البيئة الإقليمية ومستقبل القضية الفلسطينية
البيئة الإقليمية ومستقبل القضية الفلسطينية
د. محمد المناصير
تعرضت القضية الفلسطينية، في كثير من المراحل التاريخية السابقة إلى نوع من التراجع في أولويات النظام الإقليمي العربي الرسمي ، نظراً لبروز قضايا أو صراعات بدت لفترة في موقع الأولوية .
ثم مع تطور الأحداث، إما بحل هذه القضية المستجدة أو تراجع الاهتمام بها ، أو اكتشاف أن جزءاً مهما من حل هذه القضية المستجدة نفسها مرهون بحل القضية الأم، أي الفلسطينية، تعود الأخيرة لتحتل مكانها مجدداً في اهتمامات النظام العربي رسمياً وشعبيا معاً.
أولا- القضية الفلسطينية ودورة المحاور السياسية :
لم تكن الأحداث الإقليمية الكبرى وحدها المسؤولة عن حال من التذبذب في وضع القضية الفلسطينية عربياً وإقليمياً ، بل كانت هناك دائماً عوامل دولية تتعلق بالنظام الدولي نفسه وما يعتريه من تغيرات جوهرية. فحين انتقل النظام الدولي - بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - إلى وضعية النظام أحادي القطبية ، تراجعت حظوظ القضية الفلسطينية نسبياً على الصعيد الإقليمي. وحين وقعت هجمات 11 سبتمبر على نيويورك وواشنطن 2001، وفرضت الولايات المتحدة رؤيتها للحرب على الإرهاب الدولي على العالم بأسره ، تأثرت القضية الفلسطينية - بسبب وضع فصائل المقاومة الفلسطينية على اختلاف مشاربها السياسية والفكرية - على لائحة المنظمات الإرهابية الواجب محاربتها دولياً ، مما أثر نسبياً على وضع القضية الفلسطينية من التركيز على إنهاء الاحتلال إلى إثبات مشروعية المقاومة. لكن عملياً ، أدى ذلك إلى زيادة حدة الضغوط على صانع القرار الفلسطيني وإلى تشتيت الجهود ، وأيضاً إلى إثارة الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم بشأن ما ينبغي عمله.
ثانيا- تأثير عامل القيادة الفلسطينية :
إن العامل المشترك بين الأحداث الكبرى - المشار إلى أمثلة صارخة منها - هو حدوث نوع من الاستقطاب العربي المشفوع أحيانا باستقطاب إقليمي وربما دولي ، وهو استقطاب كان يضع القيادة الفلسطينية تحت ضغط هائل ، لاسيما حين يكون الوقوف تأييداً مع طرف معين بمثابة خسارة للمساندة والدعم من طرف أو أطراف أخرى مهمة وذات ثقل عربي وإقليمي . والمثل الأبرز هنا حين بدا موقف منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات مؤيداً للعراق في غزوه للكويت 1990، وترتب على ذلك فقدان تأييد دول الخليج ، وفي مقدمتها الكويت، للقيادة الفلسطينية آنذاك ، الأمر الذي أثر سلباً لبعض الوقت في التحركات العربية والدولية.
وقد رتفق ذلك انكفاء النظام العربي الرسمي على ذاته بعد صدمة احتلال العراق وتزايد النفوذ الإيراني عراقياً وإقليمياً ، ثم النتائج المتناقضة التي حلت بأطراف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتحديداً إسرائيل ، وما نتج عن النتائج المتواضعة عسكرياً وسياسياً من ضغوط شعبية وسياسية على حكومة أولمرت.
ثالثا- عناصر البيئة الإقليمية :
لم تحدث هذه العوامل مجتمعة في فراغ، وإنما في ظل بيئة إقليمية ودولية تتسم بدورها بعدة خصائص رئيسية قادت إلى بلورة اتجاهين متضادين، الأول: اتجاه يعمل على بلورة محاور سياسية تخدم أهدافاً بعينها، والثاني: بلورة تحركات منفردة وجماعية تعمل على عدم الوقوع في شرك تلك المحاور. ولعل نظرة على السمات العامة لتلك البيئة الإقليمية/ الدولية توضح حالة السيولة الإقليمية التي تعيشها المنطقة ككل ، وهذه السمات على النحو التالي:
1- ضعف النظام الإقليمي العربي وسطوة الاختراقات الخارجية:
يعيش النظام العربي هذه المرحلة واحدة من اضعف مراحله. وفي حالات الضعف، يكون طبيعياً حدوث اختراقات خارجية تكشف عن مدي الضعف من جانب وتستفيد من هذه الحالة من جانب آخر. ومن ثم، تصبح قضايا النظام نفسه وأولوياته مرهونة بحكم هذا التدخل ودوافعه. وفي كثير من الأزمات التي لم ينجح فيها النظام العربي في الرد على التهديدات وصد الاختراقات الخارجية، كان يحدث رد فعل عكسي يتمثل في حد أدني من الاستيعاب لهذه التهديدات وتعديل أداء النظام، وإن ببطء. وهو ما يمكن رصده بعد قيام الولايات المتحدة بغزو واحتلال العراق وأيضاً بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان الصيف الماضي.
وفي هذا السياق، تبدو عملية تصاعد النفوذ الإيراني إقليميا ًعلى أسس مذهبية ومصلحيه وعملية مسألة طبيعية. فمع حدوث فراغ قيادي في النظام العربي، بدت فرصة سانحة لإيران والتي استغلتها ببراعة فائقة، إذ تمكنت من ملء الفراغ السياسي والقومي والعروبي الذي تسبب فيه الاحتلال. كما وظفت العلاقات السابقة، المتمثلة في احتضان قوي المعارضة العراقية الشيعية لمدة قاربت العشرين عاماً، في التمكن من أعصاب سياسية وأمنية عدة في العراق المحتل، لاسيما في الجنوب وفي المناطق التي يقطن فيها شيعة عراقيون في العاصمة بغداد، وربطت ذلك النفوذ بالمواجهة التي تخوضها مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي.
إلى جانب الحالة العراقية، وفي أقصى الجنوب تبرز الحالة الصومالية، التي بدورها تكشف عن اختراقات إثيوبية وكينية ودولية ومن قبل منظمات جهادية عابرة للحدود، وذلك طوال 16 عاما انهارت خلالها كل مؤسسات الدولة الصومالية، ولم يتمكن النظام العربي طوال هذه المدة من مساعدة الصوماليين على إعادة بناء دولتهم المنهارة مرة أخرى، وكان فشله في هذه المهمة مقدمة طبيعية لتزايد الاختراقات الخارجية في الشأن الصومالي الداخلي، وبما يتناقض مع الكثير من المصالح العربية الجماعية.
وما يصدق على الصومال يصدق جزئياً على السودان، الذي لم ينجح في إنهاء الحرب الأهلية في جنوبه إلا بتدخل إفريقي ودولي عريض ولمدة عدة سنوات، وهو الآن يعاني من تدخلات جديدة في إقليم دارفور من مصادر مختلفة، في الوقت الذي يعجز فيه النظام العربي عن تقديم مظلة حماية، سواء لاتفاقيات نيفاشا التي أنهت الحرب الأهلية في الجنوب، أو في مساعدة السودان على تحصين قدراته الذاتية لمواجهة الاختراقات الجديدة في دارفور.
2- التورط الأمريكي في العراق والنتائج المتناقضة للغزو:
لقد شكل تصاعد النفوذ الإيراني ضغطاًً على الاستراتيجية الأمريكية في العراق وفي منطقة الخليج بالدرجة الأولي، فضلاً عما يشكله ذلك من تهديد للأمن الإسرائيلي وفق المنظور الأمريكي، وما يعنيه من ضغط وقلق متناميين لدي بلدان الخليج العربية ودول عربية كبري مثل مصر. ويأتي هذا التصاعد في ظل تنامي القدرة العسكرية الإيرانية، حيث ارتفع التصنيع المحلي لكثير من منظومات الصواريخ متعددة المديات وأنواع متطورة من الطائرات المقاتلة وأخري بدون طيار ومعدات بحرية متنوعة، في الوقت الذي زاد فيه الإنفاق العسكري نتيجة ارتفاع الصادرات النفطية إلى 62 مليار دولار في عام 2005، ليكشف عن مدي الطموح العسكري الإيراني في منطقة الخليج وما بعدها .
في ظل هذا التنامي للنفوذ الإيراني إقليمياً، تصاعدت المواجهة الأمريكية - الغربية - الإسرائيلية مع إيران إزاء برنامجها النووي، الذي تعتبره الولايات المتحدة وإسرائيل برنامجاً عسكرياً يهدف إلى تهديد أمن إسرائيل، وأنه غير مسموح لإيران بامتلاك لا أسلحة نووية ولا قدرة نووية أياً كانت. وطوال العامين الماضيين، فقد اكتسبت تفاعلات الأزمة النووية الإيرانية مسحة من السخونة بعد أن تعثرت المساعي الرامية إلى تسويتها سلمياً ، وبعد أن نجحت الولايات المتحدة في إقناع الدول الكبرى بنقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن الدولي مطلع عام 2006، وذلك تمهيدا لفرض عقوبات دولية على إيران، مع التمسك بأن كل الخيارات متاحة - على الأقل - للولايات المتحدة لوقف البرنامج النووي الإيراني أو - على الأقل - وقف دورة الوقود النووي فيه ووضع باقي منشآته تحت الرقابة الدولية الصارمة.
3- بروز الانقسام المذهبي - الطائفي كمحرك للعلاقات العربية - الإقليمية:
لا تقف نتائج الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق عند حد صعود الشيعة في العراق، بل تمتد إلى إثارة النزعات الطائفية والمذهبية إلى ما وراء العراق، خاصة في البلدان العربية الخليجية، التي توجد فيها تجمعات شيعية كبيرة نسبياً ، حيث ارتفعت مطالب هؤلاء بالحصول على حقوق المواطنة كاملة، شأنهم شأن أي مواطن آخر يدين بأي مذهب آخر. ولقد شكل ذلك مصدراً للقلق لدي العديد من النخب السياسية والدينية وكذلك الأوساط الشعبية. لكن الأكثر إثارة وخطورة هنا هو ارتباط تصاعد المطالب السياسية بنزعة طائفية تقوم على تقسيم المجتمعات ما بين سنة وشيعة، وتتجاهل النظر إلى ربط هذه المطالب بإحداث انفراجات سياسية في النظام السياسي ككل.
ولقد أدي الصعود الشيعي في العراق إلى إثارة جدل فكري وسياسي وديني على نحو فريد، استعاد فيه البعض الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة التي يعود عمرها إلى أكثر من ألف عام. وهكذا، بدت هذه الخلافات المذهبية القديمة - التي لم يستطع السابقون من المسلمين أن يحلوها - أنها تحدد مصير العلاقات بين السنة والشيعة في العصر الحديث. بل يمكن أن تثير تداعيات مذهبية خطيرة تؤثر على وحدة المجتمعات في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وربما تقود إلى حالات عنف كتلك التي تجري داخل العراق نفسه.
هذا الجدل السياسي والفكري العام له تداعياته على المواقف السياسية العربية. وقد ظهر القلق العربي الرسمي من الصعود الشيعي المرتبط بزيادة مساحة النفوذ الإيراني في تصريحات قادة الأردن ومصر والسعودية، وهي الدول العربية السنية التي تقود السياسة العربية بوجه عام . وقد شملت هذه التصريحات التحذير من مغبة نشأة هلال شيعي يؤدي إلى حروب مذهبية وتوترات بين السنة و الشيعة في العراق وفي بلدان عربية أخري، والتحذير من تقسيم العراق، وأن يكون ولاء شيعة العراق لإيران أكثر من ولائهم لوطنهم ، وكذلك التحذير من تمدد النفوذ الإيراني على نحو يؤثر سلباً على عروبةالعراق.
ووفقاً لكلمات الملك عبد الله الثاني في ديسمبر 2004، فإن نشأة هلال شيعي جديد، يمتد من طهران وبغداد إلى لبنان وسوريا، سيؤدي إلى خلل في التوازن بين المجتمعين السني والشيعي، وستكون له آثار سلبية على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة ، وأنه في حالة نشوء دولة إسلامية في العراق، فعلى الجميع الاستعداد لمجموعة جديدة من المشاكل والتحديات التي لن تنحصر في الحدود العراقية، وإنما ستمتد إلى دول الجوار، لاسيما البلدان الخليجية التي بها تجمعات شيعية. وفي هذا الإطار جاءت تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في 6 ديسمبر 2004، حيث قال إن تقسيم العراق هو تهديد مباشر لأمننا وأمن دول الجوار، معتبرا أن أي نظام عراقي مبني على أسس عرقية أو مذهبية لا يساعد على استقرار البلاد ووحدتها. كما جاءت أيضاً المواقف العربية التي انتقدت قيام حزب الله بأسر الجنديين الإسرائيليين، وما تلاه من عدوان إسرائيلي على لبنان، باعتباره يخدم أهدافاً غير عربية ويصب في مصلحة إيران، ولا يخدم لبنان أو استقراره.
4- جمود عملية السلام العربية - الإسرائيلية:
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، تكاد تكون عملية التسوية السياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي متوقفة تماماً . ورغم كل الجهود الدبلوماسية التي بذلت وشاركت فيها أطراف عربية وأوروبية ودولية ومساع لدي الإدارة الأمريكية لكي تقوم بالتزامها من أجل تسوية القضية الفلسطينية، وفقا لما يعرف برؤية الرئيس بوش القاضية بإقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية متجاورتين تعيشان في سلام - فإنه لا يوجد شيء جدي يمكن اعتباره قد تم البدء فيه على هذا الصعيد. وقد تكثفت التحركات التي بدأ بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شارون من أجل الانسحاب الأحادي من غزة دون تشاور مع السلطة الوطنية الفلسطينية، باعتبار أنها غير مؤهلة لأن تكون شريكاً لإسرائيل لتضع القضية الفلسطينية برمتها على مسار جديد.
وجاءت التطورات اللاحقة لتدل على أن إسرائيل - وبمباركة من الولايات المتحدة - ليست معنية بحل سياسي للقضية الفلسطينية بقدر ما هي معنية بإنهاك الفلسطينيين وتخفيض سقف توقعاتهم الوطنية من أي حل سياسي مرتقب مستقبلاً، والضغط عليهم تحت ذريعة إجراء إصلاحات جذرية في النظام السياسي الفلسطيني، وهو الأمر الذي لم يختلف، سواء أثناء وجود الرئيس عرفات أو بعد رحيله. كما كانت معنية أيضاً بتمرير حلول فردية وليست نتيجة مفاوضات مع الطرف الفلسطيني.
وقد ساهم فوز حركة حماس بالانتخابات البرلمانية الفلسطينية وتشكيلها الحكومة، لاحقاً ، بعد الفشل في تشكيل حكومة وحدة وطنية، في إعادة بلورة النظام السياسي الفلسطيني، وكذلك في تغيير الأولويات الأمريكية والإسرائيلية، بحيث جاء في مقدمتها محاصرة الشعب الفلسطيني وعزله سياسياً ومعاقبته على اختياره السياسي. ومن هنا، جاءت شروط اللجنة الرباعية على السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومتها بقيادة حماس (اعتراف بإسرائيل ونبذ كل أشكال المقاومة والالتزام بالاتفاقيات السابقة بين السلطة وإسرائيل) لتشكل فرصة تاريخية لإسرائيل والولايات المتحدة للتنصل من التزاماتهما تجاه عملية التسوية السياسية. ومن ثم، تأكد جمود الجهود الدولية في هذا السياق، وتأكد للشعب الفلسطيني أن الدور الأمريكي غير معني بالمرة بأي حق مشروع له، بل كل ما يهمه هو أمن إسرائيل وهيمنتها على القضية الفلسطينية.
5-الضغوط الأمريكية على كل من سوريا وإيران وحلفائهما:
ارتبط الفشل الأمريكي في العراق بتصاعد نقطة الأزمة بينها وبين إيران من جهة، وتصاعد الضغط الأمريكي على القوي التي تعد حليفة لها من ناحية أخري. وهنا، تبرز سوريا، كما يبرز حزب الله اللبناني باعتباره قطباً شيعياً لبنانياً، ولكنه يمثل أحد وجوه النفوذ الإيراني الإقليمي، كما أن الأولي تعد أحد أهم حلفاء إيران، والمتهمة أيضاً أمريكيا بأنها وراء تصاعد العنف والإرهاب في العراق من ناحية، ووراء تعثر الاستقرار في الأراضي الفلسطينية المحتلة من جهة أخري، وذلك عبر وقوفها ودعمها للمنظمات الفلسطينية الجهادية التي لم تتنازل عن حقها في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
واستنادا لهذا الموقف الأمريكي والإسرائيلي العام المناهض لسوريا، كان الحديث عن عزلها إقليمياً وتعرضها لعقوبات أمريكية، وربما دولية، أمراً معتاداً ومتكرراً ، فضلاً عن رفض أمريكي صارم لأية جهود أو مساع أو أفكار تطالب بإدماج سوريا في السياسات الإقليمية من خلال العودة إلى طاولة التفاوض بينها وبين إسرائيل.
وفي السياق نفسه ومع تصاعد الأزمة الداخلية اللبنانية، كان الحديث عن دور سوري تخريبي أمنياً وسياسياً مدخلاً رئيسياً في توجيه الاتهامات لسوريا بأنها وراء الأزمات الهيكلية التي يشهدها لبنان حتى بعد انسحابها عسكرياً عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005. وقد ساعد انقسام لبنان إلى فريقين عريضين، أحدهما يناهض سوريا بكل قوة ويتهمها بأنها السبب الأساسي في أزمة لبنان، والثاني يري أن سوريا ذات أياد بيضاء على الأمن والسيادة اللبنانية - ساعد هذا الانقسام في تحول لبنان إلى ساحة أخري لتصفية الحسابات الإقليمية-الدولية، وهو ما أبرزته وقائع الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006 سياسيا وعسكريا.
رابعا- نحو تشكيل المحاور الإقليمية المتصادمة :
أدت هذه العوامل مجتمعة إلى إعادة تركيب التحالفات والمحاور الإقليمية على نحو جذري، وحتى طريقة تفاعل الأطراف الإقليمية مع مجريات الأحداث قادت إلى نوع من السيولة والتبدل بين المواجهة والتهدئة والانفتاح والتقارب. وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة، لاسيما ما بين صيف عام 2006 وحتى اجتماع بغداد الدولي الذي جري في العاشر من مارس 2007، وما بينهما من تقلبات سياسية كبرى - يبدو الحديث عن استقطاب إقليمي مسألة غير دقيقة، رغم أن الولايات المتحدة، ومن ورائها إسرائيل، حاولت تقسيم المنطقة إلى محورين يضرب أحدهما الآخر، تحت عنوان تحالف المعتدلين في مواجهة المتطرفين والمتشددين. وهو الأمر الذي بدأ في الظهور إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان ، حين أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس عدة مرات أن الحرب هي لحظة مخاض كبرى للشرق الأوسط، الذي لن يكون كما كان قبل العدوان الإسرائيلي، وذلك على اعتبار أن سحق حزب الله عسكرياً سيؤدي إلى احتواء النفوذ ين الإيراني والسوري لبنانياً وإقليمياً، ومن ثم يقود إلى ضعف مواقف القوي الأخرى التي تؤيدهما في فلسطين المحتلة، ومن ثم يخرج المعتدلون منتصرين ويتبلور توازن إقليمي جديد.
