أنسنة العقل , وعقلنة العلمانية

أنسنة العقل , وعقلنة العلمانية

د. نصر حسن

[email protected]

(3 – 3)

 نحاول في هذا الجزء توسيع دائرة النقد المنتج بإبداء رأي في رزمة من المفاهيم والقضايا التي تُعرض بشكل نراه ملتبس , ولاشك أن استمرار تعويم الإلتباس والدوران فيه هو تعقيداً وليس حلاً , وبداية الحل هو نقل المشكلة إلى ساحة العقل العملي ومحاكاة الواقع وليس الخيال , والشفافية في المواجهة والمعالجة وتجنب الإختباء وراء ستار ( العلمانية والديموقراطية )ونظائرها , لأن ذلك يزيد اللبس ويحث على إثارة الشبهات, وفي محصلته يمثل استحضار الفتنة , يتمظهر ذلك في دفع إشكالية فردية إلى ساحة المجتمع , وجره إلى السجال والجدال بعيداً عن مشاكله الأساسية , وبعض المطروح فيها هو المتعلق بحرية الإعتقاد ,والمقصود صراحةً هو حرية تغيير الدين (اختراق مرجعيته) , ولن نخوض بالسجال الإنشائي وحتى المتناسق بلاغياً وشكلياً منه , نقول أن القناعة بدين ما , هي أولاً فطرية بمعنى الولادة , وثانياً تربوية اجتماعية ,وثالثاً تكوينية في الإنسان , بمعنى التعقل وتوسع المدارك وتراكم المعرفة والتحقق من سلامة القناعة وصحتها وجدواها , ورابعاً استقرار نفسي  تبنى عليه ملامح شخصية فكرية محددة (هوية ), وبالتالي نرى أن تغيير الدين هي عملية مركبة معقدة نفسياً وعقلياً ودينياً واجتماعياً وسلوكياً , ولايمكن بالمطلق قبول العقل السليم لحالة تبديل الدين بطريقة آلية تفاضلية لحظية كما يغير الإنسان لباسه , وبكل الأحوال نرى أن هذا شأن فردي له أبعاد متناقضة في شكل طفرة ,وله حل ديني وقانوني , لكن لانراه جسراً علمانياً نحو الحداثة , بقدر ماهو عنوان مثير عاصفي في الوسط الإعلامي العربي ومنها السوري ,ورويداً رويداً تنسحب إلى الوسط الديني والفكري والإجتماعي والأهلي ليأخذ أبعاد مشكلة مصطنعة, هذه عينة أردناها مدخلاً ومثالاً مباشراً لمستوى العناوين المطروحة للتحديث بإطار علماني , مثل هذا المدخل الموارب لفهم الدين والعلمانية والحرية الشخصية هو محاولة لدخول الحداثة , كمثل من يريد الخروج من الغرفة من نافذة مغلقة ,  مخرج هدفه كسر تماسك نواة المجتمع والحض على الإثارة والبلبلة , يتناغم معها الإعلام التجاري المسيس , وتقوم  المقالات والصحافة والمنظمات والدنيا ولم تقعد بعد , هنا لابد من عرض طيف دعاة " الحرية الجديدة " أو الطرح الموجود كاملاً  ليس مهماً التسمية لأنه غاب الفرز وطغى التداخل والتشابك في الفكر والسياسة , ,وعليه يتواتر اللبس في موضوع الأقلية والأكثرية ومتواليتها التقسيمية  ,وهي تسمية ملغومة ,إذ هل هناك مجتمع مثالي صافي العرق وموحد الديانة ومتجانس لدرجة النقاء ؟!, وأيضاً  مشكلة المسلمين في العصمة والطلاق والزواج والحجاب , والمسيحيين في الطلاق والزواج أيضاً , والزواج المسيار والمتعة والإيجار , والإرث الذي يصوره البعض أنه مشكلة الإقتصاد السوري, وأيضاً حرية المرأة التي تشوه وتغلف بألف شكل وكأنها سبب تخلف المجتمع الوحيد ,والإباحية  والرجم والجلد والقطع و...., وأيضاً العلمانية والدين , والإصرار على أنهما متوازيان لايمكن أن يلتقيان, وأن وجود أحدهما يلغي الآخر , ومتماثلات  ونقائض تشكل سلسلة طويلة

منتقاة بعناية , بحيث لاتحرم فرداً من المجتمع من مشكله جاهزة له بل أكثر .

هذه حالة مواربة مفاهيمية لاتنتج المفاهيم الحداثية ,بل تبطن التخريب النفسي وتنتج التخلخل والفوضى الفكرية في مجتمع مصاب بحالة الإعياء العقلي العام , وعليه هذا العرض نراه عرض إشكالي ,بل مفرخ  للإشكاليات , ورغم أن هذه الظواهر موجودة بهذه النسبة أوتلك ,وسببها الأساسي هو غياب منظومة القيم التي تحدد سلوك الأفراد , وغياب النظام القانوني الذي يضبط الممارسة الإجتماعية والإنسانية على مستوى الفرد والعقل والقلب والغرائز , وتمدد سجن الإستبداد الذي يفرخ التطرف والفلتان بشتى مظاهره , ليس هذا هو واقع سورية الراهن , وتناقضاته الرئيسية هي من نوع آخر ,واستمرار مقاربته على هذا الشكل لايوحي لكافة الأطراف الدينية والسياسية والثقافية والأهلية سوى بالخوف, الذي يكبر بسرعة ليلامس القلق, خاصةً عندما يستسلم رواد الثقافة والسياسة والحداثة أمام الواقع الراهن وعناوينه الجانبية تلك, ويتسابقون بوصفه وضخ مايحتاجه من صيغ وقولبات وشقلبات نظرية تجزيئية خطيرة عن قصد أو خلافه, وينتفي البديل.

المشكلة هي أكبر من ذلك وأعمق في الشكل والمضمون , وهي تتعلق بخيارات فكرية جديدة , وهي حالة عامة تطال الجميع ,ويتناولها معظم الكتاب والمثقفون السوريون بهذا القدر أو ذاك من العمق والتوازن والعقلانية , لكن المقلق فيها هو تلاشي الناظم الفكري العام في الحالة السورية الراهنة , فالنظام لم يعد موجوداً سوى بظواهر القمع ومصادرة الحريات والفساد ,وإفراز العوامل التي تؤدي إلى المزيد من التطرف والخوف , والدولة غيرموجودة سوى في قانون العقوبات والطوارئ والمحاكم الإستثنائية , ووهنت الروابط الجامعة الوطنية والقومية والدينية والإيديولوجية والثقافية , وانتعشت الغرائز وعاد كل إلى كهفه مسقطاً تخلف الواقع وإفرازات النظام على وعيه , ومتوكلاً على فساد النظام ,مرتداً إلى غريزته , مستسلماً إلى شعوره بأن انتماؤه الوحيد الذي بقي له هو عرقه أودينه أوطائفته أومذهبه أو.....,في سلسلة كريهة من الإنقسام , التي أخذت طوراً فيروسياً لامركزياً ذاتياً مع غياب أي علاج , الذي نريد قوله أن النظام ألغى الدين ,وألغى الدولة ,وألغى المؤسسات ,وألغى تشكيلات المجتمع المدني , وألغى كل الروابط الوطنية والإجتماعية والسياسية وكل صيغ العمل الإجتماعي ,وأغلق باب الحوار وحصلت القطيعة الكاملة بينه وبين الشعب , وأصبح الشعب السوري محدداً  بالقمع والفقر والإنقسام , في هذا التغييب يكمن عمق الأزمة وهي ليست بالبساطة التي يمكن تجريدها وتقديم حل نظري لها , وهي مركبة وبعدة مستويات وتحتاج إلى إعادة صياغة ليس بتراصف ميكانيكي للمفاهيم ( استبداد /تقابل تلقائي بالديموقراطية ) , الإسلام /عداء تقابلي تبادلي بالعلمانية ) ,هذا الرصف وصفي شكلي يؤشر بعض مظاهر المشكلة ولايحلها , الحل هو في قدرة المجموع على إنتاج صيغ عصرية جامعة تستطيع إعادة تركيب الكل في شكل فكري حضاري واضح , بالحقيقة هذا عمل مثقفين مختصين غير مستلبين ومنسجمين مع أنفسهم ,وغير فاقدي الثقة في ماضيهم وفي

شخصيتهم وفي هويتهم .

بصراحة الآن كل شيئ ضبابي بل دخاني والجميع فقد ثقته بالجميع ,وعدنا إلى الصفر الحضاري الإجتماعي والحقوقي والسياسي والإنساني , وطغت هيمنة الشعور الطائفي والمذهبي الإنفصالي وضمور حس التعايش والإحترام إلى حدود مقلقة , يعكسها التصوير البارع " حكم ذاتي للمسلمين في دولة علمانية " أو العكس , وهذا في بعده الإجتماعي المستقبلي له دلالة تحذيرية كبيرة ,من أن واقع سورية الراهن سينفرط في وقت ما أوتوماتيكياً إلى أنماط  وأشكال من" المحميات الذاتية والفيدراليات " العرقية والطائفية والمذهبية , يصبح الحزام الطائفي هو المحصلة ! من فيدراليات أصولية مذهبية دينية ووثنية مبعثرة متحاربة يقتل بعضها بعضاً , بما يعني واقعاً أن سورية في حالة استمرار ضعف قوى المواجهة ,والفكرية منها في المقدمة وعجزها عن تقديم البديل الوطني , إذاً هي قادمة على حالة تمزق خطيرة والجميع يستسلم تدريجياً لها , يغذيها تغول الإستبداد والفوضى الإقليمية والإحباط وفقدان الأمل بالتغيير أو الإصلاح المنتظر , بمايشبه لوحة درامية واقعية يعرضها النظام بخبث نعيشها ليل نهار مترافقة مع احمرار وسواد أشلاء صورة العراق الجديد كمثالاً حياً لها , وإيحاء الإستبداد بأنه أمر واقع في سورية لامحالة , إذا حدث التغيير.!.