فقه الحكومة .. وصلاة الجمعة
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
البيت بيتهم والدار دارهم والدستور دستورهم والقانون قانونهم ، والفقه فقههم
أيضاً .. كان المذيع اللزج يجلس فى برنامجه مع كاتب من كتاب البلاط ، واستعرضا
أموراً عديدة ، أبدى فيها كاتب البلاط تأففه وتضجره واشمئزازه من صورة
كاريكاتير مرسومة على حائط ، وتُبين أن الشياطين فى شهر رمضان المعظم أو المبجل
على رأى صديقى الأديب الكبير " وديع فلسطين " ، يتم تصفيدها وتقييدها فلا تؤذى
أحداً ، ولكن رسام الكاريكاتير ، رأى من وجهة نظره أن الشياطين الجنية المقيدة
، يقابلها شياطين إنسية مطلقة السراح فى التلفزيون ! وهى وجهة نظر معقولة
للغاية ، حين يتبنى التلفزيون تصريحات الكذب والضحك على المواطنين ، وحين يقدم
وجهة نظر شيطانية لا تعبّر إلا عن المستبدين والمستفيدين ، وحين يقصر نجومه على
من يسمونهم أهل الفن والكرة ،لدرجة أن أناشيد الأطفال تتغني بأحمد رمزي ورشدي
أباظة ، وكأن مصر خلت من العلماء والمجاهدين والأبطال الذين لا يعلنون عن
أنفسهم خارج الحقول والمصانع والمدارس والجامعات والمعمار ومصارعة الغلاء
الفاحش والأيام البيضاء (..) والتمييز العنصرى ، طبقيا وفتويا ومهنيا ....
كاتب البلاط ، لم يدرس الظاهرة ، ولم يفسرها تفسيرا علميا ، ولكن اكتفى بوصمها
بأبشع ما فى القاموس ، ودخل مع المذيع اللزج فى وصلة من الهجاء لأمثال هؤلاء
الذين لا يرقبون فى مشاعرهما الحساسة ذوقاً ولا رقة ! ثم أراد المذيع أن يتوج
غضبته المضرية على الرسم الساخر والتغطية عليه ، بالتنويه عن أمر يرفضه الناس
جميعا قال إنه سيتناوله فى الحلقة القادمة ، وهو قيام فتاة بأداء أغنية اسمها "
أحمد يا عمر " بذيئة الكلمات هابطة المضمون !
تذكرت مصطلحاً ورد على لسان ولد ضال فى أحد المسلسلات وهو يرد على أبيه أو
يجيبه على سؤال يتعلق بقضية فقهية فقال : إنه فقه الحكومة ! أى إن هناك فقها
وضعه أو استنبطه علماء الشريعة الحقيقيون ، وفقها آخر وضعه علماء السلطة وفقهاء
الشرطة ، كما يسميهم الشيخ محمد الغزالى رحمه الله .
فقه الحكومة يتوقف عند الهامشيات ، وبحلل جرائم بعض المستبدين ضد شعوبهم ،
وليته يقدم تفسيراً حقيقياً أو منطقياً ، ولكنه يتبنى على طول الخط رأى السلطة
البوليسية الفاشية ، ووجهة نظرها حتى ولو لم تطلب هذه السلطة من أهل الفقه رأيا
ولا فتوى .
وقد رأينا من يتطوع مؤخراً ويذكر أن شهر رمضان هو شهر مقاومة الشائعات ، ويكتب
فى ذلك مقالات مطولة فى كبريات الصحف يتقاضى عنها الشىء الكثير ، ثم يعيد
نشرها فى أماكن أخرى تخضع لهيمنته تحت هيمنته ليزداد العائد وتتضخم الأرصدة ،
وتكثر القصور والفيلات ، والشقق التمليك .. مع أن مقاومة الكذب – وخاصة كذب
السلطات الفاشية – مطلوب فى رمضان وغير رمضان وعلى امتداد العمر والزمان ، ولكن
فقه الحكومة له تجليات عجيبة تثير الضحك والابتسام مع أنها تجلب فى النهاية
الكآبة والبؤس والإحباط !
وقبل ذلك رأينا من يهتم بمسألة الختان ، ويبعزق أموال الدولة على نشر كتب
تحرّمه – وهو من المباح الذى لم يرد فيه نص بتحريمه- ثم يشغل نفسه بما يسمى
الأذان الموحد ، وبول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإرضاع الكبير ، دون أن
يتذكر واحد منهم القتال أمام أفران الخبز ، الذي يموت من أجله أبرياء يبحثون
عما يمسك الرمق !
فقه الحكومة لا يتطرق أبداً إلى حكم التعذيب فى السجون والمعتقلات ، ولا نهب
أموال الدولة وتهريبها ، ولا بيع البلد بتراب الفلوس ، ولا الاقتراض بالربا من
حكومات العالم ، ولا إلقاء الناس داخل الأسوار بسبب الخلاف فى الرأى أو معارضة
الفساد أو هيمنة البوليس على البلاد والعباد باسم الطوارئ أو مكافحة الإرهاب أو
... أو ...