بعبارة أخرى، فإنه في رحم هذا العدوان الهمجي، بدت فكرة بناء تحالف يجمع بين إسرائيل وعدد من الدول التي وصفت بالاعتدال في مواجهة الدول والقوي الأخرى التي أيدت حزب الله وساندته في مقاومته الهمجية الإسرائيلية - كخيار استراتيجي أمريكي - إسرائيلي مشترك، هدفه ليس فقط تقسيم المنطقة ودفعها إلى التناحر فيما بينها، بل أيضاً تشكيل مظلة حماية لإسرائيل نفسها من قوي أساسية في المنطقة في مواجهة ما تعتبره كل من تل أبيب وواشنطن قوي الشر والتطرف التي تريد تدمير إسرائيل. وبين هذين الهدفين الرئيسيين، تبرز أهداف أخري مهمة أيضاً، وإن كانت تأتي في مرتبة تالية من قبيل تخفيف الضغوط على إسرائيل فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية، والاستمرار في حصار الشعب الفلسطيني بمباركة عربية، باعتبار أن جزءاً من هذا الشعب، خاصة الذين اختار حركة حماس المتهمة بالإرهاب والتشدد وبالعلاقة مع إيران وسوريا ، قد اختاروا الانضمام إلى محور الشر والتطرف، ومن ثم تكثيف الانقسام الفلسطيني أفقياً ورأسيا وبالتالي الحيلولة دون إمكانية الخوض في عملية وفاق وطني، سواء باليات ذاتية أو بالاستعانة بدفع خارجي. وتكمن الفكرة الجوهرية في هذا المشهد، الذي سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تحقيقها، في أن يكون الانقسام الفلسطيني نفسه مرهوناً بالاستقطاب الإقليمي المرغوب تكوينه. وفيه، يكون جزء من السلطة والشعب محسوباً على محور الاعتدال، ويتمثل في الرئيس وفتح وأنصارهما، وجزء آخر من السلطة والشعب محسوباً على محور التشدد، ويتمثل في حركة حماس والفصائل المتمسكة بالمقاومة - لاسيما العسكرية - والحكومة التي تقودها حماس منفردة.
يكشف تأمل هذا المشهد عن أن من بين الأهداف الجوهرية لحالة بناء استقطاب إقليمي يقوم على التنافر والمواجهة والسير في الركاب الأمريكية والإسرائيلية على حساب المصالح الأساسية لدول المنطقة - هدفا رئيسياً وكبيراً هو حشر القضية الفلسطينية في ركن اللا حل واللا تسوية إلى أبعد مدي زمني ممكن، وبما يشكل فرصة تاريخية لإسرائيل للاستمرار في تهويد القدس ومحيطها واستقطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة لغرض الاستيطان اليهودي، وتشكيل أمر واقع جديد ينهي الأمل في بناء دولة فلسطينية مترابطة جغرافياً في المدى الزمني المنظور.
على الصعيد العملي، بدا الأمر - من وجهة النظر الأمريكية - أكثر إلحاحاً بعد أن فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق هدفه الأساسي وهو سحق حزب الله ، والذي بداً رقماً صعباً، سواء لبنانياً أو إقليمياً، ومع حدوث قدر من الحيوية في الشارع العربي، بعد أن توقف العدوان الإسرائيلي، وثبوت القدرة العربية على مواجهة قوة الردع الإسرائيلية العسكرية، إن توافرت لذلك الإرادة المناسبة. وهكذا، كانت المحاولات الأمريكية لبناء التحالفات المطلوبة تعويضاً عن الفشل العسكري الإسرائيلي من جانب، ولغرض تحقيق الأهداف الكبرى للحرب عبر السبل الدبلوماسية من جانب آخر، والتي تصاحبها ضغوط سياسية ودعائية مختلفة.
