فصام في السياسات

فصاما في المشاعر

وماعز الأسلمي إذ يستبد به الإثم

عمر عثمان

كثيرون مازالوا يتساءلون: ما الذي دفع ماعزاً رضي الله عنه، وقد أصاب من الخطيئة ما أصاب، وستره الله، أن يغدو على رسول الله ويروح، يقول له: يا رسول الله طهّرني. ثم يتساءلون مرة أخرى ما منعه، والرسول صلى الله عليه وسلم يفتح له سبل العودة، ولكنه يأبى إلا أن يمضي في طريق الاعتراف إلى آخره، ومقتضياته المؤلمة.

منذ عهد الصحابة والسؤال عن سر (ماعز) و(الغامدية) مطروح..

والشعور بالإثم حمل يثقل الروح، ويشتت التفكير، يشعر الإنسان كيفما تقلب في الحياة كأنه متلطخ بما له لون وريح،  وأنه لا بد له من ماء للتوبة طهور.أنت لا تشم رائحته أقصد رائحة إثمه، ولكن هذه الرائحة تزكم أنف صاحبها، ولونها يصيبه بعمى الألوان و..

قد أحسن الله بنا               أن الخطايا لا تفوح

أنت لا تعرف سرَّ البهر، سرَّ الأنفاس المتقطعة، والصوت المتهدج، والقلق والاضطراب:

ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت         فإنما هي إقبال وإدبار

 ولأننا لا نرى هذا الحمل الثقيل من الخطيئة الذي يثقل عاتق صاحبه، ولا نسمع هذه الأصوات التي تصم أذنيه، ولا نرى هذه الصور التي تحجب الرؤية عن عينيه فنحن لا نستطيع أن ندرك سر ماعز الخطير. علينا أن نرى ونسمع ونشم حتى ندرك معا حقيقة قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته..)

كذلك أحاطت الخطيئة بماعز رضي الله عنه، يوم أقدم على الاعتراف، الذي سجل سابقة عملية في التاريخ. ضعف الإنسان وقوته، ضعفه حين يسقط وقدرته حين يرغب في التسامي.

ما أحاط بماعز رضي الله عنه يوم ذاك يحيط بي مثله منذ أكثر من أسبوعين، وأجدني مضطرا للتطهر بهذا الاعتراف. وإثمي أنني لم أستطع حتى اللحظة أن أقلع عن الذنب قبل أن أعلن الندم والأسف. منذ قليل جاء على قناة الجزيرة خبر عاجل: اعتقال عشرين داعية في مدينة البحيرة في مصر. يقول لي السمع والبصر والفؤاد: لماذا تبالي؟! واللامبالاة هذه غير المفهومة تماما في نفسي تحيطني بمثل ما أحاط بماعز يوم جلس بين يدي رسول الله يقول طهرني.

سمعت الخبر المنكر على قنوات الأخبار فكان بالنسبة لي كأنه ذباب مرّ أمام عيني فقلت له بيدي هكذا، ثم استمررت ما اهتز لي شعور، فلم أستشعر عطفاً على الضحايا ولا تحرك في قلبي على الظالم نكير. وعهدي بنفسي: روح وقلب وشعور يعكرها أن يقال أن شاة قد عثرت على شاطئ الدانوب، وأنا لا أعرف بالضبط أين يقع الدانوب هذا.

سمعت الخبر، الذي يدخل في تصنيفه الشرعي في إطار المنكر العام، وأنا غير قادر بالطبع على تغييره بيد ولا بلسان ولكني افتقدت في نفسي أو في قلبي أضعف الإيمان. بسهولة وبيسر انضممت إلى الكثيرين من الصامتين اللامبالين في عالم بني الإنسان..

