لماذا تتحالف أميركا مع إيران ضد العرب؟!
أحمد منصور
(1)
في 16 يناير عام 1979 تخلت الولايات المتحدة عن أكبر عملائها وحلفائها في المنطقة وهو شاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي كان يحكم إيران منذ العام 1941، وغادر الشاه إيران إلى غير رجعة بعدما احتفل في العام 1971 في حفل باذخ بذكرى مرور 2500 عام على تأسيس الإمبراطورية الفارسية، وتعهد الأميركان والغرب له بحمايته وحماية نظامه إلى النهاية وكان تعهدهم الأكبر له حينما بدأت بوادر الثورة ضده في العام 1977.
فذهب إلى واشنطن والتقى مع كل من الرئيس الأميركي جيمي كارتر ومستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي ووزير الخارجية سايروس فانس والسفير الأميركي في إيران ويليام سوليفان، حيث تعهد له كارتر بحمايته إلى النهاية حتى لو بالتدخل العسكري، وكان الأميركان يلقبونه بـ «شرطي الخليج» بسبب ولائه المطلق لهم، وحينما قامت ثورة ضد الشاه عام 1953 بقيادة رئيس حكومته محمد مصدق الذي قاد حملة من أجل تأميم آبار النفط، فر الشاه خارج البلاد، لكن الولايات المتحدة سخرت كافة إمكاناتها الاستخباراتية والمادية في عملية سرية أطلقت عليها اسم «عملية أجاكس» حيث أطاحوا بحكومة محمد مصدق وتم اعتقاله وأعاد الأميركان الشاه إلى عرش إيران مرة أخرى، حينما خرج الشاه من إيران في 16 يناير عام 1979 خرج على أمل أن يعود لكن الأميركان الذين تعهدوا له بحمايته وحماية امبراطورية أجداده سرعان ما تخلوا عنه حتى إنهم رفضوا استقباله أو إقامته على أراضيهم وحينما ذهب لصديقه ملك المغرب الحسن الثاني حتى يؤويه اعتذر له الحسن الثاني، وظل طريدا شريدا لا يجد مكانا حتى آواه السادات في مصر، حيث مات ودفن فيها، ورغم أن هذا هو دأب الولايات المتحدة في التخلي عن حلفائها بل وعدم النظر إليهم أو الاهتمام بنهايتهم، إلا أنها ما كان لها أن تتخلى عن الشاه لتسمح بقيام نظام معاد لها في إيران لاسيما وأن زعيم الثورة آنذاك الإمام الخميني كان يقيم في فرنسا الحليف الأقرب للولايات المتحدة، وبالتالي لم يكن لفرنسا أن تسمح للخميني بالعودة دون ترتيبات مع الولايات المتحدة، وهذه أبسط قواعد فهم اللعبة الدولية، أن الشاه عاد إلى إيران ليؤسس دولة دينية شيعية اثنى عشرية إن لم يكن بدعم فبتواطؤ وترتيب أميركي فرنسي تخلت به الولايات المتحدة عن شرطيها في المنطقة لإقامة نظام بديل ليس معاديا لها وإن لم يكن عميلا مباشرا فليدر في فلكها ويحقق لها أطماعها وأهدافها من وراء البقاء في هذه المنطقة الغنية بالنفط والموقع الإستراتيجي والعقيدة الإسلامية التي يتخذها الغرب عدوا له بشكل علني ومباشر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.
إذن الخطوة الأولى هي التخلي عن شاه إيران الحليف الأكبر للولايات المتحدة، والخطوة الثانية السماح بعودة آية الله الخميني ليقيم نظاما شيعيا اثنى عشريا في إيران الفارسية ليواجه الدول الإسلامية السنية التي تعتبر المهدد الرئيسي لإسرائيل وأحلام أميركا في المنطقة، وأن يستخدم هذا النظام في ضرب الدول السنية القوية المجاورة حتى لو كانت حليفة للولايات المتحدة لأن بقاء أي دولة من هذه الدول في حالة القوة والتماسك يعتبر تهديدا في حد ذاته، وحتى تنجح الثورة الإيرانية لابد من دغدغة المشاعر بالكراهية للشيطان الأكبر المتمثل في الولايات المتحدة، ولتبدأ مرحلة العداء الظاهري التي لا تتجاوز المماحكات اللفظية وبعض العمليات الشكلية مثل احتجاز رهائن في السفارة الأميركية في طهران والهتاف في الشوارع بالليل والنهار ضد الولايات المتحدة.
