عن الحب والمحبين

نوال السباعي *

[email protected]

"1"

لم تستطع كل مهرجانات الدعاية الإعلامية ، في شرق الأرض وغربها أن تحملني على الخوض في موضوع "عيد الحب" هذا القادم إلينا خلال أيام ، والذي لايخرج عن كونه مظاهرة اقتصادية ، اخترعتها المراكز التجارية الكبرى لترويج البضائع بعد انقضاء موسم "رخص رأس السنة وأعياد الميلاد" ، ليستمر المستهلك في مزاولة العادة الأجمل لدى التجار وهي الإنفاق والإنفاق والإنفاق ، موسما وراء موسم ، وعيدا بعد عيد ، ومناسبة بعد مناسبة .

طلبت مني احدى الباحثات في مقارنة اللغات في مدريد أن أساعدها في بحث تعده حول المقارنة بين المجازات المستعملة في موضوع الحب في الشعر الغنائي المعاصر بين اللغة العربية واللغة الانكليزية ، واعتذرت إلي أنني قد أجد الموضوع من التفاهة والسخافة بمكان قد اعتذر فيه بدوري عن مساعدتها !، لكنني لم أجد في هذا الموضوع أي سفاهة ولاتفاهة ، بل لقد وجدته من أهم الموضوعات التي مرت علي وأثارت اهتمامي ، وذلك لما له من علاقة وثيقة بطبيعة تفكير أمة من الأمم ، وبناء مشاعر مجموعة من الناس ، وقد وجدت في هذا الأمر فرصة سانحة للكتابة في موضوع "الحب" الذي كنت قد رغبت قبل سنوات إلى مسؤولة في احد المواقع الالكترونية ، أن أفتتح به زاوية ثابتة تحت عنوان "مساحة صغيرة للحب" ، لكن تلك السيدة التي كانت قد طلبت إلي الكتابة في موقعها "المحترم" ، لم تحترم رغبتي تلك ، بل لقد صدمها ذلك الطلب المريب ، فهي تريدني أن أكتب عن المرأة المسلمة !!، وكأن قضية كهذه لاتخص المرأة المسلمة ، وكأن الحديث عن المرأة المسلمة ينحصر وفقط في أربعة أمورلاخامس لها : طاعة الزوج وحسن تبعله – وانظر تبعله هذه في هذا الموقع!- ، وتربية الأولاد – وفي الاسلام فقط!- ، وفنون الطبخ – باعتباره أقصر طريق لقلب الرجل!-  ، وفقه الحيض والنفاس ! ، المرأة المسكينة في بلادنا من وجهة نظر أصحاب الدين ومثلهم أصحاب التقاليد والعادات ،لايرغب أحد في اعتبارها إنسانا ، ولا يريد أحد أن يعترف أن لديها قلبا ، ولايسمح لأحد بأن يتعامل معها إلا من خلال الوظيفتين الرئيسيتين التي أناطها الفقهاء بالنساء ، واللتين ماأنزل الله فيهما نصا ، بل إن النص الوحيد الذي يختص علاقة المرأة والرجل في القرآن الكريم ، كان قد جاء بكلمتين فاصلتين في هذه القضية وهما " المودة والرحمة" ، أو وبتعبير آخر "الاحترام والحب" .

ذلك البحث أثار في نفسي الكثير من الهموم التي يمكن طرحها على الساحة الفكرية "الناطقة بالعربية اليوم " ، فمن جهة نحن نعاني من مشكلة معاصرة فيم يتعلق بهذا الموضوع بالغ الخطورة ، بالغ الخطورة لما له من انعكاسات مصيرية في حياة شبابنا وشاباتنا ، وفيم يتعلق بعلاقات الأزواج والزوجات ، وفيم يتعلق بما نسميه السلام الداخلي في حياة الأسرة في المنطقة العربية وفي المهاجر ، ونحن نحتاج في هذا المجال إلى بذل جهود جبارة لوضع كثير من النقاط على كثير من الحروف في هذه القضية بالذات .

ومن جهة ثانية وفيم يتعلق بموضوع البحث مباشرة فإن المجازات المستعملة في لغة من اللغات تدل بما لايقبل الشك على طريقة فهم وإدراك وتفكير ووعي شعب من الشعوب لتلك المعاني التي حامت حولها تلك المجازات . والمقارنة بين هذه الدلالات أو المجازات المستعملة في لغة ما ولغة أخرى يعطينا حقولا واسعة جدا من الاطلاع على آفاق التفكير والسلوك لدى الشعوب التي تتكلم هذه اللغات ، باعتبار الثقافة مجموعة المكونات الفكرية والسلوكية واللغوية التي يتعاطاها شعب من الشعوب للتعبير عن نفسه ، وتبقى الاستعمالات اللغوية أداة لاتخطيء في فهم الوضع الثقافي العام لمجموعة بشرية معينة ، وارتباط هذه الثقافة بأسس الحضارة التي تستند إليها أم انشقاقها عنها.

