من الوعي بالذات إلى الوعي بالآخر

حمّودان عبد الواحد

حمّودان عبد الواحد

أستاذ وباحث يقطن بفرنسا / 11.02.2010

[email protected]

إنّ أقلّ ما يمكن أن يشعر به المسلم أمام تصريحات مفتي سورية أحمد حسون ، لمّا قال أمام وفد أكاديمي وديني أمريكي يرأسه حاخام أمريكي يزور سورية :  " لو طلب مني نبينا (محمد صلى الله عليه وسلم)، أن أكفر بالمسيحية او باليهودية لكفرت بمحمد. ولو أنّ محمدا أمرني بقتل الناس لقلت له أنت لست نبيا " ، هو عدم الفهم والاستغراب والتساؤل. وكيفما فسرنا هذا الخطاب ، ربّما يكون السبب هو رعونة وانعدام المهارة في عملية التواصل أو ارتكاب خطأ دون سابق نيّة أو شيء آخر يغيب عنّا ، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه بقوّة في مثل هذه الحالات هو هل يحقّ لمفتي دولة كسورية أن يصدر منه هذا النوع من الكلام لترضى عنه شخصيات مسيحيّة ويهوديّة ، والمؤسّسات والدول التي يمثلونها. في الحقيقة ، كلّ محاولة للدفاع عن المسيحيّة واليهوديّة تتسم بالغلو والمبالغة حتى نظهر متسامحين ومنفتحين في عيون الآخرين تنمّ عن سوء فهم لمبادىء التسامح والانفتاح والحوار التي تستهلكها الألسن اليوم وتدعو إليها الطبقات المثقفّة والجمعيّات المدنيّة والجهات الرسميّة وغيرها.

إذا كنا نريد فعلا أن نكون ، لا أن نظهر فقط ، متسامحين ونتعامل باحترام مع معتقدات وديانات الافراد والمجتمعات المختلفة عنّا ، يجب علينا ، أولا وقبل كلّ شيء ، أن نحترم أنفسنا وذلك بتفعيل عقلاني واجتماعي وإنساني لكلّ المبادىء والقيم التي كانت وراء تألق الشخصيّة الاسلاميّة والعربيّة لمدّة قرون في أوجهها العلمية والفلسفية والفنيّة والأخلاقيّة والجماليّة والسياسيّة والهندسيّة ...إلخ. وهذا التفعيل الحضاري في أبعاده الشكليّة والمضمونيّة ، وفي مراميه الواقعيّة والرمزيّة كشرط أساسي لاحترام الذات هو الذي سيدفع الآخرين بالضرورة إلى أن ينظروا الينا بعين الاحترام ، ويأخذوننا على محمل الجدّ ، ويحسبون لنا ألف حساب قبل أن يصدر منهم قول أو عمل في حق رموزنا الدينيّة ومراجعنا التراثيّة ولغتنا العربيّة وقضايانا الوطنيّة أو العربيّة أو الإسلاميّة.

إنّ البداية التي لا بدّ منها ، قبل أن نفكر في الحوار مع الآخرين وهم أصناف ثقافيّة مختلفة ومتعدّدة ، عليها أن تنطلق من هذه الأسئلة ومحاولة الجواب عليها : من أنا ؟ ماذا أعرف عن نفسي أي عن تاريخي وجغرافيّتي وديني ولغتي...؟ ما هي الثوابت التي لا أرضى لأحد أن يمسّها بسوء ؟  وإذا كانت هذه الأسئلة ضروريّة فلأنّ لها علاقة حميميّة بالوعي الذي يدفع الإنسان إلى الشعور بوجوده أوّلا كفرد ، وثانيا كممارس لوجوده في إطار مرجعيات وثوابت وحقوق وواجبات تجعل منه إنسانيا " منتميا " إلى مجتمع له جذور وأصول ، ويتحرّك وفق مقاصد وأهداف واضحة وسليمة.

