وقفة مع حزب العدالة التركي

د.عدنان علي رضا النحوي

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

ونودّ أن نقف وقفة قصيرة مع إِخوتنا في تركيا ومع الموقف الذي اتخذوه وأعلنوه . فلابد من أن نذّكر إخوتنا في تركيا ومصر وسائر بقاع الأرض بالصورة الإيمانية الشرعية التي يعرضها الإسلام من خلال نصوصه ومن خلال تاريخه . المسلمون اليوم ليسوا أول من يُبتلى بأعداءٍ لله أقوياء متمكنين ، فالدعوة الإسلامية في الأرض ابتدأت دائماً بمثل هذه المواقف ، دعاة صادقون ضعفاء يجابهون أعداء عتاة وأقوياء ! فالموقف الذي يأمر به الله هو الثبات علي الحق ، إذا كانت النيّة خالصة لله سبحانه وتعالى ، مع إيثار الآخرة على الدنيا وإعلان كلمة الله ودينه . هذه سيرة إبراهيم عليه السـلام وسيرة من آمن به واتبعه ، وهذه سيرة نوح عليه السلام والذين اتبعوه ، وهذه سيرة موسى وعيسى عليهما السلام ، وبإيجاز هذه سيرة الرسل والأنبياء جميعاً ومن اتبعهم من المؤمنين الصادقين . وخُتمت الرسالات كلها بالنبيّ الخاتم محمد r . ولما بُعث الرسول الخاتم كان الرجل الوحيد في الأرض كلها يحمل رسالة الإسلام الخاتمة ، وبدأ يبلغ رسالة الله كما أُنزِلت عليه ، لا يبلّغ صوراً بشرية ولا أفكاراً بشرية ، ولكن يبلغ الوحي من عند الله . ووقفت أمامه قريش كلها وأخذت تساومه , عرضت عليه الملك ، والثروة الهائلة ، وخير نسائهم ، وكل شي مادّي تهفو النفوس إليه . فلم يجتهد ويبتدع ، وإنما اتبع الوحي كما أُنزل عليه ، وهدى الله برحمته بثبات محمد r في دعوته فريقاً من الناس ، آمنوا واتبعوه ، وتعرضوا جميعهم للفتنة والعذاب والمطاردة ، فما تنازلوا عن رسالة ولا عن شعار ولا عن نهج . كانوا يسيرون على خط مستقيم ، يحمل النهج والخطة المدروسة ، والأهداف المحددة ، ويبذلون لهذا كله الجهد الصادق . ثبتوا جميعهم وتحملوا الصعاب ، يتجهون بكل عملهم إلى الله سبحانه وتعالى وحده ، ولاؤهم الأول لله ، وعهدهم الأول مع الله ، وحبهم الأكبر الله ورسوله ، لأنه هو الحل الوحيد أمام المؤمنين في دعوة الله . وهذه قصة أهل الكهف تكشف لنا السبيل أمام المؤمنين الصادقين ، إنه سبيل واحد ، يلتزم دين الله بتكامله وتماسكه لا يساوم على شي منه , ولا يحِرفهم عن ذلك زهوة مُلك ولا مال ولا رئاسة ولا دنيا . هذا هو الدرب الوحيد للنجاة من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة ، الطريق الذي أمر به الله واتّبعه الرسل والمؤمنون الصادقون على مر الزمن . مهما اشتدّ البلاء والتمحيص ما كان للمؤمنين الصادقين أن يساوموا أو يتنازلوا أو ينحرفوا . وهذه قصة حبيب بن زيد رضي الله عنه حين بعثه الرسول r إلى مسيلمة الكذاب . فساومه مسيلمة فأبى فأخذ جنود مسيلمة يقطعون اللحم عن جسده شيئاً فشيئاً حتى مات دون أن يتنازل .