تلاحظ معي أيها القارئ الذي أتطفل أنا على أجندته ربما بأحاديث لا تعنيه عن ماعز الأسلمي وعني وعن تلك الكوكبة من الناس التي كانت في الإعلام العام أيضاً أشبه بنقطة ضوئية عبرت على شاشة رادار الأخبار، ثم غابت في غيابة الجب، كما غاب سيدنا يوسف من قبل. كان الخبر فقاعة صابون انفجرت في الهواء. وبقي حصاد الآلام لأسر كتب عليها أن تغلق على الألم والخوف والترويع. وبقيت الثغرة في بنيان الحياة العامة في مصر وفي كل دنيا الإسلام: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. فالذين يحملون إلينا مشروع الديمقراطية والحكم الرشيد لا يقبلون أن يقارب ساحتنا إلا مَن كان متلطخاً على الطريقة التي تحدث عنها السيد شبانة منذ أسبوع. رسالة مصر تقول لكل أبناء الإسلام في كل مكان: الوضوء ممنوع. وإن تتوضأ فهذا هو المصير..

قلت إنني بسهولة ويسر انضممت إلى صفوف الصامتين. بل إلى صفوف اللامبالين. لم يتحرك في قلبي للنكير شعور.. واللامبالاة هذه أربكتني، أوقعتني فيما أتحدث عنه من شعور غامر بالإثم. بدأت بتحسس رأسي وصدري ثم أطرافي هل أنا بخير؟ هل مات فيّ شيء؟ وخزت أحد أطرافي بدبوس فسحبته بسرعة، تأكدت أن جهازي العصبي مازال، والحمد لله، سليماً معافى، حاولت أن أقرأ، أن أسمع، سمعت صوت المؤذن القادم من مسجد سيدي خالد البعيد البعيد، بل ربما لو أصغيت لسمعت صوت هذا الآذان من مسجد عمرو بالفسطاط، نظرت من النافذة ورأيت السماء البعيدة كانت الزرقة محجوبة بركام كثيف من الغيوم الداكنة ولكنني تأكدت أني سليم: أسمع وأرى وأحس بكل شيء حولي إلا هذا الذي أحدثكم عنه..

عدت إلى الخبر، وإلى صور بعض المعتقلين، تذكرت تاريخ حياتهم. استحضرت صوت بعضهم وهو يدعو إلى كلمة الحق، واستحضرت صور الأطفال الذي ينتظرون عند الغروب، تذكرت البيوت التي ستظل موحشة بغياب أربابها، تساءلت عن المهام الجسام التي تناط بالراحلة في زمان أصبحت فيه الرواحل كإبل ألف أو ألف ألف. فحوصرت بجبل من جليد جاثم فوق صدري. مضى على الأمر أكثر من أسبوعين، وأنا الآن أتلوم على نفسي متلطخاً بإثمي لا أجد منه فكاكاً، وتأبى عليّ نفسي أن تنحاز لأولئك الذين سقوني صمتاً وتجاهلا وأأثرة وخذلاناً على مدار أعوام وأعوام...

 أولئك الذين هان عليهم عالمي بكل ما فيه، هان عليهم ضريح سيدي خالد، وهانت عليهم في عالمي كلمة الله أكبر، وهان عليهم دمي وعرضي، وهان عليهم في بلدي الرجال والنساء والشيوخ يساقون إلى نفس المصير. هان عليهم الشيخ هيثم المالح ابن الثمانين ، هل أحسستم منهم في نصرته من أحد أو سمعتم منهم ركزا؟  . هل سمعتم منهم كلمة في نصرة الأرواح العائمة أو الهائمة في سماء الشام تبحث منذ ثلاثين عاما عن الحق في قبر، هان عليهم يا سيدي القائم  في عهد سلفك العاكف حتى مصحف أهل الشام زعموا أن أهل الشام بأكل البطيخ أبصر منهم بحفظ القرآن..

سياسات الفصام تلك التي عكف عليها بعض القوم هناك تثمر اليوم سايكس بيكو جديد على خرائط القلوب والنفوس، آه لقد قلت الكلمة الإد.. أرجوكم، أنا ماعز الأسلمي فمن يطهرني من كل هذا؟!

سقوني وقالوا لا تغنِ ولو سقوا             جبال سليمى ما سقيت لغنت