وإذا تحقق لإنسان ما أن يحضى بهذه المنزلة ، فإنّه لا محالة سوف يرقى فيما بعد إلى درجة أعلى ، إذ سيجد نفسه معيرا نفس الاهتمام ومعبّرا عن نفس الفضول اتجاه الآخر. وإذن سيجد من الطبيعي أن يطرح على نفسه ( التي أصبح يعرف أشياء عنها ) نفس التساؤلات بخصوص الغير : ماذا تكون هوّيّته ياترى ؟ ماذا أعرف عنه أي عن تاريخه ولغته ودينه وجغرافيته ؟ ما هي الثوابت التي لا يرضى لأحد أن يمسّها بسوء ؟ وإذا حصلت هذه التساؤلات في وعيه فهذا دليل ملموس على أنه قام بأوّل خطوة ضروريّة إلى الأمام. صحيح أنّ هذه الخطوة تبقى صغيرة وغير كافيّة لكنّها بالتأكيد واعدة وتدعو إلى التبشير بالخير فيما يخصّ نوع العلاقات التي ستترتب عن هذا التساؤل الواعي بوجود الآخر.

لماذا يمكن اعتبار كل تساؤل واع بوجود الآخر ( بعد تحقيق الوعي بوجود الذات وممارستها لحقها في الحياة وفق انتماء لثوابت ومرجعيات ، وأهداف محدّدة ) هو مؤشر إيجابيّ وواعد بالخيرات ؟ لأنّ هذا الوعي في حدّ ذاته هو وعي في وقت واحد بنسبيّة ومطلقيّة الحقائق التي يومن بها الأفراد وتتحرك بموجبها المجتمعات وتحيى من أجلها الأمم . وصاحب هذا الوعي مؤهل أكثر من غيره أن يعيش بذكاء وتواجد سلمي في مجتمع واحد مع أفراد لهم عقائد وتصرفات وطرق عيش مختلفة تماما عن ما يميّزه عنهم. فهو يومن إيمانا قاطعا - حين يكون مع أفراد أو جماعات تشاطره نفس الرؤى والمعتقدات أو لمّا يكون في فضاء فردي أو أسرويّ أو خاصّ من نوع آخر - بأنّ الحقائق التي يؤمن بها هي مطلقة ولا يرقى إليها الشك أبدا. لكنّه يستطيع أن يتأقلم مع الآخرين إذا وجد نفسه في فضاءات جماعيّة أو أماكن عموميّة بطريقة تجعله يتصرّف وكأنّه يرى التواجد الذكي والسلمي والآمن مع الآخر في المجتمع هو الحقيقة المطلقة التي تفرض نفسها عليه كإنسان متحضر وكمواطن قائم بواجباته ومنتبه لحريات الناس. ولا يوجد تناقض بين معتقداته الخاصة واقتناعاته النابعة من وعيه بذاته وبالآخرين.

هل وصل العرب إلى هذا المستوى من الوعي بالذات والإنسجام مع الآخر على تعدّد اختلافاته ؟ إنّ النزر القليل منهم ، مشتّت في بقاع العالم ، أومقيم بالأوطان العربيّة ، هو الذي آمن بهذه الحقيقة ، لكنه يقاسي ويعاني  ، لأن الأكثريّة ، وللأسف الشديد ، لم تهتد بعدُ إلى هذا الطريق... بل إنّها ليست على علم بوجوده. وهذا هو الخطر بأمّ عينيه !