لا ننكر أن الموقف اليوم صعب . وذلك لتمزّق المسلمين ولشدة فتنة الكثيرين عن دينهم . ولكن السبب الرئيس هو أن العمل الإسلامي لا يمثل صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص كما يحبه الله ، ولا يقوم بتبليغ رسالة الله كما أُنْزِلتْ على محمد r إلى الناس كافة وتعهدهم عليها . فلم يتمَّ التبليغ كما أنزلت الرسالة على محمد r ، ولا تمّ التعّهد والبناء على نفس الأساس ، وإنما تحوّل بعض العمل الإسلامي إلى تجميع أنصار يتظاهرون ويُدَوُّون بالشعارات ، ويتنافسون على الدنيا وعلى الانتخابات وزيفها ، ويدخلون في صراع لا يجدي ولا هو مما يثمر في الدنيا ولا في الآخرة ! بهذا كله وبكثير غيره ضاعت الجهود وشُغِلَ المسلمون عن الأهداف الربّانيّة التي أمر الله بها ، فلا نجح البلاغ ، ولا التعهد ، ولا بناء الأجيال المؤمنة التي أَمر الله ببنائها . ومضت عشرات السنين والمسلمون يزدادون ضعفاً ووهناً .

هذا الوهن تكشّف في واقع المسلمين اليوم بنواح بارزة من الضعف . وأول ما نشير إليه أن المسلمين فشلوا في أن يقدّموا حلولاً ربّانيّة من الكتاب والسنة لمشكلات العصر وقضاياه . ولما شعروا بالفشل ركضوا إلى حلول الغرب ليخدعوا أَنْفُسَهم والناس بقولهم إن هذه من الإسلام . فتنشط الفتاوى ، وتُبحّ حناجر الدعاة ، وتصدر الكتب ، لتثبت أن الاشتراكية من الإسلام ، وأن الديمقراطية من الإسـلام ، وأن العلمانيـة من الإسـلام ، وقِسْ علي ذلك كلَّ مبادئ الغرب المادّية ... ! كما ذكرنا في صفحات سابقة .

إذن نجح نيكسون في خطته التي أعلنها في كتبه الثلاثة : نصر بلا حرب ، الفرصة السانحة ، ما وراء السلام ، التي موجزها :

 1ـ " في الشرق عاصفة إسلامية لا نريد أن نصطدم معها ولكن نريد أن نحرفها " ، وقد حرف شيئاً كثيراً ، وانحرف دعاة كثيرون .

 2ـ إن المعتدلين مـن المسلمين هم حُصّتنا فهم بحاجة إلينا ، ونحن بحاجة ٍ إليهم . هم بحاجة إلينا لنقدّم لهم فكراً جديداً غير فكـر الأصوليين ، وسندعمهم بالمال والإعلام ، وغير ذلك .    

فهل ما نشهده من الانحرافات اليوم والخروج عن الكتاب والسنة هو ثمرة هذه الخطة ؟!

من حق المسلم اليوم أن يتساءل : أخذ العمل الإسلامي فرصة واسعة من الزمن ليحققّ شعاراته التي جمع الناس عليها ، فأين الجنى ؟! أين الثمار ؟! ولماذا هذه الهزائم والفواجع والهوان والإذلال ؟! أين الخلل؟! هل الخلل في أن أعداء الإسلام أقوياء فظلمونا واعتدوا علينا أم أن الخلل فينا نحن المسلمين ؟!

ومن واجب العمل الإسلامي أن يقف وقفة إيمانيّة ليُحاسب نفسه كما يأمر الله في كتابه وسنة رسولهr ، ويسأل أَين الخلل ؟!

ثمّ يجب أن تقوم الدراسات الجادة بعيدة عن الاستكبار والكِبْرِ لتُحدَّد الأخطاءُ كلها صغيرها وكبيرها ، ومن خلال ردّ جميع الأمور إلى منهاج الله ردّاً أمنياً ! ثم يُوضع العلاجُ الربّانيّ الأمين الصادق لينطلق قبل فوات الفرصة .

في سيرة الرسل والأنبياء وسيرة أصحابهم وأصحاب محمد r خط واحد غير متقطع ولا متعرّج ، خط مستقيم من الثبات على الحق عدم تبْديل كلمات الله ولا آياته ، ولا المساومة عليها أبداً .

والعجيب أن ترى بعض الدعاة يحيون نجاح عبد الله غول في رئاسة تركيا من خلال التصريحات المدوية : " لا تقولوا عنا إسلاميين ، نحن علمانيون . " أو تعهدهم بحماية العلمانية في تركيا ، وكأنه اتفاق بينهم وبين العلمانيين .

لقد كان تنازل أربكان حين وضع إكليل الزهور علي قبر أتاتورك، وإعلانه تأييد العلمانية التي جاء بها أتاتورك ، تنازلاًَ وصل إلى مرحلة مهدت لتنازل أكبر يعلن فيه قادة الحزب تَبرُّؤهم من الإسلام : " لا تقولوا نحن إسلاميون " شيء لم يفعله أربكان ! فما هو التنازل القادم ؟!

لا شك أن القوى العلمانية قي الأرض، بما فيها القوى العلمانية في الواقع الإسلامي ، ترحب بهذا الموقف من غول و أردوغان وحزبهم ، يرحّبون بهذا التنازل الذي لم يحدث أبداً في التاريخ الإسلامي .

إنها فتنة كبيرة رحّبت بها بعض المجلات والصحف الإسلامية ، وبعض الدعاة بعد أن فشلوا في دعوتهم ، وأَحدث بلبلة واسعة في الفكر الإسلامي ونهجه التطبيقي . إنا نرى هذه الفتنـة استخدمت الأسلوب الميكيافلي: الغاية تبرر الوسيلة ، ولم تستخدم الأسلوب الرباني :

 " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ... " [هود :112]

المؤسف أنه حدث خلال ذلك تنازلات جزئية لا نعْرفها كلَّها ولكن بدا بعضها ، حيث أصبح الحجاب ومعركة الحجاب قطعة قماش توضع على الرأس لتغطي الشعر ، مع إبداء الزينة والجمال والقوام وما يتبع ذلك مما هو محرّم تحريماً قطعياً ، ومما هو داخل بوضوح في كلمة الزينة التي حرّم الله ظهورها ، حتى حرّم الضرب بالرِّجل لتُعلَم زينة الخلخال و أمثاله .

إن نواحي كثيـرة من فكر العلمانية ومن مظاهرها دخلت في حياة المسلمين ، وانسلّت انسلالاً حتى كأنه لم يشعر بها أحد . فلابدّ أن يستيقظ المسلمون ويلجؤوا إلى الله ، ويتوبوا ويستقيموا على أمره . وليستبشروا بأن الله غالب على أمره ، وأن الإسلام سينتصر بنصر من عند الله ، وينزله علي جنود له صدق التزامهم ، وصحّت استقامتهم ، وعرف الله ما في قلوبهم .

ندرك أن واقع تركيا وتاريخها المعاصر شديد الوطأة على الإسلام والمسلمين ، ولا ننسى إعدام عدنان مندريس وتصفية من يحملون الاتجاه الإسلامي ، ولا نتجاهل وحشية القمع العلماني والديمقراطي في تركيا وغيرها . ولكن هذا كلّه لا يكون في ميزان الإسلام وشرع الله مسوّغاً لهذا الهبوط أبداً .

إن النشاط كله الذي قام به حزب العدالة والتنمية كان يحمل في الرأي العام الإسلامي في العالم الإسلامي العاطفة التي تتصور أنه نشاط إسلامي . وإن إعلان غول وأردوغان أنهم ليسوا إسلاميين ولكنهم علمانيون لم يكن وقعه في النفوس إلا أنها محاولة ذكية في سبيل الوصول إلى الحكم تحت شعار العلمانية ودستور العلمانية ومؤسسات العلمانية . ولكنّ هذا الإعلان : "لا تقولوا عنا إسلاميين نحن علمانيون " وقولهم " سنحمي العلمانية ودستورها ومؤسستها ...." ، إن هذا الإعلان منزلته عند الله شيء آخر ، مهما ادّعى أناس أن أصحاب هذا الإعلان يضمرون في قلوبهم نصّرة الإسلام ، إنه ادعاء لا يقوم على أساس من الواقع ولا الدين والإيمان .

إذا كان الهدف دنيوياً وهو بلوغ سدّة الحكم ، وكان هذا هو الهدف المسيطر على فكرهم وشعورهم ، فلاشك أن ما فعلوه هو خطـوات حققت هذا الهدف المادي . ولو كان الهدف الدار الآخرة ورضوان الله والجنة فالطريق الذي يرسمه الله طريق مختلف كلية ، نهجان مختلفان ودربان مختلفان وهدفان مختلفان .

نهجان قد ميّز الرحمـن بينهمـا        نهجُ الضلال ونهج الحق والرشـد

لا يجمع الله نهـج المؤمنين على        نهج الفساد ولا صدقـاً على فنـدِ

 

الواقع الذي تمّر فيه تركيا تمّر به بلدان إسلامية أُخرى ، حيث يُخْنق كل صوت إسلامي . وفي هذه البلدان التجأ بعض المسلمين إلى ادعاء العلمانية والديمقراطية وكثيرٍ من فكر الغرب . السؤال هنا : هل يترك الله عباده المؤمنين الصادقين الذين يعيشون هذه الأجواء دون أن يُبَيَّنَ لهم ما يجب أن يعملوه ؟! كلا ! إن الله سبحانه وتعالى بيّن الدرب والنهج في كل واقع ، ولكن على المؤمنين أن يعوا هذا الدرب ويؤمنوا به ويمضوا فيه .

إن أول واجب في مثل هذا الواقع هو مضيّ الدعوة والبلاغ والبيان لرسالة الله كما أُنزِلتْ على محمد r وتعهُّدُ الناس عليها بالأسلوب الممكن في كلّ واقع . وكلّ واقع فيه معاداة للإسلام لن يكون أشدّ من واقع قريش ومعاداتهم لرسول الله r وتعذبيهم الوحشيّ لأصحابه . ولكنهم أُمروا بالصبر والمضي بالدعوة والبلاغ والبناء ، والله هو وليّ المؤمنين ، وهو الذي ينصر دينه والمؤمنين ، وليس فلسفات بشرية منحرفة عن الإسلام . إن هذا الخلل أو الخطأ هو الذي وقع فيه معظم العمل الإسلامي في العصر الحديث . لا بّد أن يُبْنى الجيل المؤمن الصادق الصافي الصابر الذي يستحق بميزان الله أن يُنزِل الله نصره عليه . إن كثرة الحشود والجماهير ، ودوي الهتافات ، ومعارك الانتخابات والعلمانية والديمقراطية لا تقرّب من الله شيئاً .

أعود إلى الحجاب وقصته ! الحجاب الذي تحوّل بأيدي بعض المسلمين إلى قطعة من القماش تغطي الشعر أو بعضـه ، وتبقى سائر مظاهر الزينة مكشوفة . وكذلك السلوك فهو من معاني الحجاب . فالاختلاط في أجواء العلمانيين هو تنازل آخر عن الإسلام وضوابطه . زوجة مسؤول أوصت محلاً في أوروباً ليصممّ لها غطاء الرأس الذي يليق بزوجة مسؤول ليزيدها جمالاً لا يُخِفيَ زينتها . لم يعد الحجاب اليوم يعني الحجاب الشرعيّ الذي ورد في الكتاب والسنة ولا الذي مارسته المؤمنات قروناً عديدة في تاريخ الإسلام ، ولا الذي يخفي الزينة كلها .

 واضح أن الميزان بأيدي الناس مضطرب ، وان التصوّرات البشرية المعزولة عن منهاج الله أصبح لها الأثر الكبير . ولذلك فإني أعجب من أن جميع من بحثوا هذا الموضوع ، موضوع نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات ، لم يردوا هذا الأمر إلى منهاج الله ولم يحكِّموه فيه ، ولم يستجيبوا لقوله سبحانه وتعالي :

( فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء : 59]

العجب كذلك أن حزب العدالة والتنمية نفسه لم يدَّع أن موقفه هذا موقف إسلامي أو نابع من الإسلام ، وإنما أعلن انه موقف علماني بريء من الإسلام . إلا أن بعض الدعاة والصحف أصرّوا على أنّه موقف إسلامي عظيم يدعون له بالبركة والتهنئة .

