عفواً.. اعترافكم مرفوض!

م. محمد سيف الدولة

عفواً.. اعترافكم مرفوض!

م. محمد سيف الدولة

[email protected]

السيدات والسادة أعضاء مجلس العموم البريطاني،

السلام عليكم ورحمة الله،

أثار قراركم "غير الملزم" بالإعتراف بدولة فلسطين، كثيراً من الشجون والذكريات المؤلمة فيما وصل إليه حالنا بعد أن قرر أسلافكم منذ مائة عام أن يتبنوا ويقودوا تأسيس كيان صهيوني عازل وعنصري في أرضنا العربية، في أرض فلسطين الحبيبة.

فلقد تذكرنا مؤتمر "كامبل" وزير الخارجيـة البريطاني وتوصياتـه عام 1907، واتفاقيات (سـايكـس ـــــ بيكو) 1916، ووعد (بلفور) واحتلالكم لفلسـطين 1917، وصك الإنتداب البريطاني 1922، واسـتجلابكم لنصف مليون يهودي إلى فلسـطين في ربع قرن 1922 ـــــ 1947، واضطهادكم للشـعب الفلسـطيني ومطاردتكم للمقاومـة، وسـجونكم ومشـانقكم لأهالينا على امتداد سـنوات الاحتلال، ثم مسـاهمتكم فى جريمـة قرار التقسـيم 1947، وتسـليمكم فلسـطين إلى العصابات الصهيونيـة، واعترافكم (بإسـرائيل) 1948، وقبولكم لعضويتها في هيئـة الأمم المتحدة 1949، وتهديداتكم للدول العربيـة لحمايـة (إسـرائيل) وأمنها وحدودها في الإعلان الثلاثي البريطاني ـــــ الأمريكي ـــــ الفرنسـي 1950، وتحالفكم معها في العدوان الثلاثي على مصر 1956، والمشـاركـة في تسـليحها وتمويلها في مواجهـة الشـعوب العربيـة، وتوظيف حقوقكم الإسـتثنائيـة في مجلـس الأمن لحمايتها من أي إدانـة دوليـة، ثم مباركـة حكومتكم الموقرة لكل حروبها واعتداءاتها على شـعوبنا وآخرها العدوان الأخير على غزة وتأكيدكم على "حق" (إسـرائيل) في "الدفاع عن نفسـها" ضد مقاومتنا الوطنيـة التي تعتبرونها "جماعات إرهابيـة".

تذكرنا كل ذلك وتساءلنا، عن الخلفيات والغايات والنوايا الكامنة وراء إصدار مثل هذا القرار الآن، وهل هو قرار "صديق" للفلسطينيين والعرب وقضيتهم الفلسطينية!؟ أم أنه قرار خبيث مراوغ مناور يُبطن غير ما يُظهر!؟

وحتى لا نظلم المخلصين منكم أو نصد عن غير قصد أي نوايا طيبة قد تكون بينكم، فإننا سنفترض حُسن النية ونُناقش القرار على ظاهره، وسنبدأ بتوجيه الشكر إليكم للاهتمام بمشاكلنا وقضايانا، وسنحاول أن نستفيد من هذا الاهتمام المفاجئ لنوضح لكم حقيقة قضيتنا ولماذا يتوجب علينا أن نرفض قراركم الأخير بالاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، فربما ننجح فى كسب دعم الشرفاء والمخلصين منكم لقضايانا الحقيقية وليست المزيفة.

أولاً ـــــ إن فلسطين التي نعنيها، هي كل الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، بحدودها الدولية مع الأردن وسوريا ولبنان ومصر في عهد الإنتداب البريطاني 1922، هي فلسطين التاريخية ابنة الأمة العربية الواحدة. إنها الأرض التي عشنا عليها ولم نُغادرها أبداً على امتداد أكثر من 1400 عاماً، وقاتلنا دفاعاً عنها فانتصرنا ونجحنا في حمايتها والحفاظ عليها، فاختصصنا بها كفلسطينيين وعرب دوناً عن باقي شعوب الأرض كما اختص الإنكليز بإنكلترا والفرنسيون بفرنسا والصينيون بالصين وهكذا... فأصبحت وطناً لنا وحدنا، مثلما أوطان الشعوب الأخرى هي لهم وحدهم، لا حق لنا ولا لغيرنا فيها؛ وعليه فإنه لا يحق لنا حتى لو أردنا أن نُفرط بشبرٍ واحد منها لأنها ملكية مشتركة بين كل الأجيال الراحلة والحالية والقادمة.

