الباب المغلق
الباب المغلق
أحمد الخميسي . كاتب مصري
باب موارب لمقاومة العدوان كتب يوسف إدريس حكايته في مسرحيته " اللحظة الحرجة " عام 1958 ، الثاني باب مفتوح لتطور المرأة كتبت لطيفة الزيات حكايته في روايتها " الباب المفتوح" عام 1960 ، مع الأبواب التي فتحتها ثورة يوليو بقوة للتصنيع وتطوير الاقتصاد وبناء السد العالي وتحرير المرأة وتعميق الهوية الوطنية التي تجمع أبناء الأمة كافة وتعليم جيل بأكمله مجانا سيكون من بين أبنائه من ينقض على الثورة ليهيل التراب على مبدأ التحرر ، باذلا جهده ليس لمواجهة سنوات الظلام الطويلة في تاريخنا الطويل – فتلك هي القانون الطبيعي عندهم – لكن لتلطيخ لحظات النور القليلة، وهم لا يستخلصون من تراب الثورة انتفاضة الروح وكرامتها ، لكنهم يستخلصون قطع الوحل من الضوء ، ويبرزونها ليقولوا لنا إن الثورة ، وكل ثورة خطأ لا يفضي لشيء ، وأن الرضوخ والمذلة هما طريق التطور، وهي دعوة ترددت بعد كل ثورة . في خضم سنوات ثورة يوليو لم يكن أحد ليفكر ، أو يخطر له أصلا أن يسأل الآخر : الأخ مسلم بإذن الله ولا مسيحي ؟. فقد فتحت ثورة يوليو أبوابا كثيرة أمام التطور منها الباب الذي تعمق عبره الشعور بالهوية الوطنية . الآن سأصف لكم بابا مغلقا ، لم يكتب حكايته أحد، لأنها حكاية انحدار الشعور الوطني وتفتته مثل بقايا خبز على سطح منضدة . الباب المغلق باب شقة صغيرة في الطابق الأول بحي الظاهر يسكنها الأستاذ موريس محاسب في أحد البنوك وزوجته مدام جانيت التي تعمل في مدرسة لغات. الإثنان تجاوزا سن الإنجاب دون أن يكون لهما ولد، لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء، في العمارة بواب من أسوان يسكن أسفل السلالم ، توفيت زوجته وتركت له ابنة وحيدة صغيرة هي هدى ، التي كانت تشتري للسكان وخاصة للأستاذ موريس حاجاته من المحلات القريبة . موريس وجانيت أحسا – وهما المحرومين من الأولاد - بعطف على هدى التي لا تطلب شيئا وتبتسم منبهرة من أي شيء تتلقاه. هدى كانت تجلس في ساعات العصر في صالة شقة الأستاذ موريس على حافة فوتيه تتفرج بالتلفزيون،وتأكل من الموجود، وأحيانا تبيت على أرض الصالة إذا عرض فيلم عربي طويل أو مسرحية . ولم ير أبوها في ذلك مشكلة ، فالشقة في الطابق الأول بجوار السلالم ، والأستاذ موريس رجل طيب وكبير في السن ، والبنت طفلة صغيرة في السابعة . وذات يوم، يموت أبو هدى في الليل على فرشته،وحده، بعد رجوعه من المستشفى بساعتين. وينتبه سكان العمارة فجأة إلي أنهم لا يعرفون للرجل لا بلدة ولا أقارب ولا عناوين سوى ذلك الجحر المعتم تحت السلم، بل ولا يعرفون حتى اسمه بالكامل ! ويتولى أبناء الحلال دفنه ، وتبقى هدى في صالة الشقة تبكى بعين وتتابع لقطات من الأفلام بعين ، ويطيب الأستاذ موريس ومدام جانيت خاطرها بالكلمات وقطع الحلوى . يوم بعد يوم، أصبحت إقامة هدى عند الأستاذ موريس أمرا مسلما به تقريبا. وشيئا فشيئا يتنقل الكلام في الشارع من محل المكوجي ، إلي محل البقال ، ومن صاحب البقالة إلي دكان العصير، ثم إلي المقهى ، وإلي البيوت وسكانها : الأستاذ موريس واخد البنت الصغيرة وح يخليها نصرانية ! ح يعلمها على طريقتهم ! صيدلي الأجزخانة المجاورة يناول الأستاذ موريس علبة دواء ذات يوم ، ويغمزه بالمرة بسؤال بريء من الظاهر : أخبار البت هدى إيه يا أستاذ موريس؟ مش الحمد لله بخير؟ . ويدرك موريس المقصود ، وينصحه زميل له بأن يطرد البنت لكي لا يصبح بقاؤها عنده مثار مشكلة في الشارع ، والحي ، وربما أبعد من ذلك النطاق. الأستاذ موريس ضميره يعذبه ، كيف يطرد طفلة إلي الشارع وهي بلا أهل؟ ولا سند؟ ولا أقارب؟ . لكن النظرات التي تلاحقه على امتداد الشارع تجبره على اتخاذ قراره، رغم دموع زوجته، لكن ماذا يقول للبنت؟ . يناديها ويشرح لها أنها لا تستطيع أكثر من ذلك المعيشة عنده وأن عليها أن تغادر الشقة، البنت تبكي ولا تفهم، مرة وأخرى ثم يجذبها من ذراعها بالقوة ويضعها خارج باب الشقة . البنت ملتصقة بالباب المغلق تخمشه كالقطة تبكي : أنا زعلتك في حاجة ياعم موريس ؟ والنبي دخلني . وتفر دموع عم موريس وراء الباب المغلق يقول : ما أقدرش يا بنتي .. والعدرا ما أقدر. والنبي ، والعدرا ، والنبي ، والباب مغلق ، وخلف كل ناحية شخص وحيد .
ترى كم من باب كان مفتوحا ثم أغلق ؟