إننا نمر بمرحلة عجيبة خطيرة : إصدار أحكام تُنسب إلى الإسلام والى الله ورسوله ، بتحريف واضح للأحاديث مما يجعل في التحريف كذباً على الله ورسوله ، وبتأويل فاسد لبعض الآيات ، وبادعاء أن الأفكار والمبادئ الغربية المخالفة كل المخالفة للإسلام هي من الإسلام ، وبتشويه الحقائق واتباع الهوى ، وتنتشر هذه الفتنة بين المسلمين وهي تجد من يُشعِلها ويُغذّيها ، وقليلاً ما تجد من يعترض ويجهر بحق الإسلام والردّ علي هذه الافتراءات !

والأمر الآخر الذي يثير الدهشة هو هذه الجماهير الحاشدة التي حملت الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية وهو يطلق الشعارات الواضحة بتبرُّئه من الإسلام وتبنّيه العلمانية ، في صورة متكررة ، هذه الجماهير والحشود هل رضوا كلهم بهذه الشعارات ؟! وأنهم كلهم أعلنوا أنهم ليسوا إسلاميين بل علمانيّون ؟! وهل فيهم علماء وفقهاء يردّون الكلمة والموقف إلى منهاج الله ؟! أين الموقف الإيماني الربانّي في هذه الحشود الكبيرة ؟!

باستعراض الساحة الإسلامية اليوم نجد العدد الكبير من الدعاة والمسؤولين في الدعوات يتساقطون تحت ضربات الديمقراطية والعلمانيّة والعولمة ! تحت ضربات الغزو الفكري الغربي ، وقلّما نجد الوقفة الصامدة أمام هذا الغزو ! وأَول ضعْف في واقع المسلمين أنهم ممزَّقون شيعاً وأحزاباً وأهواءً ومصالح ، وكأنهم لا يشعرون بالخطر الحقيقي الزاحف على العالم الإسلامي ، والذي بلغ قلب العالم الإسلامي ، وأخذت الأقطار تتساقط كما تساقَطَ الدعاة.

لقد أصبح المنحرفون عن الكتاب السنة أعداداً تتزايد . ولقد وضح من حوارات كثيرة أن من أهم أسباب هذا الانحراف إلى الفكر الغربي المادي طلب الدنيا ونسيان الآخرة ، حتى تكوّنت لديهم جرأة علي تحريف الآيات والأحاديث.

باستعراض حياة المسلمين في أقطار عديدة ، نجد أن مظاهر الحياة وأساليبها هي مظاهر علمانية وأساليب علمانية : في الحقل السياسي التوجه كله علماني ابتداءً من الانتخابات والمجالس النيابية إلى سائر التصورات السياسية ، وفي الحقل الاجتماعي سادت مظاهر في اللباس وفي العلاقات الاجتماعية مظاهر علمانية ، تحملها الديمقراطية الغربية أو تفرضها الفضائيات والشبكات الإلكترونية وتقتل أوقات أعدادٍ كبيرة من الناس عامة ومن الشباب خاصة من خلال برامج غربيّة علمانية ينساق إليها الكثيرون ، في عتمات الليل أو وضح النهار .

والشركات تنظم أوقات موظفيها بطريقة لا تترك لهم مجالاً للتفكير أو الدراسة ، أو العناية بالبيت والأولاد ، إِنها تنظم ذلك بطريقة التفكير الديمقراطي العلماني ، حيـث يُستَهلَكُ الموظّف لديها ، وتأخذ الشركات كل طاقته و وقته وجهده ، فلا يعود إلى بيته إلاّ منهك القوى مستهلك الطاقة ، لتؤمّن الشركات أعلى ربح على حساب مصالح أخرى رئيسة ..

لم يعد ينتظم المجتمع في كثير من أقطار العالم الإسلامي على أسس إيمانية إسلامية ، تعطي المجال للمسلم ليوفي بكامل مسؤولياته وواجباته . فالإسلام حين ينظم المجتمع فإنه يوفِّر الوقت ليوفي المسلم بحـقّ بدنه ، وزوجه ، وأولاده ، ودينه ، وأمته ، وليعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه .

ولو حاولنا أن نعدّد ما قدّمت الرأسمالية والديمقراطية والعلمانية للعالم من شرور لهالنا الأمر جداً .

لقد أشعلت كلّ الحروب في الأرض ، في أمريكا الجنوبية ، في أفريقيا ، وفي آسيا ، وفي العالم الإسلامي ، حروباً ظالمة مجرمة تجاوز عدد الضحايا مئات الملايين .