هذه المقارنة على كل حال تعتبر من أنجع الوسائل المعاصرة لفهم قدرة ثقافة ما على تلبية الحاجات الانسانية الحضارية لشعب من الشعوب ، وتخدم بصورة أساسية العاملين – من أمثالنا- على التنقيب في تلك الثقافات لتجديد الوعي بالحضارات التي تستمد منها وجودها ، وبقدر بعد الثقافة عن الحضارة نستطيع أن نحكم على قدرة تلك الثقافة على الصمود !، والأمر في غاية الخطورة والأهمية عندما يتعلق بالثقافتين الانكليزية والعربية ، أو على وجه الدقة الثقافة السائدة في انكلترا اليوم ومستعمراتها العسكرية السابقة ومستعمراتها الثقافية الحديثة  ، والثقافة السائدة في المنطقة التي تعتبر حكوماتها و شعوبها على اختلاف مشاربها اللغة العربية لغة رسمية للبلاد.

 

لقد كان من وجهة نظري اختيار " المجازات المتعلقة بكلمة الحب " في الأغنية المعاصرة ، اختيارا موفقا لدراسة وضع تلك المجازات بين اللغتين العربية والانكليزية ، في وقت نحن فيه بأمس الحاجة لاجراء تلك المقارنة بين ثقافتين تتبادلا الأدوار في غزو بعضهما بعضا اليوم عن طريق الثقافة والدين . فالأغنية الشعبية المعاصرة أداة بالغة الخطورة في نقل الثقافة ، وثانيا موضوع الحب موضوع عميق وخطير جدا في أي ثقافة معاصرة بدلالاته اللغوية والفكرية والانسانية ، ومايعكسه من طرق تفكير الناس في مجموعة بشرية ، وثالثا ليس مثل موضوع الحب وموضوع الأغنية الشعبية مجالا لسبر متاهات ثقافة أمة من الأمم ، وفهم قيمة الإنسان فيها ، وكيف يتعامل الناس فيم بينهم من خلال هذه الثقافة ، وهل تصلح هذه الثقافة للتصدير ، أم أنها تختنق في قاذوراتها وبعدها عن منابع الحضارة الإنسانية التي تشيع بين البشر الخير والجمال والتفاهم ، بدلا من أن تجعلهم يغرقون في مستنقعات الكراهية والبغضاء والرفض والعنف ، لاأتحدث عن كراهية ورفض الآخر ، واستعمال العنف كلغة وحيدة للتعامل معه ، ولكنني أتحدث عن معاملتنا بعضنا بعضا ، في بيوتنا ومساجدنا وأنديتنا ومجتمعاتنا ، فمن هنا أوتينا ومن هنا يجب أن نبدأ .

"2"

عندما طلبت مني الاستاذة "غ. خير الله" -المجازة في الإدب الانكليزي والتي تدرس الآن الماستر في مقارنة اللغات في مدريد-  أن أدلي بدلوي في قضية البحث عن جذور بعض المصطلحات الخاصة بكلمة "الحب" المستعملة في اللغة العربية ، ومقارنتها بجذورها في بعض لغات الثقافة الغربية ، فتحت أمامي في واقع الأمر بابا واسعاً وهاماً لدخول هذا العالم شبه المغلق أمام الكتابة الجادة ، والبحوث العلمية ، والمخاضات السياسية الاجتماعية ، إذ وجدت كما ذكرت في الحلقة السابقة فرصة ذهبية للكتابة في موضوع "الحب" !! ، هذا "الحب "  المظلوم بين أيدينا أبدا ، والذي نعاني من فقر مدقع ليس في احساسنا به فحسب ، بل في تفجير الطاقات الابداعية التي تكمن بين جنبي الانسان وتتعلق مباشرة بهذه العاطفة السامية الانسانية الراقية ، التي لايعرفها إلا محظوظ ، ولم يحرم منها إلا محروم!.