وكيف يُتاحُ لهذه الأكثريّة من العرب أن تعيَ ذاتها وتنتبهَ إلى الغير ، وهي ترضخُ باستمرار ، ومنذ سنين طويلة ، تحت وطأة الفقر والأمية والبطالة والظلم والاستبداد ؟ كيف يمكن للانسان العربيّ بصفة عامّة أن يشعرأنّه يحيى ، بالمفهوم الحضاري للكلمة ، وهو محروم من حرّيّته ولا يستطيع أن يتمتع بحقوقه كفرد ؟ ممّا لا شك فيه أنّ كثرة القيود وتعدّد الضغوط الاجتماعيّة والسيّاسيّة وتنوع الممنوعات والمحذورات ، وانتشار الفساد الأخلاقي والرشوة على نطاق واسع ...كلّ هذه عوامل تحول دون الوقوف على الأشياء ، والتأمل في كنه الكائنات ، والتسائل عن معنى الوجود ، الشيء الذي يؤثر سلبيا على الوعي بالذات وتحقيقها ، مثلما يسدّ الطريق أمام نزعتها للتحرر وإرادتها في الانفتاح  وطموحها إلى تأسيس العلاقات. في هذه الحالة يصبح هاجس الآخر ، ثقافيا وأخلاقيا وإنسانيا ، نوعا من الترف الوجودي أو التطلع الأرستقراطي أو مطلباً محصوراً في الفئة المثقفة. وهذه الفئة ، على عكس المعتقَد السائد ، ليست محظوظة إذ أنّها هي الأخرى تعاني يوميا من الضغوط المادية ، والمراقبة السياسية ، وغياب الحق والقانون . كما أنّ انعدام الرؤية الواضحة لدى أغلبيّة أفراد الشعوب العربيّة جعلها تكون محطّ عتاب ونقد وسخط لأنها حسب هذه الأخيرة لا تقوم بواجبها بل تتواطىء غالباً مع السلطة. زد على هذا أنّها مراقبَة ومحاصرة لأنها حسب السلطة تتلفظ بكلمات وتعبّر عن أفكار ، وتتبنّى برامج ثقافيّة أو فنّيّة ، وتتصوّرمشاريع فكريّة واجتماعيّة من شأنها إذا انتشرت أو طُبّقت إثارة تغييرات لا تتحمّل عادة مسؤوليّة نتائجها على سلوك المواطنين وانعكاس ذلك على الأمن العام.

وهنا يكمن المشكل الحقيقي الذي يحيّر كل من يهتم بالموضوع ويسعى لايجاد حلول لمعضلته الأبديّة. ما العمل حتى يَعيَ العرب - فرادى وجماعات ، شعوباً وحكاماً ، عوامًا وخواصًا ، أثرياءً وفقراءً - بذواتهم ولا ينسوا أنّ ممارسة حق الوجود بطريقة كريمة ومنسجمة شيء رهين بنوع النظرة التي يلقونها على الآخر، ذاك الذي هو نصفنا المكمّل لأنفسنا ؟ 

ونفس السؤال يُطرَحُ بإلحاح على الغرب الذي يمرّ بأزمة هوّيّة عميقة تظهر ملامحُها كلّ يوم في ذاك الخوف من الغريب أو المهاجر أو البعيد أو القريب أكان مواطناً من أصول عربيّة أو أفريقيّة أو مواطناً يعتنق ديانة مختلفة عن الديانة المسيحيّة. إنّ الخوف من المسلمين على وجه الخصوص نابع حسب ت.تودوروف (1) ، بالاضافة إلى عوامل سياسيّة واقتصاديّة ، من الجهل بالثقافة العربيّة والإسلاميّة . وهذا الجهل بالآخر المسلم يدفع إلى التقوقع على الذات ويفرز حالات خوف وخشية واحتياط لا ترى في العربيّ أو المسلم إلا عدوّا يجب الحذر منه والاستعداد لمحاربته قبل أن يقوم بهجوم ما ويسطو على القيم والعادات والأصول الغربيّة. إنّ فرنسا مثلا تحاول من خلال نقدها الجاهل غير الحكيم والحقود للاسلام والمسلمين عزلَ الثقافة والدين الاسلامييْن وإبعادهما عن الثقافة المهيمنة. وما لا ينتبه إليه كلّ أولائك الذين يمنعون على أنفسهم الاحساس بالآخر والوعي بحقه في ممارسة وجوده ككائن ثقافي ، هو إفراز وضعيّة ستاتيكيّة تتجاور فيها الذوات بكل أشكالها الرموزيّة ومحتواياتها الثقافيّة والروحيّة دون أن تتفاعل وتنتج دينامكيّة جماعيّة تعود بالنفع والاطمئنان على الكلّ . وفي هذا دليل على الاقتراب من حالة التوحّش أو التخلف الحضاريّ La barbarie  . (2)

              

(1) TZVETAN TODOROV, La Peur des barbares : au-delà du choc des civilisations, Robert Laffont, Paris, 2009.

(2) نفس المرجع ، ص. 329