على أعتاب السلاطين
على أعتاب السلاطين
حسام خليل
بعد أن كتبت مقالي الأخير عن الجدار الفولاذي تحت عنوان (مصر فوق الجميع) كنت بصدد كتابة مقال آخر عن الجار الفولاذي من منظور آخر وبالرغم من أنني قد أعددت عناصر المقال ورسمت خريطته واكتملت صورته إلا أنني وجدت أصابعي لا تطاوعني لإكمال المقال وسألت نفسي لماذا أكتب المقالات وعلى حين غرة قفزت إلى ذهني قضية أخرى ظلت تلح إلحاحا شديدا جعلني أتحول عن كتابة ذلك المقال الذي سميته (من وراء جدر) إلى مقالي هذا (على أعتاب السلاطين)
ولأن خير من يتحدث عن خبايا النفوس هو القرآن الكريم لأنه كلام الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) سأكثر من الاستشهاد بآيات القرآن الكريم موضحا بعض المعاني التي قد تخفى على الكثير وإن كانت معلومة فللتذكير (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)
لقد رسم الله عز وجل للدعاة طريقا مستقيما في التعامل مع الظالمين طريقا وسطا لا طغيان فيه ولا ركون فلا نجاوز الحد في جهادنا معهم وفي نفس الوت لا نركن إليهم ولا نهادنهم ولا نتنازل عن مبادئنا ولا نتهاون في الدعوة إلى الإسلام الشامل فلا يدفعنا الركون إلى تجزئة الإسلام (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)
وأما عن الطغيان ومجاوزة الحد في جهادنا مع الظالمين أكتفي هنا بالاستشهاد بقول الأستاذ محمد مهدي عاكف في رسالته : أدركوا سفينة الإنسانية ، حيث يقول فضيلته ( ولم نُؤْمَرُ في الإسلام بالدَّعوة إلى الله وشريعته بالعُنف والقوَّة والتَّرهيب؛ ليس لأنَّنا أًمرنا بالدَّعوة إلى سبيل ربِّنا بالحكمة والموعظة الحسنة فحسب، وليس لأنَّ الإسلام دينٌ سمحٌ فقط، ولكن أيضًا احترامًا لقَدْرِ الإنسان، وعقله، وهذا الاحترام، وهذه المساواة بين البشر جميعًا، هي التي جعلت من ربِّ العزَّةِ سبحانه يُؤكِّد على مُباشرة العلاقة ما بينه وبين عبده، فلا وساطات ولا حواجزَ بين الله والإنسان. )
ونحن إذ نجاهد الظالمين لا نجاهدهم وفق الهوى أو استجابة لانفعالات نفسية تدفع للثأر والانتقام إنما نجاهدهم وفق منهج الله وطبقا لما رسمه لنا القرآن الكريم (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) وهذا هو سر صبر الإخوان المسلمين على ما يحدث لهم من اعتقالات ومصادرات فبالرغم من كل الأذى الذي يلحق بهم تراهم يدعون إلى الله ويجاهدون الظالمين بالطرق السلمية المشروعة استجابة لتوجيهات رب العالمين
وبفضل صبر الإخوان المسلمين على ما يحدث لهم أدرك الظالمون مؤخرا أن هذه الاعتقالات وتلك المصادرات لا تؤتي ثمارها بل تزيد من تعاطف الناس مع الإخوان المسلمين الصابرين المحتسبين لذا لجأ الظالمون إلى أسلوب آخر في ظلمهم لدعوة الإخوان حين ضخموا بإعلامهم ذلك الخلاف الذي لم يفسد للود قضية بين أعضاء مكتب الإرشاد
وأما عن الركون إلى الظالمين فتتعدد أسبابه فقد يدفع عدم الرغبة في التضحية لدين الله عز وجل بعض الدعاة إلى تصالح مع الظالمين على أساس الدعوة إلى إسلام ناقص يغض الطرف عن القضايا التي تمس مصالح الظالمين كالحاكمية وموالاة الكافرين ، فترى الواحد منهم يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا سمع أن بعض الدعاة أباح السماع إلى بعض الأغاني ، وتسمع خطبه الرنانة تملأ الآفاق حول هذا الموضوع ، ولكن إذا قيل له أن الحكومة تبني جدارا فولاذيا بين مصر وغزة لتشديد الحصار على إخواننا المسلمين لتحقيق مصالح اليهود في القضاء على المقاومة وإضعاف شوكتها ، لا يتحرك له ساكن وكأن الأمر لايعنيه وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في مكة بقوله يا أهل قريش إنما نحن قوم جئنا لنتعبد ونقيم الليل ونهتم بالعلم ولا شأن لنا بما تعملون ، ولو فهمت قريش من محمد صلى الله عليه وسلم هذا المنطق لبنت له المساجد في كل مكان ولكنهم عرب يفهمون معنى الكلام ويدركون ما وراء كلمة ، لا إله إلا الله ، وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعرض اسلاما مجزوءا إيثارا للسلامة
وثمة سبب آخر يدفع إلى الركون إلى الذين ظلموا ألا وهو الانحراف عن الغاية والبحث عن الشهرة خاصة لو كان الداعي إلى الله صاحب هواية ما فقد يسخر دعوته لخدمة هوايته بدلا من العكس فلكي يصبح شاعرا مشهورا أو كاتبا مرموقا يتنازل عن مبادئه على أعتاب السلاطين فيكف عن كشف الفساد بل ربما صير نفسه بوقا لتلميع الفاسدين وتحسين صورة المفسدين وتلك هي الطامة الكبرى وهاوية الهواية (أرأيت من اتخذ الهه هواه )
ولو علم الباحثون عن الشهرة القيمة العظمى لتقبل الله العمل لاستحقروا كل ما من شأنه أن يحبط العمل ، فقبول العمل من الله نعمة جليلة وجائزة عظيمة لا يدركها إلا المخلصون والله لا يقبل من العمل إلا ما كان (محررا من كل شرك أو قيد أو تبعية أو جهة إلا الله سبحانه وتعالى وحده ولا يتحرر الانسن وهو يدين لأحد غير الله بشئ ما في ذات نفسه أو في قيمه أو قوانينه أو شرائعه ) ولذلك نالت امرأة عمران هذه الجائزة القيمة من الله تبارك وتعالى حينما نذرت له ما في بطنها محررا ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فلما كان هذا العمل خالصا محررا لله رب العالمين كانت الجائزة الكبرى (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا) وعلى هذا نقول (إن كل عمل فيه إخلاص لله يتقبله الله تعالى وينبته نباتا حسنا ويجعل له من يكفله ويرعاه حتى يحقق وظيفته وهدفه .
فالعمل الصالح لا بد أن يكون مستقيما كما أمر الله بلا طغيان ولا ركون ولا بد أيضا أن يكون خالصا لوجه الله محررا من كل غرض أو تبعية (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا)