مناقشة هادئة لقضية ساخنة

محمد صالح الشمّري

المظالم الكردية

محمد صالح الشمّري

نتعاطف - بكل القوة-  مع المطالب الكردية برفع الحيف عنهم ومنحهم حقوقهم المشروعة واحترام خصوصيتهم في إطار العقد الوطني الذي يستند إلى الديمقراطية أرضية ومرجعاً وحكماً.. ولكن: تطلع علينا بين الحين والآخر بعض الأقلام الكردية - أو (الكوردية) كما يحلو للبعض أن يصفها... بمقالات تحسب أنها تدافع عن هؤلاء المضطهدين، ونحن هنا لا نشكك في  إخلاص هذه الأقلام ولا في حماسها لإنصاف أهلها ورفع الظلم عنهم.. إلا أننا نرى أنها تجانب الحكمة وتضر بالقضية التي تدافع عنها وتسهم في حشر قومها في زوايا الظلم والظلمات..

لن نلتفت - في هذه المقاربة- للأقلام المتطرفة التي تطالب بـ (الاستقلال) وتمزيق الوطن وتبجل السلاح وتتغنى بالعنف واستخدام القوة.. فهذه لا تمثل إخواننا الأكراد ولا تتحدث باسمهم ولا تعبر عن تطلعاتهم وأهدافهم وحقوقهم..

وإنما نناقش الأقلام التي تدافع عن حقوق الأكراد بـ (أساليب ديمقراطية لا عنفية).. - ونؤكد تكراراً- بأننا لا نشكك في إخلاص هذه الأقلام.. إنما في مدى خدمتها لقضية أهلها من جهة وفي مدى تمثيلها لتطلعات قومها من جهة ثانية.. ونرى في هذا المجال ما يلي:

- إن هذه الأقلام يصعب عليها التفريق بين النظام الذي يحكم زوراً باسم حزب البعث وبين المعارضة المكتوية بنيران هذا النظام.. بل يصعب عليها أحياناً التفريق بين النظام وبين الشعب السوري كافة ويخرج المتابع (لبعض) هذه الأقلام بانطباع مفاده أن الشعب السوري بكل فئاته متواطئ أو موافق أو ساكت أو متجاهل على أقل تقدير للمظالم التي تحيق بالأكراد.. وهنا تتقمص هذه الأقلام الدور ذاته الذي يقوم به المستبد الذي يوزع ظلمه على كل شبر وكل فرد في سورية.. وهو الأمر الذي ينبغي على هذه الأقلام أن تنتبه إليه وتتجنبه بشكل قاطع لأن رفع الظلم لا يمكن بحال الأحوال أن يتحقق بإنزال ظلم آخر على أناس مخنوقين أصلاً من ظلم النظام وجوره وفساده.

بعض هذه الأقلام.. بل أكاد أقول (معظم) هذه الأقلام تتحدث - ضمناً- عن أكراد الجزيرة السورية ومطالبهم أو بتعبير أدق ما تظن أنها مطالبهم وتطلعاتهم.. لأن مطالب أكراد الجزيرة متباينة بشكل كبير وفي بعض الأحيان غير متبلورة لدى عامة الأكراد الذي جُهِّلوا عن سابق عمد من قبل النظام المستبد الذي (حسبها) بشكل خاطئ عندما ظن أن تجهيل الأكراد يسهل عليه ضبطهم والسيطرة عليهم.. وما درى أن الجهل كله شرور وظلم وظلمات ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله - كما هو معروف ومسلَّم به لدى أهل العقول والأفهام-  فالمثقف المتنور أقدر على الحوار والتفاهم والوصول إلى حلول منطقية سلمية ديمقراطية من الجاهل الذي غالباً ما يدفعه جهله إلى استخدام العنف الذي هو أيسر منالاً بالنسبة له من الحوار وإعمال العقل الذي لا يتواءم مع مبلغ علمه وثقافته!!.

فالكردي الأمي - ونسبة هؤلاء ليست قليلة نتيجة التجهيل المتعمد كما أسلفنا- قد لا تكون هذه مطالبه بل أحياناً هو لا يفهم رطانة هذه الأقلام التي تتحدث باسمه دون تفويض منه أو استطلاع لرأيه أو سبر لتطلعاته..

كما أن نظرة خاطفة إلى الخريطة الحزبية الكردية ستظهر واقعاً مؤلماً لأعداد هذه الأحزاب وتباين برامجها وأهدافها المعلنة فأي هذه الأحزاب يمكنه ادعاء تمثيله للأكراد بشكل عام ولمطالبهم الحقيقية؟! ولا يخفى على القارئ الكريم أن مطالب شعب ممتد على مساحة غير قليلة من سورية يصعب بل يستحيل تلمسها والوقوف عليها في أجواء الاستبداد التي تحيق بالوطن منذ عقود عديدة...

وأكراد سورية، كما هو معلوم، منتشرون في طول البلاد وعرضها من دمشق إلى حلب إلى حماة.. إلخ.. فمن قال إن مطالب هؤلاء تتطابق مع مطالب أكراد الجزيرة - هذا على فرض أننا وقفنا حقيقة على مطالب هؤلاء أصلاً؟!!

وأي عاقل يمكنه القول إن أكراد دمشق وحلب وحماة الذين تفاعلوا مع مجتمعهم منذ عقود مديدة لم يشعروا خلالها بأي تفرقة ضدهم وتسلموا الوظائف والمناصب من أول السلم الوظيفي إلى رئاسة الدولة أكثر من مرة دون أن يلتفت أي سوري -على الإطلاق- إلى أنهم أكراد أو أنهم يختلفون عن أي مواطن سوري أياً كان أصله وفصله.. نقول هل يمكن القول إن مطالب هؤلاء الأكراد تتطابق مع مطالب أكراد الجزيرة الذين تعتورهم المظالم من جهات حياتهم الأربعة.. أو الستة؟!.

أم أن الأقلام الكردية المتشنجة لا تعترف أصلاً (بكردية) هؤلاء الأكراد وتمنح شرف الكردية فقط لأكراد الجزيرة؟!!

وقد يقول قائل إن المثقفين في المجتمع بشكل عام هم خير من يعبر عن حقوق وأهداف وتطلعات هذا المجتمع وهذه كلمة حق.. ولكن هذا لا يكون دقيقاً في مجتمع نال منه الظلم والفساد وكبت الحريات.. وإنما في مناخ من الحرية والديمقراطية التي تتيح للناس انتقاء خياراتها الحقيقية المبرأة من ردود الأفعال التي يولدها -عادة- الظلم والقهر..

فهل الكردي المظلوم المقهور الذي اغتصبت أرضه وجرِّد من هويته وحورب في رزقه وكبتت حريته وانتزع منه كل حق من حقوق الإنسان.. هو المؤهل للحوار مع أبناء مجتمعه من أجل الوصول معهم إلى قواسم مشتركة وعقد اجتماعي يحدد علاقاته معهم ويرسم ملامح مستقبله معهم..

أم أن الكردي الذي يتمتع بحريته وحقوقه كأي مواطن في بلد حر تظلله أفياء الديمقراطية والاحترام المتبادل بين أطياف مجتمعه.. هو المؤهل حقاً للحوار والوصول إلى حلول منطقية واقعية قابلة للتطبيق والاستمرارية؟!

فلماذا إذاً تحمل بعض الأقلام الكردية السلم بالعرض وتتخذ مواقف متصلبة وتغرس أقدامها في أرضية أي لقاء للمعارضة وتقول امنحوني كامل حقوقي قبل أن أخطو معكم خطوة واحدة؟!

ثمة أمر آخر يتوجب تسليط الضوء عليه وهو أن في الأكراد تيارات تتبنى المرجعية الإسلامية التي ترى في القوميات عامل تنوع وإغناء وتعارف.. لا مصدر فرقة وتنافر وعداء.. وبالتالي فهي لا تنظر إلى القومية العربية نظرة تشنج أو ريبة أو تنافس وإنما نظرة احترام يعززها توقير جماهير الأكراد المؤمنة بالفطرة للنبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم وللغة القرآن الكريم الذي يقدسه كل كردي في بلاد الشام.. فهل هؤلاء أكراد أم لا.. وهل كتابات الأقلام المتشنجة التي تملأ صفحات المواقع الإلكترونية تعبر عن ضمير هؤلاء وأهدافهم وتطلعاتهم ومطالبهم؟!!

يا إخواننا الأكراد أصحاب الأقلام المتحمسة المتشنجة.. اتقوا الله فيما تكتبون.. ولا تصبوا الزيت على نيران بلدكم المتأججة أصلاً والتي يتربص بها العدو وينكل بأهلها النظام.. فالعقل والمنطق والإنصاف كلها تقتضي أن يكون الخطاب الموجه إلى جماهير الأكراد عامل تلطيف وتهدئة وإفساح المجال الأقصى للعقل الذي يكاد يحجبه الظلم والاستبداد.. لا خطاب تأجيج للعواطف الملتهبة أصلاً.. ولا خطاب البازار الذي يزاود في حقوق الأكراد المهضومة.. فأي سوري لم يهضم حقه؟!!.

كما أن الحق والحقيقة تقتضي منكم الاعتراف بأن الأكراد قومية مثل بقية القوميات وليست تياراً سياسياً أو حزباً يحمل أفكاراً موحدة واضحة مبلورة معلنة.. بل إن فيهم تيارات متباينة وأحياناً متناقضة ومتنافرة ومتصادمة.. وليسوا كلهم على قلب رجل واحد تؤزه فكرة الاستقلال أو التمايزعن مجتمعه وجيرانه الذين يعيش معهم منذ مئات السنين في وئام كدرته ممارسات الظالمين الذين لا يمثلون المواطن السوري الذي لم يُعرف عنه قط تعصب أو تمييز ضد من يتقاسم معه الوطن والعقيدة والخبز والملح.. إن التشدد يستطيعه أي قلم فهو كالماء ينساب بكل سهولة مع الواطئ من الأرض.. أما تشييد البنيان فهو الذي يحتاج إلى جهد وحكمة وأناة وتسديد المواقف وتخليص الخطاب من كل عوامل التأزيم..

فالأمر يحتاج إلى خلع نظارات التصادم والتنابذ والشحناء.. ولبس نظارات التعايش وتسليط الأضواء على المساحات المشتركة ونقاط الالتقاء ومواطن التوافق فالمنطقة حولنا كلها مشتعلة والنظام يطرب لكل أزمة تتفجر لأنها تمنحه الفرصة للهروب من استحقاقات الحرية والديمقراطية والحقوق المتوجبة عليه والفواتير التي راكمها على نفسه خلال العقود الكالحة التي جثم فيها على صدر الشام فلا تمنحوه هذه الفرصة للإفلات بجرائره وهو يرى الفرقة تقدم له البقاء والاستمرار على طبق من الفضة..