قليلاً من التفكير من فضلك
حارثة مجاهد ديرانية
قصدنا أنا وبعض أقاربي أمس مسجداً كبيراً لكي نصلي فيه العشاء والتراويح، فلما فرغ الإمام من العشاء التفت إلينا وحدثنا بموعظة أراد بها تليين القلوب بمناسبة قدوم رمضان، وروى لنا أثناء ذلك قصصاً من أجل حفز الهمم على الطاعة، فكان مما قال: إن الإمام البخاري كان يقرأ القرآن في شهر رمضان ستين مرة، وكذلك كان يفعل الإمام الشافعي!
وأخذت حينها أفكر: إذا كان كل من الإمامين يقرأ القرآن ستين مرة في الشهر، فذلك مرتان في اليوم الواحد، أي ستون جزءاً كل يوم! وإذا كان جزء القرآن الواحد يحتاج عشرين دقيقة لكي يتلوه قارئ سريع، أدركنا بحسبة بسيطة أن كلاً منهما كان يقرأ القرآن عشرين ساعة كل يوم![1] يبقى لكل منهما إذن أربع ساعات في يومه، وعليه أن يجد، في تلك الساعات الأربع، متسعاً ليأكل ويشرب وينام ويقضي حاجته ويصلي الصلوات الخمس!
لقد كان معي في المسجد عشرات من المصلين، ولعل أحداً منهم لم يفكر تفكيراً كافياً حتى يكتشف أن ما قد قيل أمر غير ممكن، فيرد مثل هذا الخبر المكذوب ولا يصدق ما لا يصدق، فهل شق عليهم أن يعملوا عقولهم قليلاً بنقد لا تعجز دونه حتى عقول البسطاء من الناس؟
إن عقول المسلمين[2] تتعطل في مواضع ليست من مواضع تعطيل العقول، ولا ينبغي للمسلم أن يعطل عقله والإسلام جاء يقرع معطلي عقولهم، الذين قالوا نفعل ما ألفينا عليه آباءنا. ومن العجيب أن قليلاً من التفكير يعطي كثيراً من الخير، ثم لا ترى إلا قليلاً من الناس يتعبون أنفسهم في هذا القليل السهل البسيط، وهو أن يشغلوا أدمغتهم قليلاً، تشغيلاً لا يشق حتى على الذين لم ينالوا من العليم سوى حظ قليل.
فهل تحب أن تقدم خدمة لمجتمعك الذي تعيش فيه؟ إذن لتكن أنت نفسك بذرة صالحة، وابدأ بنفسك، فلا تتلق كل ما يلقى عليك مما أسبغت عليه هالة تتلاعب بالعواطف وتعمي العقل، كهالة "القديم المقدس"[3] التي شعرنا بها في رواية إمام المسجد، لا تتلق كل ذلك بالقبول والتسليم الكامل وكأنه قرآن منزل، بل عليك بنقده نقداً متجرداً لا تحيز فيه ولا رحمة! وحاول أن تحمل غيرك على أن يصنع مثل ذلك، وانو به أن تفيد الإسلام والمسلمين، فتعطل الفكر وضعف الحاسة النقدية لا يليق إلا بالأمم المتخلفة الضعيفة، وهو شيء لا يرضاه واحد منا لأمته الذي هو فرد منها. وهل يسرُّ أحدً في الدنيا أن يكون هذا شأن قومه الذين ينتمي إليهم؟
[1] وهذه حال السريع، فما بالك بمن يقرأ في خشوع وأناة؟
[2] أي كثير منهم.
[3] وأنا ممن يبغضون هذه الهالات أشد البغض! وألقي باللوم عليها حين تشل عقول المسلمين وتكبلها -كما تكبل عقول غيرهم- فلا تنطلق حرة من صندوقها في نقد ما ينبغي نقده، والتساؤل عما ينبغي أن يتساءل عنه.