لن أُفصل في متاهات أنواع الحب التي لايريد أحد الحديث فيها أصلا!، والتي تبدأ من الحب الالهي القدسي الذي يكاد يرتفع بالانسان إلى مصاف الملائكة ، وربما أكثر من ذلك ، لأن الملائكة عرفوا فذاقوا عن مشاهدة ومعاينة ، والانسان آمن بالغيب وارتقى الى يقين جعله يعشق هذا الاله المتفرد في صفات الجمال والسلام والحب . ولن أتبحر في حب الاولاد الذي يجعلهم أكبادا تمشي على الارض ، ان هبت الريح على بعضهم تهدم الجسد ومرضت الروح وأصيب الفؤاد بالسقم والآلام ودون شفاء ولاأمل ، ولعله مامن حب يتساوي مع حب الانسان لنفسه كحبه أولاده ، ولاتعرف درجة أنانية بعض الناس وأمراضهم القلبية العميقة إلا بالنظر لدرجة حبهم أولادهم وكيفية هذا الحب، ولاأتحدث عن شهوة الامتلاك ، فحب الولد شيء وامتلاكه والتصرف وكأنه شيء يمكن المقايضة عليه شيء آخر ، ولعله ليس أبلغ من الفيلم الشهير " كرايمر ضد كرايمر" في التعبير عن حب الأبناء- Kramer vs. Kramer   فيلم حائز على سبعة جوائز أوسكار ، وهو مقتبس من رواية  بنفس العنوان للكاتب "آفيري كورمان" و من اخراج "روبرت بينتون"  وبطولة " داستين هوفمان"-  ، وخاصة في حالات الخلاف الأسرية الخطيرة ، التي تظهر أنانية البعض واستعمالهم أبناءهم عملة لتداول البغضاء والشحناء والانتقام من الطرف الآخر!،  واذا تحدثنا عن حب الأبناء فلابد من التطرق الى حب الأحفاد الذي تتشكل براعمه الغضة في قلب الانسان وهو في خريف عمره ليملأ روحه أزهارا وعبيرا ونورا وأملا ، يجدد شبابه لا بالعمل والمعاناة من جديد فحسب ، بل بهذا الأمل الذي يراه في عيني حفيده ، فرصة جديدة للبناء ، للعمل ، لتلافي الأخطاء ، لرعاية هذه النبتة التي يُمنح من خلالها الحياة من جديد ، والفرح من جديد ، والألم من جديد ، وماالحياة في حقيقتها إلا أمل وألم وفرحة وعمل ومعاناة؟!.

هناك حب الأفكار ، وهو عالم زاخر هائل عجيب رائع ، ومن أوتي حب العلم والفكر والكتب ، فقد أوتي كل الخير ، وهذا بحر محيط يحتاج إلى تفصيل وإبحار فيه بأشرعة العلم  والمعرفة ، وهناك حب الأشياء ، وأذكر أنني قد عشقت مرة في اسبانيا جزيرة سكنتها ، لم أر أشد نفاقا وضلالا من أهلها ، أمر في ممراتها الجبلية الخلابة فأضع يدي على حجارة تلك الجبال ، وأشعر بدفئها – فهي جزيرة بركانية- ، علاقة غريبة وعجيبة ربطتني بتلك الجزيرة ،  و"أحد جبل يحبنا ونحبه" !!، كنت أشعر بمعاناة تلك الجبال في تلك الجزيرة ، وأعجب من هذه الصلة الغريبة بين الانسان والارض ، إلى درجة أن حريقا هائلا رهيبا  شبّ في تلك الجزيرة ألتهم غاباتها العذراء ،أمرضني أياما حزنا عليها ! ، في ذات الوقت الذي لم أستطع أن أبني فيه صداقة ولاعلاقة مع أي من سكانها ، فهم لايحبون الغرباء وخاصة من الذين هاجروا إليهم ، إنها علاقات معقدة غريبة ، علاقات الحب التي لايمكن أن تقتصر قط على علاقات البشر فيم بينهم ، واسألوني عن صديقة اسبانية من مدريد ، أعرفها منذ عشرين عاما ومافتئت تبكي "كلبا" لها دهسته سيارة عندما كانت صبية صغيرة ، وسألتني مرة إن كان "ربنا" سيجمعنا يوم القيامة بالحيوانات التي نحبها ، وكان أحدهم  من بني جلدتنا قد حدثها عن أن الحيوانات تصبح ترابا وتختفي يوم القيامة ولن يكون لها أي أمل في رؤية كلبها الحبيب من جديد! ، فزادها غما على غم وحزنا على حزن وقد توافق كلامه مع كلام كاهن القرية الذي مايفتأ بدوره يعنفها على تعلق قلبها بذلك الكلب  ، قلت لها : إن ربنا قادر على أن يهبك كل ماتشتهين يوم القيامة ، فإذا طلبت منه "كلبك" هذا ، فإن هذا لايعجزه ، وإذا أحببت أن يحشر معك فهذا أمر هين عليه ، فقالت لي وهي تضحك ، إذن أدخل في الاسلام على أمل أن يجمعني "ربكم" بكلبي !.

