الشهيد سليمان خاطر
وضحايا الحكم البوليسي
أ.د/
جابر قميحةيقفز إلى ذهني بعض الكلمات التى كتبتها في ظلال الحكم الكئيب الذي نعيشه : ففي سلسلة من القصائد القصيرة التى يجمعها عنوان واحد هو " حدَثَ في جمهوريةِ ظلمِسْتَان " ... كتبت :
اسم الدولة : ظلمُستانْ
حاكمها الأعلى : بهمان
هو الدستورُ
هو القانونُ
هو السلطانْ
وشعارالدولة : مشنقةٌ
تتدلى من خلف القضبانُ
وسجونٌ سودُ الجدرانْ
الناسُ جياعْ
والفقرُ الضاري في كل مكانْ
ونيوبُ الأمراض الشتَّى
تنهش نهشا في الأبدانْ
* * *
وتحت عنوان : " أنا.. وولدي " ... كتبت :
يسألني ولدي في استغرابْ !
يا أبتي :
هل للحائطِ روحً وكيانْ ؟
فأجبتُ الولدَ المأفونْ
« أغبيّ أنتَ؟
أبِنْ » فأبانْ !
« يا أبتي: وجهتُ سؤالا للأستاذْ:
هل من حقِّ المصريِّ حياةُ العزةِ والحريةْ؟ »
فأجابَ بوجهٍ مُصْفَرٍّ مرعوشْ :
« اجلسْ يا ولدي. إن الحيطانَ لها آذانْ ».
* * *
ولا عجب فنحن نعيش عصر " الدولة البوليسية " ... دولة يكون للسلطة التنفيذية فيها المقام الأول. وإلا فما معنى أن يصدر القضاء حكما بالبراءة ، ثم يصدر قرار من وزير الداخلية باعتقال البريء عملا بقانون الطواريء . حدث ذلك عشرات المرات ، وما زال يحدث ، مما يفقد المواطنين الشعور بالأمن والطمأنينة ، وقد يدفعهم إلى فقد الولاء لمصر " المخروسة " .
وهناك ما هو أنكى وأمرُّ : وهو تعذيب المواطنين إلى الموت ، وبعد ذلك هناك متسع لرجال الأمن في ادعاء أن السجين مات منتحرا . وهو في الواقع مات " منحورا " ، لا منتحرا . وقد يكون القتل بالحرمان من الدواء الضروري إلى أن يقضي نحبه كما حدث للمهندس أكرم زهيري . والمهندس أكرم كان أحد ناشطي الإخوان المسلمين بمدينة الإسكندرية، وهو يبلغ من العمر قرابة 40 سنة. قبض عليه –ظلما وعدوانا- ضمن 58 من الإخوان يوم 15/5/2004. وبسبب التعذيب، وتركه بلا دواء ولا علاج قرابة عشرة أيام وهو المريض بالسكر الشديد، لقي ربه شهيدا يوم الأربعاء: 9/6/2004. وترك وراءه زوجة، وثلاثة أبناء .
* * *
ولا ننسى في هذا السياق مأساة " فارس بركات" وهو ضحية جهاز أمن الدولة بدمنهور الذي تم إلقاؤه من شرفة الدور الرابع بعقار بشارع الموازين بمدينة دمنهور بواسطة المخبر السري جمال طايع بناءً على تعليمات الرائد ناجي الجمال الضابط بمباحث أمن الدولة بدمنهور؛ وذلك أثناء حملة الاعتقالات التي طالت 24 شخصًا ينتمون لجماعة الإخوان .
ومن الضحايا الشهيد كال السنانيري :
وقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده هذه الأهوال التي تفتق زبانية التعذيب في إلحاقها به.. ففاضت روحه الطاهرة في (10 من المحرم1402 = 8 من نوفمبر1981م). فأشاع الجلادون أنه قد انتحر بأن ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة، وصار يجذب نفسه حتى مات، وفى الصباح اكتشف السجَّان الجثة، وجاء الطبيب الشرعي، وعاينها وأثبت سبب الوفاة. ولم يصدق أحد هذه القصة الملفقة، … فتاريخ السجون المصرية في عهد الثورة مليء بمثل هذه المآسي، وخبرة رجالها في اغتيال المعتقلين العزَّل أمر يعرفه الناس جميعًا، وعلى رأس هؤلاء من يلقب بالخبير الأمني ، وهو في واقعه سفاح ، وخبير في التعذيب والآغتيال .
