رأي في الثقافة
د. حسن الربابعة
قسم اللغة العربية
جامعة مؤتة
دأبت بعض الصحف الاليكترونية تسألني عن معنى الثقافة وأهميتها ، فعدت إلى لسان العرب فأجابني بان الثقف يعني الحاذق الفهم، واتبعه العرب ب"ثقف لقف "وعدَّ بعضهم للمثقف أربع سمات فقالوا "رجل ثقف ولقف رام راو "بمعنى ضابط لما يحويه قائما به ، وقالوا ثقف الشيء إذا حذقه، وقالوا ثقفته إذا ظفرت به وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب قالت "إني حَصان فما اكلَّم ،وثَقاف فما أعلَّم ، والثقاف والثقافة ؛اللعب بالسيف قال الشاعر (مجزوء الكامل )
وكأنَّ لمع بروقها في الجوِّ أسياف المُثاقف
وفي التنزيل العزيز "واقتلوهم حيث وجدتموهم "، والثقاف هي حديدة تكون مع القواس والرماح يقوم بها الشيء المعوج،والتثقيف هي التسوية .
ومن تعدد معاني الثقافة يفهم أنها ُحسنُ الرماية والرواية وضبط ما يحويه المثقف ، كما يُفهم من الثقافة حسب المعنى اللغوي،تعلمُ الرماية ،وإصلاح الخلل بالسلاح، وتعني اللعب بالسيف ، ويفهم منها أن الثقافة هي تعلم ما يفيد المجتمع، ومنه حسن الرماية، وهذا الذي أكَّده رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال ما معناه "ارموا فان أباكم إسماعيل عليه الصلاة والسلام كان راميا"يحثهم على الرماية ومنها الرماية الليلية ، كما تعني الشدَّ من أزر سعد بن أبي وقاص يوم احد فقال "ارم سعدُ فداك أبي وأمي " واخذ يحرِّض المسلمين على الجهاد ،ويشجع على دقة الرماية ،ويثال بان سعدا رمى الف سهم يوم احد دفاعا عن دينه، وعن رسول الله الكريم ؛.وهو من باب الجائز في المفاخرة في أبواب الجهاد "سعد خالي فمن له خال مثل خالي "وفي الأثر "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل "وكان الرجل التام يسمونه الكامل؛ إذا أجاد الرماية وركوب الخيل والسباحة والكتابة "ما يدل على أهمية الكتابة والرماية إذ بالرماية يذاد عن حمى الإنسان ويدافع يسلاحه عن ماله وعرضه ووطنه ،ويمتد معنى الثقافة إلى إصلاح عيوب الأسلحة من مادة ثقافها وقد يمتد إلى تصنيعها لأهمية إصلاحها إذا تعطلت أو إعادة تصنيعها من جديد ،فيكون العربي قادرا على حماية نفسه ووطنه ، وتعني الثقافة الإفادة من حضارة الأمم ،وثقافتها فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجالا إلى جَرشَ فتعلموا على المنجنيق فيها كأنهم كانوا في دورة تدريبية ، فوظف الرسول الكريم المنجنيق في جهاده ورمي منه على الطائف ، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة العبرية فتعلمها في مدة وجيزة ؛لانَّ من فهم لغة قوم أمِن شرهم ،ولعلَّ من يقرأ عبقرية ابن العاص عمرو أن يدرك أهمية الثقافة وتعلُّم لغة القوم الآخرين ، ذلك أنَّ مرافقا لعمرو كان معه إلى ارطبون الروم ،وكان يفهم لغة الروم ،فأنقذه من مكر ارطبون الروم الذي أمر بقتل عمرو عندما يخرج من عنده ؛ لما حسده على ذكائه ظانا انه عمرو نفسه ، فرطن بقتله بعد خروجه ،ففهم مرافق عمرو المكيدة ؛ فلطم عمرا كفا،سكت لها ابن العاص ،"لشنشة يعرفها عمرو " ولما سئل عن ذلك قال انه يفاوض كأنه عمرو بن العاص، فأغرى ارطبون الروم بان عمرو بن العاص قد يحضر مستقبلا للمفاوضة ، إذا أحسنتم الاستقبال"فقال ارطبون الروم في نفسه "يكون اذن الهدف في جوف الفراء "، فتخلى الارطبون عن أمره فنجا عمرو ووفده ، فقال الفاروق لما سمع بالمكر "غلب ارطبون العرب ارطبون الروم "فذهبت مثلا ،ومثل ذلك المغيرة بن شعبة الذي اعورَّت عينه من احد سهام الروم في يوم التعوير في معركة اليرموك ، فذهب يفاوض بعد القادسية بأمر سعد بن أبي وقاص ، فأهانوه وعيروه بأكل الضباب والجوع القديم ، ثم أعطوه حفنة من تراب عاد بها إلى معسكر المسلمين ، رمز رفضهم كل شروط العرب؛ الإسلام أو الجزية أو السيف ،وقال لهم المغيرة والترجمان يترجم "كنت أظنكم عقلاء، لكنكم سفهاء، فجئنا نخلصكم من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، أما قولكم إننا ضلال ،فصحيح قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ،وعيرتموني يصغر سلاحي قياسا بأسلحتكم ، فان الحمرة لتؤذي من يدوس عليها ،وان صغرت ، وان التراب الذي أعطيتموني إياه يشكو إلي عدم السجود عليه ، لله الواحد القهار، وأحسب أنكم لستم أهلا لحمايته، لانَّ الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين" ولحقوه إلى حدود المسلمين يهزؤون به صائحين "يا اعور يا اعور" فقال لهم المغيرة كلمة حق واعتزاز بجهاده "ليت لي ألفَ عين تفقأ الواحدة تلو الأخرى في سبيل الله "فتعجب الفرس من جرأته، وقال مرزبانهم لئن صدق هذا الأعرابي في ما قاله ليجلسنَّ على كرسي هذا "ولم يخب ظن المرزبان، فقد احتلَّ المسلمون كرسيَّه بعد يومين من مفاوضات المغيرة رضي الله عنه . إنها ثقافة ، نعم الثقافة ،تستوعب أحداث العصر وتقنياته، فتأخذ النافع منها وان كان قديما ، شان رسول الله الكريم إذ استبقى على سمات الشجاعة والكرم والمروءة ، وان كانت من سمات الجاهلية ، فلا مانع من أن نفيد من عادات الماضي التي تلائم الفطرة والذوق السليم وننبذ السيئ؛ وان كان حديثا ، لان قول الخالق ماثل في ما يقوله "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "فالأمر الطيب قديما أو جديدا يعتد به ويحتذى، والسيئ يُعاف وان جديدا فالله تعالى طيب لا يقبل الا طيبا ،وبه وحده نستعين .