لماذا تتحالف أميركا مع إيران ضد العرب؟ (2)
خمسة وعشرون عاماً من العداء المصطنع بين أميركا وإيران منذ قيام الثورة في إيران في عام 1979 وحتى الآن، حيث لم يتجاوز العداء المعلن الهتاف في طهران ومواسم الحج ضد «الشيطان الأكبر»، بينما لم يطلق الشيطان الأكبر الذي اجتاح دولاً إسلامية سنية فككها ودمرها خلال هذه الفترة مثل الصومال وأفغانستان والعراق، لم يطلق طلقة رصاص واحدة على إيران، بل كان الواقع خلافاً لذلك دعم وصفقات وتعاون ومماحكات لفظية في بعض الأحيان.
وعلى سبيل المثال لا الحصر دفعت الولايات المتحدة كلا من إيران والعراق للدخول في حرب بينهما كانت تغذي فيها الجانبين بصفقات السلاح وقد بدأت هذه الحرب في شهر سبتمبر عام 1980 واستمرت حتى شهر أغسطس عام 1988 أطلق عليها الإيرانيون حرب «الدفاع المقدس» وأطلق عليها صدام حسين «قادسية صدام» وخلفت هذه الحرب الدامية ما يقرب من مليون قتيل وتكلفة بلغت 400 مليار دولار استنزفت خلالها ثروات العراق المالية والبشرية وكشفت الأيام أنها كانت بداية لما يجري الآن في المنطقة وبينما كان آيات الله في إيران يعلنون أنهم يخوضون حربا مقدسة، كان صدام حسين يقول إنه يمثل حاجز الصد للمد الشيعي الإيراني الصفوي من اجتياح المنطقة، فكانت هذه الحرب في نظر الكثيرين حربا عربية- فارسية، وفي نظر البعض الآخر حرباً دينية بين الشيعة الاثني عشرية والسنة الذين يمثلون الأغلبية المفككة ومثلت هذه الحرب بداية الدعم الإسرائيلي- الأميركي لإيران، ففي الوقت الذي نشرت فيه صور لوزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد وهو يذهب سراً للعراق ويلتقي مع صدام حسين ليشجعه على استمرار الحرب ودعم أميركا له تفجرت بعد سنوات فضيحة كبيرة عرفت باسم «إيران كونترا» كشفت عن التعاون العسكري الأميركي- الإسرائيلي- الإيراني المبكر، وخلاصة هذه الفضيحة التي وقعت تفاصيلها بين عامي 1985 و1986 خلال فترة حكم الرئيس الأميركي رونالد ريجان، أن إدارة ريجان عقدت اتفاقاً سرياً مع إيران لتزويد إيران، التي كان العدو اللدود المعلن للولايات المتحدة، بالأسلحة النوعية التي كانت بحاجة إليها خلال حربها مع صدام حسين وذلك مقابل إطلاق سراح خمسة من رجال الـ«سي آيه إيه» معتقلين في لبنان وقد عقد جورج بوش الأب نائب الرئيس الأميركي ريجان آنذاك اتفاقا مع الرئيس الإيراني أبوالحسن بني صدر في باريس حضره عن الموساد الإسرائيلي آري بن ميناشيا الذي كان له الدور الرئيسي في الإشراف على نقل الأسلحة إلى إيران ومعظمها نقلت من إسرائيل بعد ذلك، ضمت الصفقة 3000 صاروخ من طراز«تاو» المضاد للدروع وعشرات الصواريخ من طراز هوك المضاد للطائرات مع قطع غيار لهم وذهبت معظم الشحنات من إسرائيل وبعضها من البرتغال عبر طائرات أميركية من طراز DC-8 وبعد كشف الفضيحة والتحقيق فيها تم الكشف عن فضيحة أكبر هي أن التعاون الإسرائيلي- الإيراني في مجال السلاح بدأ مبكرا وقبل إيران كونترا بسنوات، حيث بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية تصل إلى إيران في شهر يوليو عام 1981 عبر جسر جوي شاركت فيه طائرات من شركة «أروريو بلنتس» الأرجنتينية وقد ذكرت مصادر إعلامية مختلفة أن عدد صفقات السلاح التي عقدتها إيران مع إسرائيل بين عامي 1981 و1983 بلغ خمس صفقات كبرى وأن إسرائيل قامت بدور سمسرة كبير منذ بداية الحرب.
لماذا يدعم الأميركان إيران ضد العرب ؟ ! – (3)
بعد فضيحة التعاون الإسرائيلي الأميركي المبكر في دعم إيران عسكريا خلال حربها مع العراق التي بدأتها إسرائيل في العام 1981، وإعلان قادة إسرائيل أن ذلك من شأنه أن يقوض العراق والعرب، وقننتها الولايات المتحدة فيما عرف فيما بعد بفضيحة «إيران كونترا» التي جرت وقائعها بين عامي 1985 و1986، بقيت نبرة العداء اللفظي المعلن بين أميركا وإيران كما هي، هتافات ضد الشيطان الأكبر في إيران وتهديدات لفظية أميركية لم تتجاوز حدودها حتى أن إيران منذ أن بدأت برنامجها النووي حتى الآن لم تتجاوز الضغوط الأميركية الغربية عليها حدود المساومات اللفظية والتهديدات، دون أن تتم إعاقة البرنامج النووي أو تأخيره، أما العراق.
فحينما قام صدام حسين ببناء مفاعل نووي سلمي تحت إشراف الفرنسيين ومع محاولات تشغيله الأولى قامت ثماني طائرات إسرائيلية أميركية الصنع من طراز إف 16 في 7 يونيو عام 1981 وفي ذكرى هزيمة يونيو عام 1967 بقصف المفاعل بثماني عشرة قنبلة تصل زنة الواحدة ما يقرب من طن و900 كيلو جرام، بقصف المفاعل النووي العراقي الذي كان يقع جنوب بغداد، بترتيب ودعم وتغطية مع الأميركان وقد كان العراقيون يتوقعون أن يأتي القصف من إيران وليس من إسرائيل لذلك إسرائيل هي التي أعلنت أولا عن نجاح مهمتها في قصف وتدمير المفاعل النووي العراقي وقدمته هدية لإيران، وقد برر مناحيم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أن المفاعل كان على وشك أن يعمل وأنه كان سيتيح للعراق إنتاج قنابل ذرية. وأضاف بيجن: «كنت لا أنام طوال الليل وعندما تسألني زوجتي من الذي يؤرقك أقول لها: صدام حسين». إذن كانت إسرائيل داعما رئيسيا لإيران في حربها ضد العراق ليس فقط بالدعم العسكري والسلاح ولكن بالمشاركة المباشرة في الحرب عبر قصف المفاعل النووي العراقي خلال الحرب، وكانت الولايات المتحدة داعما بالسلاح والخرائط والدعم اللوجستي وقد بقيت الحرب العراقية الإيرانية قائمة حتى شهر أغسطس عام 1988، وكان فشل القوات الإيرانية في اقتحام الفاو جنوبا وتحرير العراق لها في 17 إبريل 1988 والخسائر الكبيرة التي مني بها الإيرانيون بداية لقبول الطرفين بوقف إطلاق النار في 20 أغسطس 1988 وبداية المفاوضات في جنيف حول الانسحاب للحدود الدولية وتبادل الأسرى وعقد مفاوضات سلام وإعادة إعمار البلدين. أنهك العراق في هذه الحرب كما أنهكت إيران لكن العراق لم يسقط بيد الإيرانيين رغم التصدعات الهائلة التي وقعت فيه، وحينما وجد الأميركان أن العراق رغم كل الدعم لإيران لم يسقط قاموا بغواية صدام حسين حتى يحتل الكويت ومن ثم يقومون هم بما عجز عنه الإيرانيون، وسقط صدام في الفخ واحتل الكويت في 2 أغسطس 1990 لتبدأ عملية التصفية المباشرة للعراق من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل متمثلة في تحالف دخلت فيه الدول العربية، وتم القضاء في حرب تحرير الكويت هذه على القوة المتماسكة في الجيش العراقي وأخضع العراق لسطوة الغرب عبر الحظر الطويل الذي فرض عليه من أغسطس 1991، لكن كل ذلك لم يؤد إلى سقوط العراق فقررت الولايات المتحدة في مارس عام 2003 إسقاط نظام صدام حسين الذي كان مع كل مساوئه سدا مانعا للمد الشيعي الفارسي عن المنطقة ونجحت الولايات المتحدة في إسقاط صدام ونظامه وإقامة نظام شيعي طائفي في العراق، لكن خلال هذه الفترة كان التعاون الأميركي الإيراني يجري على قدم وساق، فمنذ أعلنت أميركا حربها ضد الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وضعت إيران يدها في يد الشيطان الأكبر وكانت خير داعم له في حربه ضد أفغانستان وبعد ذلك ضد العراق.
