هل للمرأة أن تخطب خطبة العيد؟

مجاهد ديرانية

أثار منشوري المقتضَب الذي نشرته أمس ردوداً كثيرة تفاوتت بين الاستنكار والاستفسار. استنكر أنصارُ داعش وصفي لها بالغلوّ وطالبوني بالدليل، والدليلُ -لمن أراد الدليل- مبسوطٌ في عشرات المقالات التي كتبتها عن داعش في عام مضى، وفي مئات ومئات مما كتبه غيري من الأفاضل ممّن هم أوسع مني علماً وأسطع بياناً، فمَن أراد الحق فليبحث عنه صادقاً يَهْدِه الله إليه إن شاء. الفريق الآخر تساءل باحثاً عن الحق لا مُمارياً فيه، لذلك فإن من حقه أن يسمع الجواب المفصَّل عن هذا السؤال: هل يمنع الشرعُ المرأةَ فعلاً من خطبة الجمعة وخطبة العيد؟

الأصل أن صوت المرأة -في غير تطريب وتلحين- ليس بعورة، فلا تُمنَع من مخاطبة الرجال ولا يُمنَعون من الاستماع إليها إلا إذا تعمّدت الترخيم والتنغيم، ومنه نَهيُه تبارك وتعالى لأمهات المؤمنين ولعامة نساء المسلمين: {فلا تخضعنَ بالقول فيطمعَ الذي في قلبه مرض}. فإذا خلا كلامُ المرأة من التطريب واللين المتعمَّد جاز أن يسمعها الرجال، ولا فرقَ بين أن يكون كلامُها في موضوع علمي أو في غيره.

وقد عرف تاريخنا العلمي مئات (وربما آلافاً) من العالمات اللائي تتلمذ عليهنّ علماء كبار، ومن قرأ "سير أعلام النبلاء" -على سبيل المثال- وجد ما يثير الدهشة والعجب في هذا الباب، وفيه دليل على أن الإسلام لا يمنع المرأة من تدريس الرجال إذا كانت مستترة بحجابها الشرعي، وأحسب أنه في حكم المكروه إذا كانت في سنّ الشباب وخُشِيَت الفتنة بها أو عليها، فلا تستوي الشابة بنت العشرين والثلاثين مع الكهلة التي جاوزت الأربعين أو بلغت الخمسين. وهذا حكم يستوي فيه الدرس والخطبة لأنهما من جنس واحد.

ذلك إن كانت الخطبة من أمور الدنيا، أما خطبة الجمعة وخطبة العيد فإنهما من أمور الدين، فلا تدخلان في باب العادات بل في باب العبادات،والعبادات تدخل في قوله صلى الله عليه وسلم "أمْرنا" في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ"، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد". ففهمنا أنّ ما يُستحدَث في الدين من زيادة أو تغيير فإنه يُرَدّ على مُحْدِثه ولا يصحّ في شريعة الإسلام.

فصار محل البحث هنا هو: هل خطبة العيد من أمور الدين أم من أمور الدنيا؟ وهل هي جزء من صلاة العيد أم أنها عمل مستقل؟ الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب بالناس ويصلي بهم، وهذا هو ما صنعه الخلفاء الراشدون الأربعة من بعده، فاستنتج العلماء أن الصلاة والخطبة "كيان واحد"، فلا صلاةَ عيد بلا خطبة ولا خطبةَ عيد بلا صلاة؛ جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "يُستحَبّ أن لا يؤمّ القومَ إلا مَن خطب فيهم لأن الصلاة والخطبة كشيء واحد".

واستحباب أن يتولى الصلاةَ والخطبةَ إمام واحد هو مذهب الجمهور، وهو واجب عند المالكية، فلا يجوز عندهم أن يتولى الصلاة غيرُ الخطيب إلا لعذر. وجوّز الأحنافُ أن يتقدم للصلاة غيرُ الخطيب إذا شهد الخطبةَ أو جزءاً منها، ولا يجوز أن يَؤمّ مَن لم يشهد شيئاً من الخطبة. كل ذلك يؤكد أن الصلاة والخطبة عبادة واحدة لا عبادتان منفصلتان، فإذا كانت الخطبة والصلاة أمراً واحداً صار حكمهما واحداً، وقد اتفق أهل العلم -بلا خلاف- على أن إمامة المرأة للرجال في الفرائض والجُمَع والأعياد لا تجوز، قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": "واتفقوا أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتهم فاسدة بإجماع".

ولو أن امرأة ساغ لها أن تخطب في جمعة أو عيد لخطبت عائشة رضي الله عنها في الصحابة، فقد كان عندها من العلم ما لم يكن عند كثير منهم؛أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري: "ما أشكل علينا -أصحابَ رسول الله- حديثٌ قطّ فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً". وبلغت -رضي الله عنها- القمّةَ في الفصاحة والبيان؛ أخرج الطبراني عن معاوية أنه قال: "والله ما رأيت خطيباً قطّ أبلغَ ولا أفصحَ ولا أفطن من عائشة". وفي "سير أعلام النبلاء" أن الأحنف بن قيس قال: "سمعت خطب أبي بكر وعثمان وعلي والخلفاء إلى يومي هذا، فما سمعت الكلامَ من فم مخلوق أفخمَ ولا أحسنَ منه من فم عائشة"، وفي السّيَر أيضاً عن ابن شهاب الزهري: "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل".

فهل جاد علينا الزمان الأخير بخطيبة أعلم وأفصح من عائشة، أم أن حكم الجواز خَفِيَ على الصحابة وبقي مستتراً طوال العصور حتى اكتشفه بعض العباقرة أخيراً؟

ثم لو أنّا سلَّمْنا -جدَلاً لا إقراراً- بأن خطبة العيد جائزة للمرأة، فهل يجوز أن تتولاها مَن تنكر معلوماً من الدين بالضرورة؟ لو أن رجلاً أنكر شيئاً من الدين لم يَجُزْ له أن يخطب ويؤمّ المسلمين في جمعة وعيد، فكيف يجوز ذلك لامرأة لا تعترف بالحجاب الذي فرضه الإسلام ولا تبالي بأن تظهر في المجتمعات والمؤتمرات حاسرةَ الرأس مكشوفةَ الشعر؟

لو أنها كشفت وجهها فحسب لقلنا إنه محل خلاف قديم بين أهل العلم ولم ننكر، أما الرأس فما علمنا إلا أن الإجماع منعقد بين علماء الأمة في كل العصور على أنه من العورة الأصلية؛ قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": "واتفقوا على أن شعر الحرّة وجسمها -حاشا وجهَها ويدها- عورة، واختلفوا في الوجه واليدين". ولو أنها أقرّت ثم خالفت لكانت عاصية مخطئة فحسب، ومَن منا يخلو من خطأ أو معصية؟ أمّا الإنكار؟! نسأل الله الفقه بالدين والثبات على الحق والوفاة على الإيمان.

*   *   *

الخلاصة: إن خطبة العيد عبادة، والعبادات لا تتغير أحكامُها بتغير الأحوال والأزمان. وهي جزء من شعيرة صلاة العيد، فلا يخرج حكمُ الخطبة عن حكم الإمامة. والإمامة في الصلاة لا تجوز إلا للرجال بإجماع، وحتى لو جاز (نقول "لو"، وهي حرف امتناع لامتناع كما يقول النحاة) لو جاز أن تخطب بالرجال امرأةٌ فلا يجوز أن تصنع ذلك مَن تنكر شيئاً من شرائع الدين المعلومة بالضرورة والمجمَع عليها بين فقهاء الأمة في كل العصور.