرُّ القانون الدولي بشرعيتها أيضاً. ولكن بالرغم من أن نظريات الفقه القانوني والإسلامي وقواعد القانون الدولي وَضعت شروطاً واضحة لتقييد استخدام قوانين الطوارئ ضمن أضيق الحدود التي تفرضها الضّرورة، إلا أن الدول العربية تُعدّ من أكثر دول العالم توسعاً في استخدام قوانين الطوارئ وتعطيل القواعد الدستورية والقوانين المرعيّة؛ الأمر الذي يكرِّس تعطيل وتقويض أسس دولة الحق والقانون في معظم هذه الدول.
يقترن مفهوم دولة الحق والقانون بمفهوم العدل الذي يتجلى بجملةٍ من المبادئ التي تُجسد الحقوق والواجبات وتصون الحريات الإنسانية في الدولة على أساس مساواة المواطنين، حكاما ومحكومين، أمام القانون. ويمثّل النظام القضائي الملاذ الآمن لحماية أفراد الأمة من بغي بعضهم على الآخر، ولتحصينهم ضدّ إمكانية جور الحكام الظالمين عليهم. لذلك يُعدّ النظام القضائي للدولة بمثابة الدّرع المتين الذي يؤمِّن الوقاية من الظلم، ويرسخ قيم العدل، ويحمي مصالح الإنسان الأساسيّة والعامة.
والعدل هو القيمة العليا التي توافقت عليها شرائع السماء وقوانين البشر جميعاً. وقد نصّ القرآن الكريم على قيمة العدل في عدد غير قليل من النصوص الواضحة ذات الدلالة قطعية التي لا تحتمل التأويل. بل إن القرآن أمر بالعدل دون أدنى انحياز للمصلحة الشخصية أو العائلية، حتى وإن جاء لصالح الأعداء والمبغضين. ففي سورة المائدة نقرأ قوله تعالى: ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى (من الآية 8). وفي سورة النساء: يا أيُّها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين (من الآية 135)، وفي آية أخرى: وإذا حكمتم بين النَّاس أن تحكموا بالعدل (النساء: 508).
وتنقسم القواعد القانونية التي يتضمنها النظام القانوني للدولة، من حيث أهميتها، إلى مراتب مختلفة، تحتل فيها القاعدة الدستورية قمة التسلسل الهرمي للقواعد القانونية، ثم تأتى القاعدة التشريعية وتليها القرارات الإدارية. وبالتالي فإن الدّستور يُعَدّ القانون الأسمى للدولة وسيد القوانين وروحها، فهو يتضمن مجموعة المبادئ القانونية والقواعد الأساسية التي تنظم سلطات الدولة وتحدد المبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤمن الأمة بأنها تجسد الشرعية والمصلحة العليا. ويترتب على ذلك أن جميع القوانين يجب أن تنبثق من روح الدستور وألا تخالف النص الدستوري ([2]). فإذا ما نص الدستور على مبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء فذلك يعني أن أي قانون أو إجراء يسمح للسلطة التنفيذية بالتدخل في عمل السلطة القضائية يعد غير دستوري. وهذا ما ينسحب أيضاً على القوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية في دول تنصّ دساتيرها على مرجعية التشريع الإسلامي. فالدستور هو الضّامن الأول للحقوق والحريات الأساسية، وهو العنصر الأهم في دولة القانون، لذلك يتفق فقهاء القانون الدستوري على مبدأ سموّ الدستور ([3]). بهذا المفهوم فإن دولة العدل والقانون هي دولة دستوريّة بالضّرورة.
إلا أن مجرد وجود دستور وقوانين تنص على مبادئ الحقوق والحريات ليس كافياً لقيام الدولة الدستورية أو دولة القانون، فالأنظمة الدكتاتورية والشمولية التي تهيمن فيها السلطة التنفيذية على كافة سلطات الدولة لها دساتير وقوانين أيضاً. لتحقيق مبدأ سيادة القانون، لا بد من ضمان الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والاستقلال التام للسّلطة القضائية مع تمكينها من الرقابة على دستورية القوانين وعلى الإجراءات والقرارات الإدارية والتنفيذية. ففدولة القانون تُخضع الحكام والمتنفذين في الدولة لحكم القانون على قدم المساواة مع سائر المحكومين. وهذا لا يتحقق عملياً إلا ضمن نظام حكم يعترف بحق الأمة في محاسبة الحكام، ويمكنها من مراقبة أدائهم ومدى التزامهم بالدستور والقانون، بل ومن فرض إرادتها عليهم وخلعهم إذا اقتضى الأمر. وهذا هو الضمان الحقيقي الذي يصون السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية من الانحراف عن المبادئ والقيم والقواعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤمن الأمة بأنها تجسد الشرعية والمصلحة العليا للدولة. وبالتالي فإن دولة القانون والدّستور هي الدولة التي تتمتّعُ فيها الأمّةُ بإرادة وسلطة أعلى وأسمى من إرادة وسلطة الحكام. وهذا ما اصطلح على تسميته بسلطان الأمة أو سيادة الشعب. من هنا فإن دولة القانون والدستور هي الدولة التي تتمكّنُ فيها الأمّة من ممارسة سيادتها وفرض إرادتها بشكل عملي.
بناءً على ذلك، رغم أن معظم دساتير الدول العربية تأكد نظريّاً على أهم أسس ومبادئ دولة الحق والقانون، وتنص شكليّاً على مبدأ الفصل بين السلطات وسيادة القانون، وتتضمن نصوصاً حول الحقوق المدنية والحريات الأساسية، إلا أنها لا تخلو من التناقضات والمثالب الخطيرة التي تقوض مبادئها الأساسية وتعطل دورها في الدولة. وأهم هذه التناقضات والمثالب الواضحة تتجلى في أن معظم الدساتير العربية تمنح رئيس السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة وتسمح له باستخدام قوانين الطوارئ دون قيد أو شرط. وبالتالي يتضح مما سبق أن دساتير الدول العربية لم توضع لكي تضمن تحقيق العدل أو لتحدّ من صلاحيات السلطة التنفيذية، بل صيغت نصوصها بشكل يؤسس لحكم دكتاتوري يحوّل الدولة ومؤسساتها إلى كيان يتمحور حول شخص رئيس السلطة التنفيذية فيجعل قراراته سابقة للدستور ولجميع القوانين والأنظمة المرعية.
[1] أ.د. محمود شريف بسيوني، الدساتير العربية ودراسة مقارنة بمعايير القوانين الدولية، المعهد الدولي لقانون حقوق الإنسان، 2005.
[2] المستشار سناء سيد خليل، النظام القانوني المصري ومباديء حقوق الانسان ، نشر البوابة القانونية ـ شركة الخدمات التشريعية ومعلومات التنمية.
[3] د. إحسان حميد المفرجي و د. كطران زغير نعمة و د. رعد ناجي ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، ، كلية القانون ـ جامعة بغداد ، 1990.