لقد استغّلوا الطفولة أسوأ استغلال . فرمَوْها في عمل مرهق وفي أجواء الجرائم والجنس . أو رموهم في الشوارع وقارعة الطريق يمارسون كل أنواع الفساد والهلاك .

لقد نشروا الخمور والمخدرات والزنا واللواط وأباحوا ذلك بالقانون ، وما يبيحه القانون يمارسونه بالسلطة والقوة والقهر .

لقد غذّوا الجريمة في الأرض حتى صار للجريمة فنون وأساليب يرعونها ويغذونها ويحمون رجالها ماداموا في طاعة عصابات الديمقراطية والعلمانية المتحكمة بسلطانها .

لقد جعلوا من " الديمقراطية " ذات الأصول العلمانية والجذور الوثنية اليونانيّة وسيلة تخدير للشعوب بواسطة الشعارات التي يطلقونها ولا تجد لها في الواقع إلا رصيداً قليلاً . خدّروا شعوبهم بكل وسائل التخدير ، فألهبوا الجنس وأطلقوه في رعاية القانون وحمايته ، فاستجابت النفوس له بما رُكب فيها من غرائز وميول .

لقد أفسدوا مناهج التربية كما يقول نيكسون عن مناهج التعليم في أمريكا ، والنماذج السيّئة التي يخرّجونها . وحسبك أن ترى أن أكبر مجرمي الأرض في عصابات الديمقراطيات والعلمانية هم عصارة تلك المناهج التربوية ..

إن في الناس شهوات وغرائز وأهواء . ولا يوجد ما يكبح هذه القوى ويدفعها على دروب الخير للبشرية كلها إلا الدين الحق ، دين الله ، ودين جميع الرسل والأنبياء ، دين الإسـلام ، فهو الذي يكبح نوازع الشر وينمي نوازع الخير .

فإذا مُنع الدين الحق من أداء رسالته ، فستتحول المجتمعات البشرية ، كما نرى معظمها الآن ، إلى وحوش مفترسة كشّرت عن أنيابها وأطلقت أظافرها !

لا غناء عن الإسلام أبداً ، لا في حياة الفرد ، ولا في حياة الجماعة والأمة والبشرية .

إن البشرية اليوم بحاجة إلى الدعوة الإسلامية النقيّة الواعية الصادقة الواضحة الجريئة ، لتبلّغ رسالة الله إلى الناس كافّة كما أنُزِلت على محمد r

إن جميع العلوم في الأرض والصناعة والأسلحة ، حين تعزل عن الدين ، لا نستطيع أن نقدّم السعادة للإنسان .إن المجرمين الوحوش في الأرض سيحوّلون العلوم والآداب أدوات إجرام وحروب وفتك أو أدوات تخدير ..

إن الإسلام وحده هو الذي يجعل من العلوم ومن الصناعة ومن السلاح قوى خير وصلاح ، وأمن وسلام ، وعدالة وحرّية ، وبغير الإسلام تتحول الحياة إلى وحوش ومجازر وفتنٍ لا تنتهي !

    إننا لا نشعر في المواقف التي يتخذها بعض المسلمين بروح الإيمان وصفاء شريعة الإسلام ، وقوة تبليغ رسالة الله كما أنزلت على محمد r إلى الناس كافة وتعهدهم عليها ، ودقة الالتزام وأمانته .

    وإذا نظرنا إلى قضية الأكراد وحزب العمال الكردستاني وصدامه مع تركيا لا تجد أي أثر لروح الإسلام وخشية الله ، وإنما نجد العصبية الجاهلية ، وغضبة كل قوم لجنسه ، حتى قال الرئيس العراقي جلال طالباني : لن نسلّم للأتراك حتى ولو قطة كرديّة !

    وعند الحاجـة كلهم يقولون عن أنفسهم إِنَّهم مسلمون ، ولكن مع وقف التنفيذ . الإسلام كشعار يظهر كثيراً ما دام هنالك حاجة له ، أما إسلام المواقف والرأي الملتزم ، والإيمان الصافي والعلم الجليّ الواضح ، يحتاج إلى جهد للبحث عنه.