المعارضة أخلاق

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

لا نعتقد أنّ أيَّ ذي قلبٍ ومشاعر إنسانيةٍ حقة، لا يشعر بوطأة المحنة التي يعيشها شعبنا في سورية، نتيجة تراكم عقود القمع والبطش والاضطهاد، وتدمير مفاصل البنية الحضارية للإنسان السوريّ، على اختلاف مشاربه ومنابته وتوجّهاته العقدية والسياسية. وقد كانت الحركة الإسلامية السورية في طليعة الذين حذّروا من استشراء هذه الحالة التي يقودها نظام استئصالي أحاديّ، قفز إلى السلطة بالقوّة الباطشة، متدثّراً بشعاراتٍ جوفاء كشفت عن حقيقتها ممارساتُهُ الجرائمية، التي نالت -أول ما نالت- من أبناء الحركة الإسلامية، التي يصنّفها هذا النظام المغتصِب في مرتبة الثورة المضادة!..

لقد تصدّت الحركة الإسلامية لظلم النظام وعسفه وبطشه ومؤامراته الدنيئة على الشعب والوطن السوريّ، ودفعت ثمناً باهظاً لذلك، دماً ومالاً وأرواحاً وحرية، وقبضت عزلاً وتشريداً وتهجيراً وبطشاً وسجوناً صحراويةً وقتلاً على الهوية، وانتقاماً من أجيالها المتعاقبة.. فيما كان الآخرون إما جزءاً من تركيبة هذا النظام الفاجر، أو طابوراً من طوابير المتمرِّعين بأعطياته، التي كان وما يزال يشتري بها النفوسَ والضمائرَ والألسنةَ والأقلام!..

حين نعارض النظام، ونتصدّى لاستبداده، لا يغيب عن بالنا أنّ مثل هذا النظام قد تجذّر وملأ الأرض السورية فساداً وخوفاً وقهراً، ولا بد –لاقتلاعه- من تضافر كل الجهود الخيّرة، ومن تلاحم كل أصحاب الضمائر الحية، ومن تعاضد كل شرفاء سورية الوطنيين.. فخلاص سورية من محنتها العظيمة ليس لعبةً سياسية، ولا تمثيليةً عبثية.. خلاص سورية مبدأ سامٍ، يستند إلى فكرٍ نيّر، وأفقٍ واسع، وعقيدةٍ صلبة، وأخلاقٍ راقية، وتضحياتٍ جسامٍ لا يقدر عليها إلا أقوياء النفوس، وأصحاب قضيةٍ إنسانيةٍ حضاريةٍ بمستوى تحضّر أهلها.. فالمهازيل من الرجال هم الذين يظنّون أنّ التصدي للظلم لعبة، وأنّ خلاص شعبٍ عملية بهلوانية في سركٍ سياسيّ، وأنّ معارضة نظامٍ استبداديٍ دمويٍ فرصة للظهور على حساب الآخرين، وللتسلّق على سلّم تشويه سمعة الشرفاء، والنيل منهم ومن تاريخهم، والتحريض عليهم، وقذفهم بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور!..

إنّ اجتراح الصفحات التاريخية المشرقة التي تمكث في الأرض، غير اجتراح لحظاتٍ من الشهرة الإعلامية على قناةٍ فضائية!.. وإنّ ركيك الكلام الذي يتناثر -بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا هدفٍ- من منبرٍ إعلاميّ، غير صناعة التاريخ الذي تتناقله الأجيال، وتوسعه بحثاً ودراسةً وتعلّماً واستلالاً لِعِبَرِهِ وتجارب صانعيه!.. نقول كل ذلك وبين ظهرانينا أفراد يظنّون أنهم يستطيعون تمرير خرافاتهم ومزاوداتهم كما كانت تُمَرَّر في الأربعينيات أو الخمسينيات من القرن المنصرم، ولم يفيقوا إلى حقيقة أننا نعيش في العام السابع من القرن الحادي والعشرين، الذي اقتربت فيه المسافات، وانتشرت في حضرته التكنولوجيا المذهلة، وأصبح فيه الناس يفكّرون ويَزِنون الأقوال بميزانها الدقيق، فلا تخفى على عقولهم وبصائرهم الأفعال!..

إنّ تمتين علاقاتنا مع الآخر الوطنيّ الشريف الذي يقاوم الظلم والاستبداد.. إنّ ذلك ركيزة من ركائز منهجنا الدعويّ، ومَعلَم مهم من مَعالِم عقيدتنا السياسية الشرعية، لذلك فنهجنا الراسخ هو أن نُجَمِّع لا أن نُفَرِّق، وأن نُقَرِّبَ البعيد لا أن ندفعه لمزيدٍ من الابتعاد، وأن نُضَيِّقَ الشُقّةَ مع الصديق لا أن نُوَسِّعَها.. ولذلك أيضاً، نعلم علم اليقين، أنّ اصطناع أي خلافٍ أو الدخول في أي مهاترةٍ مع أي مُعارضٍ للنظام الجائر، سيصبّ حتماً في مصلحة ذلك النظام، وسيمدّ في عمره، وسيؤخّر يوم انعتاق شعبنا الحرّ الكريم.. لأننا أصحاب قضية، تجري في دمائنا وتتدفّق في شراييننا.. فلينظر حفّارو الأخاديد في أي موقعٍ يقفون، وإلى أي جدارٍ يستندون!..

إننا حين نحترم عقول الآخرين، ونقدّر مداركهم، ونتفهّم رؤاهم ووجهات نظرهم، لا نفعل ذلك إلا انطلاقاً من مبادئنا التي نستقيها من إسلامنا العظيم، الذي يعتبر الحكمة والموعظة الحسنة أهم ركنٍ من أركان دعوتنا ووسيلة تعاملنا مع الآخر.. لكننا في نفس الوقت، لا نقبل أن يتقوّل علينا القوّالون و(المقاولون)، وأن يتّخذَنا بعضُ الناس هدفاً لمعاركه، فيتناسى أنّ نظام البطش والباطل ما يزال قائماً، وأنّ الذين يخصّهم (هذا البعضُ) بالافتراء والتزوير واللعب والتلاعب، هم الذين ما يزالون واقفين شامخين بوجه الظالمين، لم يتعبوا، ولم يترجّلوا منذ عشرات السنين، لأنّ صراعنا مع الظلم والباطل ليس حرباً شخصية، ولا سجالاً حزبياً، ولا اصطراعاً على كرسيّ حُكم.. فصراعنا حضاري عامّ في مقامه الأول، بأبعاده الشرعية والحضارية والأخلاقية، ليست مواجهتنا مع النظام المستبدّ إلا بُعداً من أبعاده!..

إننا نعتقد أنّ كثرة الجدال العقيم دليل على نضوب العلم وضيق الأفق، وأنّ الخُلُق الحسن دلالة على إنسانية الإنسان، وأنّ كظم الغيظ دليل على رجولة الرجال، وأنّ الصبر عند الغضب والعفو عند الإساءة رقيّ أخلاقيّ، وأنّ لغو الحديث هاوية لصاحبه، وأنّ الثرثرة الفارغة دليل ضعف، وأنّ مَقتل الرجال كائن في التطاول على كرام الناس وكبرائهم وشرفائهم، وأنّ الحق لا تنتزعه حماقة أو سفاهة أو سوء أدبٍ أو قلة عقل، وأنّ المَقتلة كلها تكمن في الاشتباك مع صفيق الوجه أو شرس الطباع، من الذين أعماهم الغرور والزيف، فلا هم يُقَدّرون مقامات الناس، ولا هم يلتزمون بمكارم المروءة، بل يصرخون وحسب، فيملؤون الفضاءات بصراخ النـزِق الجَهول!..

إننا أصحاب قضيةٍ عظيمة، لا وقت لدينا للصغائر والصِغار والمزاودين مهما تكاثروا، وإننا دعاة منهجٍ إسلاميٍ حضاريّ، تصغر أمامه مناهج الشتّامين المتسقّطين، ويتقزّم في حضرته المتطاولون.. فمحاولات النيل منا ومن رجالنا، على رأسهم فضيلة المراقب العام، تجعلنا أرسخ اقتناعاً، بأنّ طريق الحرية محفوف بالشوك والمكاره.. وكذلك بالمتساقطين الأفّاكين، من الذين لا يحترمون عقولهم، ولا عقول الناس أيضاً!..

(.. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال).. (الرعد: من الآية17).

              

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام