الحوار مع الآخر

م. محمد حسن فقيه

منطلقات.... وآداب

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

مع نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الجديد الحادي والعشرين ، تطور الإعلام تطورا هائلا ، وانتشرت الفضائيات الإخبارية لتغطي جميع أنحاء المعمورة ، من جهات متعددة ، ومناظير متنوعة ، ورؤى متباينة ،  واستطاعت بعض هذه الفضائيات تغطية الخبر بشكل مباشر لحظة بلحظة  وتقديمه للمشاهد والمستمع من أدنى الكرة الأرضية إلى أقصاها .

 وقد تزامن هذا التطور والنقلة الإعلامية مع انتشار منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع الدولي والمدني ، و قد أثبت البعض منها جدارتها ، وظهرت أنشطتها للعيان مطالبة بحقوق   المظلومين ، مشيرة إلى الإنتهاكات بحقوق الإنسان  أينما كان ذاك الإنسان ، وحيثما كانت الجهة التي تقف وراء هذه الإنتهاكات ، وإن كان سلاحها في الوقت الحاضر لا يتجاوز الحرب الإعلامية ، والشجب والتنديد والإستنكار، ومطالبة تلك الجهات التي تقبع وراء تلك الإنتهاكات بتصحيح نهجها وتجاوز أخطائها .

إلا أن بعض الجهات أو الأنظمة ما زالت متجاهلة لهذه المطالب ومتنكرة لها ، ومصرة على استمرارها في انتهاكاتها ، مستهترة بالمجتمع الدولي والرأي العام ، غير عابئة بكل هذه الأمور والقرارات ومن يقف خلفها كائنا ما يكون ، والسبب في ذلك :

الأول : عدم وجود قوى حقيقية فاعلة ومحايدة ، تقف وراء هذه المنظمات تدعمها لتنفيذ مطالبها بالضغط على الجهات المعتدية والمنتهكة لحقوق الإنسان ، لإجبارها على تصويب الخطأ وتصحيح النهج ، وإنصاف المظلوم وتحقيق العدل .

ثانيا : لم تستطع بعد كثير من الأنظمة المستبدة التحرر من آثار الماضي المتخلف ، وأن تستوعب النقلة الجديدة في الإصلاح والحرية وحقوق الإنسان ، وتبني نظام شوروي أو ديموقراطي ، أو مشجعة على التعددية وسياسة الحوارمع أطراف المعارضة والخصوم ، فما زالت لا تسمح لأحد أن يطالبها بأمر معين ، أويندد بممارساتها ويتدخل في شؤونها ، مما تعتبره خصوصيات أحيانا ، وتلبسه معان كبيرة وتضفي عليه هالات من القدسية ، بهدف الحفاظ على السيادة وهيبة الدولة أحيانا أخرى ، كأن المواطنين لديها هم ملكية خاصة للدولة ، بل إن الدولة بما فيها وما عليها  هي مجرد مزرعة دواجن من طيور وحيوانات أليفة ، خاصة بالحاكم المطلق ، ولا يجوز لأحد التدخل في  خصوصياته والإعتداء على  أشيائه وأملاكه من رعية  وأطيان  .

ثالثا : تسييس بعض هذه القرارات التي تصدر أحيانا من بعض منظمات المجتمع الدولي  موجهة إلى  جهة أو دولة أو شخص ، فإن كثيرا من هذه المنظمات ليست بمنأى عن التسييس والتدخلات الإقليمية  والدولية من مراكز القوى والنفوذ ، ولم ترق أغلبها إلى مستوى الإستقلالية والحياد ، أو تتحلى بالشفافية والنزاهة .

ومع تزايد مطالبة المجتمع الدولي بشكل عام  بالإصلاح وإطلاق الحريات  وإرساء أسس النظام الشوروي أو الديموقراطي ، والمناداة بالتعددية وتشجيع الحوار ، فإن بعض الجهات أو الأنظمة بدأت تتجه إلى هذا الأمر وفق رؤيتها ومنظارها ، منطلقة من مصالحها بالدرجة الأولى ، وهي تطنطن بالإصلاح والديموقراطية ، وتتغنى بالحرية وحقوق المواطن ، والحوار مع المعارضة والإستماع لها إن لم يكن مشاركتها في الحكومة وصنع القرار ، وإن كان الأمر مازال يسير بخطى بطيئة ، بل أكثر من متمهلة .