"الحب " كلمة غريبة عجيبة ، حرفان لايكاد الناس يستطيعون التفوه بهما لشدة صدق هذه الكلمة وخطورتها في حياتنا ، ولكننا وفي حديثنا هذا المتصل تعقيبا على بحث الاستاذة "خير الله" مضطرون أن نتحدث عن الحب الجنسي  ، وكلمة جنس في العلوم الطبيعية تعني الفرق بين الذكر والانثى ، أما كلمة نوع فهي تفرق بين المخلوقات من حيوانات ونباتات ومابينهما ، وليس لهذه الكلمة بالمعنى العلمي أي علاقة بما يتداوله الناس اليوم مما يحيط بها من معان هابطة وتهويمات قذرة ومعاملات غير سوية ، خاصة فيم تعلق بما يعرض على قنواتنا من قاذورات باسم الفن وأهله ، والفن وأهله مما يعرض اليوم براء ، وأذكر أنني وبعد أن كتب علي العيش في اسبانيا اكتشفت في جملة مااكتشفت وفيم يتعلق بهذه القضية أن تسعين بالمائة مما يعرض على المواطن العربي المسكين مما يسمى بالأفلام المصرية ، هي أفلام مسروقة أفكارها وقصصها وحواراتها من الأفلام العالمية ، لكنها وللأسف لاتحمل اتقان السينما العالمية ، ولايرقى اخراجها وأداء ممثليها إلى واحد في المائة من اخراج وتمثيل الممثلين العالميين ، ولاتعرف أن تنقل معاني الحب الواردة في السينما العالمية بصدق ونزاهة ، وهذا هو مايهمنا ، فتجد الحب في فنوننا وخاصة "السينما" و" الفيديوكليب" قد هبط بالانسان العربي الى مرتبة الحيوانية الشهوانية الخالصة ، وترى الفيلم العالمي فتفهم فيه قصة حب انسانية راقية المعاني ترفعنا وترتقي بنا ، بينما تجد الفيلم المصري المسروق قد هبط بمعنى الحب إلى أخس وأقبح معاني الحب الجسدي ، وماذلك إلا بسبب مانعانيه اليوم من تشوهات مرضية في فهم هذه القضية التي كان من المفروض أن تفهم في سياقها الإنساني ، وأن يتم التعامل معها برقي حضاري  يساير – على الاقل- ماعلمته حضارتنا للبشرية من أناقة منقطعة النظير في التعامل بين النساء والرجال في هذا الباب.

وأرجو أن لايفهم من قولي أنني أنزه السينما العالمية عن السقوط والهبوط ، ففيها الغث والسمين ، ولكن ماتعارف الناس على أنه سينما عالمية ، ليس هو سينما الجنس والقاذورات ، أما السينما العربية فقد أصبح اسمها مرادفا للجنس والقاذورات ، وفي أحط أحوال الانسان ، وتماثلها في ذلك السينما الاسبانية ، وبينهما ضاع معنى الحب الشريف ، الحب الطاهر ، الحب الانساني الراقي ، الذي يعلم الانسان ويصقل روحه وعقله وفكره ، ويسمو به الى حيث ينبغي للحب أن يسمو ببني البشر ، وليست الأغنية العربية ببعيدة عن هذا ، فهي تماشي السينما في توجهاتها خاصة بعد أن دخلنا عصر الفيديو كليب ، وكلنا يدري ماهو الفيدو كليب العربي ، لافكر ولافن ولاذوق ولاجمال ولالغة ولااتقان ولا أناقة!!، إنه هبوط بمعاني الحب إلى أحط مايمكن للبشر أن يفهموه من معاني الحب !!، وهنا ... يبدأ عملنا على بعض المصطلحات المستعملة في اللغة العربية المعاصرة فيم يتعلق بكلمة الحب ، ومقارنتها بمثيلاتها في كل من اللغة الانكليزية واللغة الاسبانية ، لعلنا نكتشف أين الخلل وكيف وصل حال "الحب" في ثقافتنا المعاصرة إلى ماهو عليه.

-يتبع-

              

    *كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا