تراجيدية الإنسان العربي بين التطرف والفساد

تراجيدية الإنسان العربي بين التطرف والفساد

منير مزيد

[email protected]

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال :" هذا سبيل الله مستقيماً "، قال: ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال :" هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه "، ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} . رواه النسائي والإمام أحمد.

في الشرق الأوسطِ هناك ثلاثة أصواتِ ، إثنان قويان جدا ، بينما الصوتِ الثالثِ  ضعيف ومغيب ومحارب وغير مسموع ولا توجد له قنوات لكي يسمع صوته، قد تستغرب وتتسأل : من هي تلك الأصوات ومن أصاحبها؟

الصوتَ الأولَ : صوتُ الفسادِ، الذي يُمثّلُ البعض مِنْ الحكوماتِ العربيةِ التي حَكمتْ الشرق الأوسطَ لأكثر مِنْ 50 سنة وساهم في تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة في بعض الدول العربية ليصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 60 بالمائة، وانخفاض نسبة التعليم وإرتفاع نسبه الأمية بسبب إرتفاع  ظاهرة عمالة الأطفال التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في أعدادها في العالم العربي... فعلى سبيل المثال ، ذكر تقرير لمنظمة هيومان رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان أن الفتيات في المغرب من سن الخامسة تقريبا يعملن لمدة 100 ساعة أسبوعيا أو أكثر من دون الحصول على راحة أو عطلة أسبوعية، وجاء في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة لرعاية الأمومة والطفولة اليونسيف بأن هناك اكثر من 40 ألف طفل عامل بالأردن واليمن تقترب من المليون ،   ووقفا لمسح العمالة بالعينة الذى اجراة الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عام 1988 في مصر  والذى قدر حجم الأطفال العاملين بنحو 1309 آلف طفل فى الفئة السن 6-14سنة - بنسبة 12%من أجمالي الأطفال بهذه الفئة العمرية , ونحو 7.6%من أجمالي قوة العمل . وقد تبين أن جميع الأطفال العاملين تقريبا يعملون بصورة غير رسمية وبدون بطاقات عمل أو شهادات صحية مما يعنى أنهم لا يتمتعون بأى حماية قانونية، كما أوضحت الدراسة أن نسبة من هؤلاء الأطفال " حوالي الثلث " يعانون من المعاملة السيئة والعديد من أشكال العنف التى يلقونه من أرباب العمل والمشرفين عليهم .

الصوت الثاني : صوتُ الأصوليَّةِ المتطرفة  

في ظل تردي الأوضاع المعيشية وجد هذا الصوت أرضا خصبة لينمو ويترعرع ليصبح عدوا داخليا يصعب هزيمته وخاصة وأنه يستخدم الدين للتحقيق طموحاته و ترتكز قوته على جهل الطبقات المقهورة والمستغَلة ونقص فهمها وعلى زيادة رقعة الظلم بين فئات المجتمع، يَعِدُهم بحياة معيشية أفضل وحشو عقولهم بالشعارات الفارغة والعقيمة .. فاصبح المتطرف في عالمنا العرب يتمتع بقاعدة شعبية وهذا يتضح من خلال اجراء الانتخابات البرلمانية وصناديق الاقتراع  ، كونه مدافعا عن القيم الدينية ومحاربا ضد الفكر الغربي البغيض وكل اشكال الارتهان للاجنبي ويقف بحزم ضد  الأنظمة العربية الاستبدادية ، فلو اتيحت لهذا المتطرف الطامح للوصول إلى كرسي الحكم، فأننا سنشهد استبدادا  أكثر استبدادا وقمعا ووحشية مما ألفناه ، وسيجرنا إلى حروب أهلية شاملة  وصراعات طائفية مدمرة ، حتما ستنهي الوجود العربي... فالإنسان المتطرف إنسان حدي متعصب في كل شيء، فهو يرى الأمور دائماً في وضع لا يعرف النسبية، والناس إما أعداء وإما أصدقاء، إما معي أو هم بالضرورة ضدي ، والوسطية لا وجود لها في تصوره بل ينكر وجودها ويعتبرها ضربا من ضروب تمييع الحقيقة ، فلا يوجد إلا لونان فقط: إما الأسود أو الأبيض ، وبنفس الوقت يظن واهما أنه وصيا أو منقذا لوضع حد للخراب، متسلحا بعقائد إيديولوجية ، دينية أو عرقية ، يمتلك قدرة حوارية ملتوية، ممزوجة بالطاقة الشيطانية على اقتناص الكلمة ذات الأبعاد التأويلية التي تحتاج إلى أسلوب تفكير للوصول إلى دلالاتها ، مما يدفعنا إلى تأمل كل هذا بحساسية خاصة، وبالتالي تصبح قناعاته هي مقياس الصواب، واجتهاداته هي الحقيقة، وما عداها هو الخطأ بعينه، وحين يختلف معك لا يتورع عن إلغائك أو إقصائك بكافة السبل ، ويلجأ إلى توحيه سيل من التهم الباطلة ، فهو إنسان مهووس تتلبسه الأوهام  ويظل مدفوعا بأوهامه وطموحات حتى يحقق سقطته النهائية  كما حدث للمتطرف النازي ادولف هتلر. فهذه النفسية المريضة والمعقدة والمأزومة هي التي تذكي نيران التعصب ، وتشعل الأزمات والحروب، وتدمر الإنسان والأوطان...

الصوت الثالث : صوت تكريس قيم الحرية والتعددية والحداثة والإنفتاح، واحترام حقوق الإنسان 

هذا الصوت متهما بأنه مرتهن لثقافة الغرب وكأن الإنسان العربي قد خلق ليكون في ظلام العبوديات الكثيرة، عبودية الذات العربية للاستبداد، وعبوديتها للنصوص التراثية، وعبوديتها لثقافة القائد الأوحد، وعبوديتها للمرجعيات الثقافية الماضوية، وعبوديتها للأيديولوجية القومية والدينية، وعبوديتها لتراكم الهزائم النفسية المتتالية، وعبوديتها للانتصارات الوهمية، وعبوديتها للشعارات الفارغة، وعبوديتها لليقينيات الشعورية والنفسية والثقافية من حيث إنها الأمة التي اعتلت مدارج الأفضلية على باقي البشر في كل شيء وما تزال واقفة عند هذه اليقينيات الوهمية... وحين يخرج الينا مفكر عربي مطالبا بتكريس قيم الحرية والتعددية والحداثة والإنفتاح، واحترام حقوق الإنسان ، نجد آلاف السيوف مسلطة على رقبته ، وكأن هذه القيم التي تساهم في بناء الحضارة الإنسانية ، قد اصبحت حكرا للغرب ، متناسين بأن هذه القيم قد ولدت من رحم الحضارات العربية المتعاقبة ، بدأ من شريعة حمورابي لتتوالى بعدها التشريعات السماوية ولاعراف الإنسانية بتبني هذه القيم كأساس لأي حضارة مدنية...

أذن ، إلى متى ستبقى الديموقراطية و الحرية والتعددية والحداثة والإنفتاح، واحترام حقوق الإنسان افكارا كافرة وارتدادا عن القيم العربية والاسلامية...؟

ولنفترض جدلا أنها قيم غربية ، فلماذا نستورد سيارات المرسيدس من المانيا ، والصوف الإنجليزي ، والجلود والاحذية الايطالية، والشوكلا السويسرية ، ولا يحق لنا ان نستورد الفكر المتحضر، فأي تناقض ، حقيقة نعيشه؟ فهل كتب علينا كشعوب أن نكون شعوبا تستهلك ولا تنتج...؟ 

وتستمر هذه التراحيديا وكأنها لعنة حلت علينا ولا خلاص منها الا بموتنا، وللاسف قد تتبعنا إلى القبر ونراها امامنا يوم الحساب ، ليخرج الينا يوميا متطرف جديد حاملا  شعارات فارغة وعقيمة ، مرتديا زي القومية العربية مرة ، الدين مرة أخرى ، وهذه المرة الثقافة والفن... فقد استوقفني بيان لمجموعة من المتطرفين تطلق على نفسها " تجمع شعراء بلا حدود " وقد جاء في بيانها المبجل والتي نشرته في المواقع الالكترونية : " سيكون هذا الصرح الثقافي ـ بإذن الله ـ إحدى مآذن العز والشرف لهذه الأمة ؛ لأنه لن يضم في جنباته إلا المبدعين الحقيقيين الذين ينتمون إلى وطنهم العربي الكبير ، ويرفضون الذل والعار والارتهان للأجنبي .. لن يضم هذا الصرح بين جنباته إلا أولئك الشعراء المنتمين الملتزمين بقضايا الأمة والوطن .. هذا الصرح سيكون خصما لدعاة صيحة الفن للفن .. سيكون خصما لكل مرتهن لثقافة الغرب ؛ ذلك أن الوطن العربي يعاني من مشكلات كبرى ، وقضايا ملحة وتقع عليه إجحافات لا يمكن السكوت عنها ، أوالتخلي عن التصدي لها، وإذا      كان الشعراء أول الهاربين منها ، المتنكرين لها ؛ فمن ذا الذي يتصدى لها .. ؟

في الوقت نفسه ؛ فإن تجمع شعراء بلا حدود ، لن يضم بين جوانحه مدعي الفن وأشباه الشعراء ، ولن تفتح أبوابه إلا لمن امتلك ناصية الفن واللغة والإبداع الحقيقي ...

إن أول رسالة تبعث بها الهيئة الإدارية لتجمع شعراء بلا حدود باسمها وبالأصالة عن أعضائها على القائمة الأولى هي رسالة عز وشرف ، تنطلق عبر الفضاء الرقمي إلى أهلنا وإخواننا في قطاع غزة الصامد البطل أن اصبروا وصابروا ورابطوا ، ونحن معكم .. لن نتخلى عنكم .. سوف نسهم نحن شعراء الأمة العربية الغراء بكل ما أوتينا من عزم الكلمة وفنيتها ، وبكل ما نقدر على فعله ـ في رفع الحصار الظالم الغاشم عنكم أيها الأحبة" ...

فهل هناك تطرف أكثر من هذا وهل هناك سخافة  أكثر من هذه...؟

ايها الشعراء الأشاوس ، هل تفضلتم واخبرتمونا كيف سوف ترفعون الحصار عن أهلنا وإخواننا في قطاع غزة... هل لديكم الاموال الكافية لتبنوا بيوت اهلنا هناك الذين تهدمت بيوتهم وينامون في العراء حتى تدعوهم

 " اصبروا وصابروا ورابطوا ، ونحن معكم .. " أي اكاذيب وسخافات وأوهام تريدون تسويقها وحشوها في العقل العربي المسطح اصلا، ومن انتم حتى تقرروا  من يمتلك ناصية الفن واللغة والإبداع الحقيقي .. وعلاوة على ذلك ، تدعون وبكل صلف ووقاحة سافرة : "هذا الصرح سيكون خصما لدعاة صيحة الفن للفن ..."

إذا لم يكن الفن لأجل الفن ،  فلمن يكون ...؟!

ايها الشعراء الأشاوس ، في الشعر لا يوجد لون واحد ولا مكان للتطرف أو التعصب، والشاعر والفنان والاديب والمثقف ، يحب كل الناس وكل الألوان والطوائف والمذاهب والاديان، ومن يزرع فكر الطائفية والعنصرية لا يمكن ان يكون شاعرا حتى ولو كان المتنبي أو البحتري، وأقل ما يقال عنه عنصري بغيض واحمق..

الم تفرأون ، يا شعراء بلا حدود، بان العرب في العصر العباسي وخصوصا في عهد الخليفة المأمون قد قاموا بعملية ترجمة شاملة وواسعة  وخلال نصف قرن تمت ترجمة ألوف الكتب من اليونانية والفارسية والهندية، بما فيها الفلسفة والعمارة والطب والهندسة وغيرها من علوم العصر..

فهل نبالغ ،  يا شعراء بلا حدود، إذا قلنا إن العرب في زمن المأمون كانوا أكثر انفتاحاً وأكثر نضجاً وأكثر تسامحاً وأكثر وعياً بأهمية معرفة كل الثقافة الإنسانية، أكثر من عربنا اليوم، أنظمة وشعوباً  ؟

وبدلا ان تطلقوا على انفسكم شعراء بلا حدود، الافضل ، شعراء الكهوف ، فهو يتناسب مع طروحاتكم..   

والشيء المحزن ان تاتي مثل هذه الدعوات المتطرفه من اناس تدعي بانها تملك ناصية الفن والإبداع.. فعلى أيديكم ، انعي موت الفكر العربي وما بقي الا البحث عن قبر ليدفن فيه أن وجد ، رغم اتساع الصحراء... كفانا بالله عليكم صراخكم المقيت واتمنى ان تبحثوا عن كهوف خارج الوطن العربي لتمارسوا ابداعكم العقيم...!!.