وهذه المفاهيم جميعها من الحرية والشورى والديموقراطية والإصلاح والحوار والإستماع إلى الرأي الآخر، كلها إيجابية بشكل عام وفيها الخير والمصلحة للمواطن ، وفي النهاية هي مصلحة حقيقية  للجميع ، لأن مصلحة الوطن الحقيقية هي مجمل مصلحة المواطنين .

إن كلمة الحوار بحد ذاتها ظاهرة صحية وإيجابية ، لأنها تذيب الجليد وتبدد المخاوف الوهمية بين الطرفين المختلفين ، وتقرب وجهات النظربين المتحاورين ، وتغير قناعات الجهتين شدا وجذبا بعد سماع الأخر والإنصات له بروح المسؤولية ، والنية الصادقة لحل نقاط الخلاف العالقة وتجاوز الإشكالات ، بهدف الوصول إلى حل وسط يلتقيان عنده ، يحقق بعض المصالح لكل من طرفي الحوار يكون أفضل  من الوضع الراهن ومخرجا مقبولا لتجاوز الأزمة وتداعياتها ، ويكون بالمجمل العام من الناحية السياسية والإجتماعية والأمنية والإقتصادية ... وغيرها يحقق  المصلحة العامة وينال الرضا النسبي من جميع الأطراف .

إن ديننا الإسلامي العظيم يؤمن بمبدأ الحوار مع الخصماء والمخالفين ، وأن يكون هذا الحوار بأدب وتهذيب مع احترام الأخر، بعيدا عن الصخب والضجة ، أو الإستهجان والإستهزاء ، أو الاستبعاد والإقصاء للطرف الآخر وآرائه ، بل بالأدب والإحترام المتبادل والأسلوب الحسن ، ويأمرالله عز وجل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يحاورخصومه من كفارقريش بالحسنى  قائلا له :

( وجادلهم بالتي هي أحسن ) -  (  النحل -  125  )  .

بل إن أدب الحوار في الإسلام قد ذهب أبعد من ذلك حين قال الله تعالى في كتابه العزيز على لسان نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب المشركين  من كفار قريش قائلا :

( وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )  (سبأ   - 24  )  .

فهذا النبي المرسل والذي يتكلم بوحي الله يقول لمشركي قريش إن ما أدعوكم إليه من الإيمان بالله واتباعه ، وما أنتم عليه من عبادة الأصنام وغيرها ، إن هذين الرأيين المختلفين والمتباينين تباينا شاسعا ، فلا بد أن أحدهما يمثل الهدى ، والآخر يمثل الضلال ، نحن أو أنتم ، ولم يقل لهم بأن دعوته هي الهدى وأن عبادتهم للأصنام ضلال ، ليفسر خصومه الكلام بما يشاؤون ، حتي يكتشفوا الحقيقة بأنفسهم وتدمغهم الحجة وتقودهم عقولهم إلى الحقيقة .  

ويقول رسولنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام :

 " الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها "  رواه الترمذي وابن ماجة

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يضع لنا بإيجاز وإعجاز، كلمات من نور تكتب بماء الذهب ، تصلح لتكون قواعد ومنطلقات أساسية عن آداب الحوار مع الرأي الآخر والطرف المخالف :

القاعدة الأولى : قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب .

القاعدة الثانية : ما ناظرت أحدا إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه .

القاعدة الثالثة : إذا صح الحديث فهو مذهبي .

وحتى يثمر الحوار ويبلغ هدفه المرجو، ويحقق المصلحة المشتركة بين الأطراف المتحاورة ، لا بد أن يتحلى ببعض الأمور والآداب ، وإلا فإن مصيره الفشل .

ويمكن استعراض بعض هذه النقاط  من آداب وشروط للحوار فيما يلي :

1- الجدية في دخول الحوار والإستعداد النفسي مسبقا للجلوس على طاولة الحوار مع الخصم ، والإنصات له والإستماع إليه بآذان صاغية وقلب مفتوح .