إنها سُنن الله وسُنن التاريخ التي تُنظم طريقة تشكل الأوطان والأمم وتطورها على مر الزمان وعلى امتداد الكرة الأرضية، لم يشذ عنها أحد أبداً، سواءً في بلادنا أو في بلاد غيرنا.

ولقد كانت البداية الحقيقية لتعريب فلسطين مع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، أما إختبار الملكية والاختصاص العربي بها، فلم يُحسم إلا مع الحروب الصليبية 1096 ـــــ 1291، بعد نجاحنا في القضاء على العدوان وتحرير أوطاننا من آخر إمارة صليبية. حينئذٍ فقط اعترفت أوروبا وكل العالم بما فيها الدول المعتدية بعروبة هذه الأرض وباعتبارها جزءٌ لا يتجزأ من الأمتين العربية والإسلامية.

ولو كنا ـــــ لا قدر الله ـــــ قد هزُمنا وعجزنا عن تحرير الأرض من الاستعمار الأوروبي في ذلك الوقت، لكانت المنطقة اليوم لا تزال جزءً من المستعمرات الأوروبية أو إمتداداً لها أو متحدثة بلغاتها على غرار ما حدث في الأمريكتين الشمالية والجنوبية.

ولكننا انتصرنا والحمد لله، فاعترف بنا العالم منذ ذلك الحين، وهو ما تم قبل الاعتراف الإنكليزي الحالي "غير الملزم" بسبعة قرون على الأقل.

ومنذ ذلك الحين لم تعاودوا محاولاتكم الاسـتعماريـة مرة أخرى سـوى مع مطلع القرن التاسـع عشـر مع الحملـة الأوروبيـة الاسـتعماريـة الحديثـة التي افتتحها (نابليون بونابرت) عام 1798، والتي لم تنتـهِ حتى الآن. والتي دفعنا ولا نزال ندفع ثمنها من إسـتقلالنا واسـتقرارنا ووحدتنا وتقدمنا وحريتنا ومواردنا وثرواتنا. وكان اغتصاب فلسـطين هو أكثرها فداحـة، وربما يكون هو أفدح ثمن دفعـه أي شـعب محتل على الإطلاق على إمتداد القرون الاسـتعماريـة الطويلـة في كل بقاع الأرض. فالكيان الصهيوني الإسـتعمارى الإحلالى العنصرى الإرهابى القاتل المسـمى (بإسـرائيل) لم يزُرع سـوى في أوطاننا نحن فقط، فرغم أنكم قمتم باحتلال كافـة أراضى وأمم ودول أفريقيا وآسـيا وأمريكا اللاتينيـة، ولكنكم أصبتونا دون غيرنا بهذه اللعنة الصهيونيـة الشـاذة..!!

ورغم كل ذلك، فإننا على يقين أننا في النهاية سنُحرر فلسطين بإذن الله تعالى، كما فعلناها من قبل، وكما فعلتها كل شعوب وأمم العالم المحتلة.

هذه يا سادة يا كرام هي فلسطين التي نعرفها، أما تلك التي تعترفون بها أنتم فهي لا تعدو أن تكون أجزاءً صغيرة من أرضها، ممسوخة ومنفصلة، فكيف نقبل إعترافكم!؟

إن الحديث عن أن الضفة الغربية وغزة المفصولتين تُمثلان "وطناً طبيعياً" يستحق دولة مستقلة بدلاً من كل أرض فلسطين التاريخية، يُماثل الحديث عن أن لندن في الجنوب الشرقي ومانشستر في الشمال الغربي مثلاً يُمكنهما أن يكونا دولة مستقلة دوناً عن باقي الأراضي الإنكليزية!! وحتى بدون هذا المثل الإفتراضى، انظروا كيف أصابكم الذعر من احتمال استقلال إسكتلندا عنكم، فما بالكم بحالنا!؟

ولذا فإن إعترافكم "الرمزي" الذي يبدو "طيباً" بفلسـطين 1967، يحمل في طياتـه تأكيداً وتثبيتاً لاعترافكم الباطل "الشـرير" بشـرعيـة الاغتصاب الصهيوني لأراضينا ما قبل 1967، وهو ذات موقفكم القديم المسـتمر المعادي لنا والمهدد لوجودنا والمقسـم لأوطاننا.

ثانياً ـــــ أيها السيدات والسادة، نُصارحكم القول أيضاً بأن كثيرين في عالمنا العربي تشككوا في نواياكم من هذا القرار في هذا التوقيت؛فالجميع يعلم أن سبب الإعتداءات الصهيونية المتكررة على غزة، هو إرغامها على الإعتراف (بإسرائيل) والتنازل عن أرض فلسطين التاريخية والإكتفاء بالمطالبة بحدود 1967، والإلتحاق بركب (أوسلو) وجماعتها.