وفي هذا لإطار، تفهم اجتماعات ما يعرف ب- 6 + 2 + 1، أي الاجتماعات التي شاركت فيها دول الخليج العربية وكل من مصر والأردن والولايات المتحدة، والتي عقدت في صيغ سياسية وأمنية مختلفة في الأردن، وتداخلت فيها قضايا الوضع الأمريكي المتعثر في العراق واستمرار الحصار على حكومة حماس والشعب الفلسطيني بأسره، وتشكيل قوة ضغط عربية في مواجهة إيران وسوريا وحلفائهما المحليين. وفي السياق ذاته، تفهم دعوة باكستان لاجتماع إسلام آباد لسبع دول إسلامية منها ثلاث دول عربية هي مصر والسعودية والأردن، وأربع إسلامية هي باكستان وتركيا وإندونيسيا وماليزيا، والذي عقد بالفعل في 24 فبراير 2007، واعتبر في حينه استكمالا لجهود بناء تحالف سني - عربي إسلامي ضد إيران والقوي المناصرة لها.
خامسا- العودة إلى حالة السيولة الإقليمية :
هذه التطورات التي توحي بالاندفاع نحو تشكيل قطب إقليمي ما مناهض للتمدد الإيراني ليست الوحيدة، فهناك ما هو مناقض لها تماماً، ويحول دون الوقوع في شركها الضار. ونشير هنا إلى أبرز تطورين في هذا الصدد، الأول يتعلق بتوصل حركتي فتح وحماس إلى اتفاق مكة برعاية سعودية في التاسع من فبراير 2007، وهو الاتفاق الذي أنهي الانقسام الفلسطيني وعالج مشكلة التوافق الوطني وحكومة الوحدة الوطنية، وأعاد القضية الفلسطينية إلى رعاية النظام العربي. أما التطور الثاني فيتعلق بزيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى الرياض في 3 مارس 2007، والتي اتفق خلالها على ما سمي بوقف الفتنة في العالم الإسلامي والتصدي للمؤامرات الهادفة إلى تقسيم العالم الإسلامي، حسب قول الرئيس الإيراني أحمدي نجاد ، الذي أشار أيضاً إلى أن بلاده والمملكة العربية السعودية واعون تماماً لتهديدات أعدائنا ونحن ندينها.
وقد أطلق الحدثان معا كثيراً من التكهنات، أبرزها بشأن الاحتمالات الكبرى لعودة التفاعلات الطبيعية بين حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية والقوي الدولية المختلفة، وفتح ثغرة كبرى في سياسة الحصار التي تتمسك بها الولايات المتحدة وإسرائيل إمعاناً في تخفيض سقف التوقعات الفلسطينية والعربية معاً. وثانيها: حسن الإعداد لقمة الرياض العربية المقرر عقدها في نهاية مارس، وتهيئة البيئة العربية والإقليمية لإنجاح هذه القمة. وفي الإطار ذاته، بدا الانفتاح على سوريا جزءاً من هذه الترتيبات، حسبما تؤكده زيارة نائب الرئيس السوري فاروق الشرع للقاهرة في 14 مارس 2007، وتهدئة الأزمة اللبنانية التي شهدت بدورها بوادر للحل حسبما توحي به لقاءات سعد الحريري رئيس كتلة المستقبل، ونبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني، وكلاهما يمثل رمزين للاستقطاب اللبناني والإقليمي على السواء. فضلاً عن انفتاح الولايات المتحدة الجزئي على كل من سوريا وإيران، والذي جرت وقائعه في اجتماع بغداد الخاص بالأزمة العراقية ، الذي عقد بدوره في العاشر من مارس 2007، وضم 17 مندوبا لدول ومنظمات إقليمية ودولية معنية بالوضع العراقي.