التحالف الأميركي الإيراني ضد أفغانستان! (4)
احتل السوفيات أفغانستان عام 1979 وهو نفس العام الذي قامت فيه الثورة الإيرانية غير أن الإيرانيين لم يكن لهم أي دور ملموس في دعم الأفغان في جهادهم ضد السوفيات الذي تداعى له المسلمون من كل مكان، بل إن إيران اتخذت موقفا مضادا للمجاهدين حينما خرج السوفيات من أفغانستان عام 1989 وشكل المجاهدون حكومة انتقالية برئاسة صبغة الله مجددي في 24 فبراير عام 1989 واستبعدوا طهران من ترتيباتها فقامت طهران عنادا في المجاهدين بالتقارب مع نظام نجيب الله الشيوعي في كابل الذي كان يحاربه المجاهدون الأفغان.
ولم يقف الأمر عند حد التقارب بل دعت طهران نجيب الله لزيارة إيران وزار مدينة مشهد في شهر نوفمبر عام 1990.
أما اللاجئون الأفغان الذين فروا إلى إيران بحكم طبيعة الجوار- حيث تشارك إيران أفغانستان في حدود طويلة يصل مداها إلى 942 كيلومترا فقد كانوا ومازالوا يعانون الأمرين، وتشير دراسة للباحثة فاطمة الصمادي نشرت على موقع الجزيرة نت في 16 مايو 2012 إلى أنه «وفق تقرير أخير لوكالة الأنباء العمالية (إيلنا) يوجد في إيران 900 ألف لاجئ أفغاني دخلوا بصورة قانونية، يعيش معظمهم في المدن في حين تعيش نسبة ضئيلة تقل عن 3 % في معسكرات خاصة. وهناك ما يزيد على المليون و400 ألف مهاجر دخلوا بصورة غير قانونية، تتمركز غالبيتهم في مناطق طهران وخراسان الكبرى، ومصنفون ضمن صورة نمطية كالآتي: الأفغان الخطرون، اللصوص، المجرمون، مسببو البطالة.
وانتهجت حكومة نجاد منذ العام 2005 سياسة إعادة اللاجئين الأفغان إجبارياً إلى بلادهم ويشكو المهاجرون الأفغان في إيران من التمييز والمعاملة غير الإنسانية ويفتقد معظمهم للحقوق الإنسانية مثل حق العمل والسكن والرعاية الصحية والتعليم والعجز عن بناء هوية اجتماعية أو هوية جديدة لنفسه في المجتمع الإيراني».
ولا تسمح إيران لأي جمعيات خيرية سنية بتقديم أية مساعدات إنسانية للأفغان اللاجئين في أراضيها أو حتى للعرب السنة الإيرانيين الذين يزيد عددهم على 20 مليون سني يتعرضون للاضطهاد البشع في إيران.
هذه المعاملة العنصرية من الإيرانيين للأفغان السنة تعكس العقدة المذهبية الطائفية الضيقة التي تصوغ من خلالها إيران سياستها بشكل عام تجاه الإيرانيين العرب السنة والشعوب السنية المحيطة بها حيث إن الدعم الإيراني للأفغان تركز على الشيعة الأفغان الهزارة فقط.
وأذكر أنه خلال تغطيتي للحرب الأفغانية بين عامي 1987 و1990 أن قوافل المجاهدين الأفغان كانت تتجنب المرور في مناطق الشيعة في أفغانستان لأنهم كانوا يتعرضون للابتزاز والاختطاف وسلب أسلحتهم وقوافلهم وقد قمت بما يقرب من ثلاثين رحلة صحفية إلى داخل أفغانستان خلال تغطيتي للحرب الأفغانية دونتها في كتبي الأربعة عن أفغانستان ورأيت كيف كانت مناطق الشيعة الأفغان تمثل خطرا على المجاهدين لا يقل عن خطر الشيوعيين، وقد اختطف الشيعة الأفغان أكثر من مرة أطباء عرب ومصريين ممن كانوا يعملون مع اللجان الإغاثية وساوموا عليهم بطلب الفدية والأموال، وفي رحلتي المطولة إلى كابل والتي رويتها في كتابي «تحت وابل النيران في أفغانستان» رويت قصة القائد الشيعي الذي كنا نمر في منطقته وطلبنا منه أن يمنحنا تصريح عبور من باقي المناطق التابعة له إلا أنه رفض لاسيما حينما عرف أنني عربي وقد استبد بي القلق من طريقة تعاملهم معي وخشي القائد الذي كنت أصحبه من أن يختطفوني أو يقتلوني وأشار لي بضرورة مغادرة المكان الذي غادرناه خائفين ونحن نخشى من الغدر، وقرر القائد أن يغير الطريق الذي كنا سنسلكه إلى طريق جبلي طويل وعر وشاق يشعر الإنسان وهو يصعد جباله كأنما يصعد في السماء..