* * *
ويجب ألا ننسى الشهيد سليمان خاطر :
وسليمان
محمد عبد الحميد خاطر من مواليد قرية أكياد في محافظة
الشرقية بجمهورية
مصر
العربية ، وهو أخر خمسة أبناء في أسرة بسيطة
أنجبت ولدين وبنتين قبل سليمان.
وفي
طفولته عاين سليمان آثار قصف
الصهاينة لمدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة في 8 ابريل سنة
1970.
إذ
قام جبناء سلاح الجو الصهيوني ، بنسف المدرسة مخلفين 30 شهيدا من الأطفال. و ربما
كانت هذه المشاهد من أهم
ما
أثر في بطلنا الذي كان حينها طفلا في التاسعة من عمره .
وكان من الصعب على أحد أن يعرفه لولا ما حدث في أخر أيام
خدمته في سيناء
في
يوم 5 أكتوبر عام 1985م وأثناء قيام سليمان خاطر
بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة بجنوب سيناء فوجئ
بمجموعة من السياح الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة
حراسته ، فحاول منعهم وأخبرهم بالانجليزية أن هذه المنطقة ممنوع العبور فيها قائلا:
stop no
.passing
إلا
انهم لم يلتزموا بالتعليمات ، وواصلوا سيرهم بجوار
نقطة الحراسة التي توجد بها أجهزة
وأسلحة خاصة غير مسموح لأي إنسان الاطلاع
عليها ، فما كان منه إلا أن أطلق عليهم الرصاص ... كانت
الشمس
قد غربت
وأصبح من الصعب عليه معرفة سبب صعود هؤلاء الأجانب وعددهم 12 شخصا الهضبة.
محاكمة سليمان
سلم
سليمان خاطر نفسه بعد الحادث ،
وبدلا من أن يصدر قرار بمكافأته علي قيامه بعمله ، صدر قرار
جمهوري مستغلا
سلطاته بموجب قانون الطوارئ بتحويل الشاب إلي محاكمة عسكرية ، بدلا من أن
يخضع على أكثر تقدير لمحاكمة مدنية .
مصر يا أمي
من
السجن يعلمنا خاطر معني مصر هي أمي.
في
رسالة من السجن كتب أنه عندما سأله أحد السجناء "بتفكر في إيه"؟
قال
"أفكر
في مصر أمي، أتصور أنها امرأة طيبة مثل أمي تتعب وتعمل مثلها، وأقولها : يا أمي
أنا
واحد
من
أبنائك المخلصين ..من ترابك ..ودمي من نيلك.
وحين ابكي
أتصورها تجلس بجانبي ، مثل أمي في البيت كانت في كل أجازة تأخذ راسي في صدرها
الحنون، وتقولي : ما تبكيش يا سليمان أنت فعلت كل ما كنت أن انتظر منك يا
بني
".
وفي
المحكمة قال سليمان خاطر "أنا لا اخشي الموت ولا أرهبه ..إنه
قضاء الله وقدره، لكنني أخشي أن يكون بالحكم الذي سوف يصدر ضدي أثار سيئة
علي
زملائي ، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم"
وعندما
صدر الحكم
بحبسه 25 عاما من الأشغال الشاقة المؤبدة قال ."إن هذا الحكم، هو حكم ضد
مصر، لأن جنديا مصريا أدى واجبه" .. ثم التفت إلى الجنود الذين يحرسونه قائلا
"روحوا
واحرسوا
سينا ... سليمان مش عايز حراسة "
لغز انتحاره
قال
تقرير الطب الشرعي أنه انتحر، وقال أخوه : لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدي إيمانه
وتدينه، إنه لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه ، لقد قتلوه في سجنه.
وقالت الصحف
القومية المصرية : انتحر سليمان خاطر بأن شنق نفسه على نافذة ترتفع عن الأرض بثلاثة
أمتار .
ويقول
من شاهدوا الجثة : إن الانتحار ليس هو الاحتمال الوحيد ، وأن
الجثة كان بها أثار خنق بآلة تشبه السلك الرفيع علي الرقبة ، وكدمات علي الساق تشبه
أثار جرجرة أو ضرب
.
وقال
البيان الرسمي : إن الانتحار تم بمشمع الفراش ، ثم
قالت مجلة المصور: إن الانتحار تم بملاءة السرير ، وقال الطب الشرعي : إن الانتحار
تم
بقطعة قماش مما تستعمله الصاعقة.
وأمام
كل ما قيل، تقدمت أسرته بطلب إعادة
تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة سبب الوفاة، وتم رفض الطلب ، مما زاد
الشكوك
،
وأصبح القتل سيناريو اقرب من الانتحار .
رحم
الله الشهيد سليمان خاطر ، ورفع
الله قدره في الآخرة كما أعلى ذكره في الدنيا.
* * *
ومن حقنا أن نعيش دقائق مع ما صرح به الرئيس مبارك في حديث طويل جدا لمجلة المصور المصرية بتاريخ السبت ، يناير 18 / 1 / 1986 : تناول فيه مأساة سليمان خاطر . ومن كلماته :
** لقد انتحر سليمان خاطر برغم طيب معاملته داخل السجن ؛ لأن نفسيته الهشة وعمره الصغير وتجربته المحدودة لم تتحمل ما رأى .
** كنت أتمني حكم البراءة لسليمان خاطر كما كان يتمناها الآخرون . ولكن الذي حدث أن سليمان خاطر قتل أطفالا ونساء ، والمحكمة أدانت الحادث وأصدرت الحكم ، ولم نتدخل من قريب أو بعيد ، ولم تكن هناك ضغوط من أية جهة ، ونحن لا نقبل ضغوطا من أية جهة .. نرفض الضغوط أيا كان مصدرها . كيف لي أن أستمر في الحكم يوما واحد؟ ا
** كان لابد من محاكمته؛ لأن الحادث وقع علي الأرض المصرية ، ولأن
هناك ضحايا ، ولأن سيادة الدولة تعني سيادة قانونها ، ولأن عدم محاكمته يعني
أن ندخل في عمليات انتقامية ، وأن نقدم المبرر لكي يفعل نفس الشيء جندي إسرائيلي في موقعه علي الجانب الآخر من الحدود . عندما جرت محاكمته سارعوا إلي التشهير الكاذب بأن هناك ضغطا علي مصر ، وأن إسرائيل ربطت بين قضية طابا وضرورة محاكمة سليمان خاطر.
** إن أحسست أنني سوف أمتثل لأي ضغوط من أي نوع ، وإذا كان امتثالي للضغوط أمرا مستحيلا والجميع يعرف ذلك ، فهل يمكن أن تكون المحكمة نفسها وقد وقعت تحت ضغوط معينة ؟! هذا ما يردده بعض من صفوف المعارضة. ولكنني اقول : إن شيئا من ذلك لم يحدث . ولو أني استشعرت ذلك لغيرت تشكيل المحكمة علي الفور ، لكن ما أسهل أن نشكك في كل شيء . وما أسهل أن يعبثوا بكل قيمة ؛لأن المقصود فقط الاثارة والتهييج !
* * *
والآن من حقنا أن نسأل القاريء أن يجيبنا في ضوء ما ذكرنا ، وفي جو هذا الحكم الاستبدادي البوليسي الغاشم : ما رأيك فيما حدث للذين ذكرناهم آنفا : هل انتحروا أم نُحِروا ؟ وتذكر قوله تعالى " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " الشعراء (227) .
وتذكر قوله تعالى " فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ " الروم (57) .