2- حسن الظن وصدق النية من الطرفين بأهمية الحوار لحل الخلافات وإزالة الإشكالات ، بهدف الوصول إلى حل مشترك لمصلحة المجموع بالمجمل العام ، وبما يحقق المصلحة النسبية للطرفين .

3- تحديد موضوع الحوار وخطوطه العريضة ومحاوره ومساراته الرئيسية ، والتقيد بالمحاور والمسارات المتفق عليها من كلا الطرفين وعدم الخروج عليها .

4- التحلي بروح الإنفتاح والشفافية ، ومناقشة أفكار ومطالب الآخر بموضوعية ومنطقية ، وعدم تعصب كل فريق لآرائه وأفكاره ، فإن تقليب وجهات النظر بالمناقشة والحوارالمنطقي الهادئ ، يؤدئ إلى  تلاقح الأفكار ونضوجها ، وتقريب المسافات بين الطرفين  .

5- احترام الرأي الآخر وعدم استهجانه والتقليل من شأنه ، أو السخرية منه  والإستهزاء به وبمن يتبناه من الطرف الآخر ، ومناقشته بتجرد وحيادية فلعله يسلط الضوء على نقاط  غامضة ، أو يكشف عن زوايا بعيدة عن مستوى رؤى الطرف الآخر .

6- أن لا يسود الحوار والمناقشات أسلوب الهيمنة والإستيعاب ، أو بالأحرى صهر الطرف الآخر وتذويبه  ، أو احتواؤه وضمه تحت جناح الطرف المهيمن .

7 – عدم استخدام وسائل الإبتزاز الأمني ، والضغط اللامشروع ، والتلويح باستخدام القوة ، أو شراء ذمم بعض زعماء أطراف الحوار بحسابات مادية أو وعدهم بمناصب ومراكز قيادية على حساب التنازل عن بعض مطالب طرفهم ، أو الترغيب والترهيب من الطرف المسؤول والمهيمن الذي يحوز القوة والتمكين في الوقت الحاضر، لإكراه الطرف الأضعف للموافقة على شروط الطرف الأول المفروضة بالقوة .

 وليعلم الطرف المهيمن على زمام الأمور في الوقت الحاضر أن الأمور دول ، واستمرار الحال من المحال ، وإن موازين القوى تتغير وتتبدل وتنعكس الأدوار ، بل ربما تنقلب هذه الموازين رأسا على عقب بين عشية وضحاها ، فيسقط القوي ويتحول إلى محكوم ضعيف بعد أن كان حاكما متسلطا ، ويرتفع من كان بالأمس ضعيفا ومحكوما ليصبح حاكما ومهيمنا على مقاليد الأمور ويمسك بزمامها .

 8-  التحلي بروح المرونة والبحث بجدية وتجرد ، عن الأهداف المشتركة ونقاط الإلتقاء  والحلول الوسطية ، وعدم تشبث أي طرف بمواقفه ، والجمود عند نقطة معينة .

  9-  توضيح نقاط الإتفاق بدقة مع ذكرتفاصيلها وتثبيتها ، لتكون بدايات إيجابية ونقاط انطلاق حقيقية إلى ما بعدها ، بهدف الوصول إلى حلحلة النقاط العالقة الأخرى .

10- اعتبار المصلحة العامة فوق مصلحة الطرف أو الحزب ، وتجاوز الأهواء والمصالح الشخصية ، والتحرر من حب الذات والمكاسب الفردية .

11- شيوع روح التفاؤل وعدم اليأس ، ومتابعة الحوار مرة بعد أخرى مهما وصل في بعض مراحله إلى عقبات كبيرة أو طرق مسدودة ، فالعزم والتصميم والنية الحقيقية الجادة كفيلة بتحطيم العقبات ، وتسليك الطرق المغلقة .

 12- الإستعانة بأطراف وجهات أخرى مقبولة من كلا الطرفين  تقوم كوسيط ، وإشراكها في الحوار كجهات مراقبة ، لتقريب وجهات النظر وإذابة الجليد عن النقاط العالقة .

13-  حضوروإشراف جهات حيادية فاعلة من منظمات دولية  أو حكومات صديقة ، أو قوى شعبية  و شخصيات اعتبارية ، تكون شاهدة على توقيع الإتفاقية ، وضامنة لتنفيذ بنود ونقاط الإتفاق .