فقه الحكومة يتطوع ببذر التطرف والتشدد حين يلغى فقه المذاهب الأربعة ( المالكي
والحنفى والشافعي والحنبلى ) من أجل غاية تافهة جداً وهى الحصول على مكافأة
تأليف كتاب عن الفقه الميسر ، فلا يعرف الطالب الأزهرى أن هناك آراء أخرى ،
وأحكاماً مخالفة فى قضايا التشريع .
إلغاء فقه المذاهب ، يقود عمليا بعد إلغاء وتقليص عدد من مناهج اللغة العربية
فى المعاهد الأزهرية ، إلى توحيد التعليم الأزهري مع التعليم العام ، وإلغاء
الإسلام تماماً من الدروس داخل الأزهر المعمور ، ليبحث الناس بعدئذ عن مفت يجيب
عن أسئلتهم فى حارات إمبابة أو عشوائيات ساقية مكى !!
فقه الحكومة يتماهى مع الاستبداد حيث كان ؛ لأنه ليس استبداداً محلياً ، ولكنه
استبداد مستورد ماركة " الاستعمار الغربى المتوحش " ، وهذه الماركة أو العلامة
تفرض على السادة المستبدين أن يكون لهم فقههم المخالف للفقه الذى عرفه الناس
منذ أربعة عشر قرنا .
مثلاً ، فإن تونس الخضراء ، مذ كانت تحت الهيمنة الفرنسية الاستعمارية المتوحشة
، كانت عطلتها الأسبوعية يوم الأحد ، وبعد الاستقلال الصورى ظلت الإجازة يوم
الأحد ، وكان الناس وأغلبيتهم الساحقة مسلمون ، يعملون يوم الجمعة ويصلونها فى
أثناء العمل ولكنهم قبل فترة فوجئوا بفقه الحكومة يلغى صلاة الجمعة فى موعدها ،
ويجد فتوى تجيز صلاة الجمعة مع صلاة العصر ؟
المعلوم في الفقه أن جمع الصلوات لا يجوز إلا لضرورة ، مثل السفر الطويل ،
والقتال ضد الأعداء ، وفى أثناء الحج ( يوم عرفة ) .. ولا توجد ضرورة سياسية
ضمن الضرورات التى عرفها الفقهاء الأصليون .
فقه الحكومة ، لأنه يحبذ الاستبداد المستورد ، فهو يضحى بكل شئ إرضاء للسادة
المورّدين ولو كانت تغييرا للإسلام نفسه باسم تغيير الخطاب الدينى الإسلامي
وحده ، والانشغال بسفاسف الأمور وهوامشها لإشغال الناس عن الواقع الكريه الذى
يحيونه ، ويسرى فى دمائهم وعروقهم على مدار الساعة .
ومن التجليات المضحكة المبكية أن تونس الخضراء اخترعت ذات يوم اختراعاً عجيباً
فريداً فى نوعه ، يتمثل فى استخراج بطاقة ممغنطة يستخدمها المصلون فى المساجد
التى تخصص لهم حسب أماكن الإقامة ، ويقوم المصلى باستخدام بطاقته إذا أراد أن
يصلى فى المسجد المحدد له، فإذا أراد أن يصلى في مسجد غير المسجد المخصص له ،
فإن باب المسجد لا ينفتح أبداً ! وكان تسويغ السلطة لهذا الاختراع العجيب آنئذ
هو " محاربة الإرهاب " والقضاء على التطرف " .. وحين وجدت السلطة البوليسية
الفاشية أن الأمر لقى استنكاراً على مستوى الأمة الإسلامية ، تراجعت ، وقامت
بنفى الأمر تماماً ..
بيد أن " فقه الحكومة " لاتعنيه أسباب الإرهاب أو التطرف الحقيقية ، ولا
يناقشها ولا يتحدث عنها ، ولا يقول للمستبدين إنكم سرقتم الحرية واعتقلتم
الإسلام وسجنتم الكرامة وأهدرتهم كل مبادئ حقوق الإنسان .. وفقد الناس العدل ،
وشاع بينهم الظلم والقهر ، فصار بعضهم أقوى من القنابل الموقوتة ، ضد نفسه وضد
المجتمع كله ..
وإذا كانت " صلاة الجمعة " قد هانت على المستبدين بحكم خضوعهم للمورّدين
المتوحشين ، فإن الخوف الأعظم يأتى من جانب ضحايا " فقه الحكومة " ، فهؤلاء فى
كل الأحوال لا يعرفون شيئا اسمه العقل أو المنطق ، لأن ما يعيشونه من فقدان
للحرية والعدل والكرامة ، يدفعهم إلى ارتكاب كل ما يخطر أو لا يخطر على البال
.. وهو أمر لو تعلمون نتائجه عظيم ! فهل هناك من أمل فى إلغاء " فقه الحكومة "
، وإحلال فقه العلماء مكانه ؟