وأنتم باعترافكم "الرمزي" بفلسطين 1967، إنما تؤكدون إنحيازكم إلى الرواية أو الأجندة الإسرائيلية؛ أجندة المعتدي في مواجهة أجندة الضحية. كما أنكم تنحازون إلى جبهة الفلسطينيين المتواطئين مع (إسرائيل) ضد الفلسطينيين المدافعين عن أرضهم في مواجهة الاحتلال.

ثالثاً ـــــ كما أن أي دولـة هذه التي تعترفون بها، وهي غير موجودة على الأرض..!!؟؟ فلا يوجد هناك إلا شـعباً محتلاً خاضعاً للسـيادة الإسـرائيليـة، فأين عناصر الدولـة التي تتحدثون عنها!؟ إن قادة (إسـرائيل) يُكررون ليل نهار، ويُنفذون ما يقولونـه، من أنـه لن يكون هناك دولـة فلسـطينيـة كاملـة السـيادة، بل حكماً ذاتياً، أو دولـة منزوعـة السـلاح، حدودها الجغرافيـة ومياهها الإقليميـة ومجالها الجوي تحت السـيادة والسـيطرة العسـكرية الإسـرائيليـة...!!!

رابعاً ـــــ ثم أن الإحتفاء الشديد بقرارٍ "غير ملزم" صادر من 274 عضو برلماني بريطاني، مع تجاهل اعتراف 350 مليون عربي بفلسطين، يكشف عن نظرة التعالي والعنصرية التي لا تزال تحكم بها الدول الغربية باقي شعوب العالم، كما يكشف من ناحية أخرى عن حجم الهزيمة والشعور بالدونية التي يعيش فيها حُكامنا الذين يتلقوا دعمكم واعترافكم..!!

خامساً ـــــ ثم أن أي مقارنة بين إعترافكم الرمزي "غير الملزم" بفلسطين 1967، وبين السرعة والسهولة التي جاء بها إعترافكم (بإسرائيل) في 1948، والمشاركة في بنائها وتأسيسها وحمايتها، أو بين ذات السرعة والإستجابة الفورية لحملاتكم الإستعمارية الأخيرة على بلادنا فى العراق 1991 و2003 و2014، تُثير مزيد من الشك في زيف وتضليل وأغراض مثل هذه القرارات البرلمانية "غير الملزمة"!!

سادساً ـــــ ثم أن قراركم الذي صدر في أجواء غضب وصدمة الرأي العام الإنساني من وحشية العدوان الصهيوني الأخير الذي دمَّر غزة وأودى بحياة 2000 شهيد من شعبها، قد يُفهم على أنه محاولة لإمتصاص حالة الغضب العام من (إسرائيل)، حتى لا يتطور في إتجاهات فلسطينية وعربية وعالمية أكثر جذرية.

سابعاً ـــــ ثم ماذا حصدت منظمة التحرير الفلسطينية من إعترافكم والإعتراف الدولي والأمريكي والإسرائيلي بها بعد 1993 بعد أن كنتم تصنفونها كمنظمة "إرهابية"!؟ وهو الإعتراف الذي دفعت ثمنه غالياً بالتنازل عن حقها التاريخي في فلسطين 1948. لقد خسرت الأرض والشعب والاحترام والسيطرة والشرعية الوطنية.

ثامناً وأخيراً ـــــ ثم أن لدينا بالفعل حُزمـة من القرارات الدوليـة الملزمـة، أقوى من قراركم ألف مرة، والتي لم تُنفذ أبداً؛ أهمها القرار الصادر من مجلـس الأمن والمشـهور باسـم القرار 242، والذي ينص على انسـحاب (إسـرائيل) من الأراضي التي احتلتها في 1967، وكذلك القرار رقم 194 الصادر من هيئـة الأمم المتحدة عام 1948 والذي يؤكد على وجوب السـماح للراغبين من اللاجئين بالعودة إلى ديارهم الأصليـة (حق العودة) والمدعوم من القرار رقم 273 لسـنـة 1949 الصادر من الجمعيـة العامـة، بربط عضويـة (إسـرائيل) في هيئـة الأمم المتحدة بعدة إلتزامات أهمها السـماح بعودة اللاجئين... إلخوكلها قرارات دوليـة ملزمـة، ولكنكم ضربتم بها عرض الحائط..!!

فلماذا نقبل اليوم أو نثق أو نُراهن أو نأمل خيراً في أي قرارات تصدر منكم أو من أي من مؤسساتكم الدولية أو الحكومية أو البرلمانية؟

عفواً يا سادة، إعترافكم مرفوض.