الشباب ...

فداء الدين السيد عيسى

الشباب ...

بين التهميش والتطنيش !

فداء الدين السيد عيسى/السويد

[email protected]

قابلني أحد الأحباب ذات مرة بعد أداء صلاة العشاء ليفتح معي إحدى المواضيع التي تخص العمل الإسلامي والسياسة , وقد كان فارق السن بيننا مميزا ً إذ يكبرني بسنين , ولكن ذلك لم يمنعني أبدا ً من إبداء آرائي ووجهات نظري التي كونتها وربيتها كالمهرة في صندوق فكريَ المتواضع و التي كانت تختلف عن أرائه تماما ً , مما دعاه بعد نهاية النقاش أن ينطق بكلمات بتّ أحفظهن عن ظهر قلب من كثرة ما سمعتهن من أفواه الشيوخ والكبار : يا بني إنك شاب وما زلت في مقتبل العمر وتتملكك العاطفة والحماس والإندفاع , ولكن عندما تنضج وتكبر ستغير آرائك !

وهناك وتحت مصطلح شاب أضع ثمانية عشر الف خط أحمر وأصفر وأخضر , لأنني بصراحة لي نظرتي الخاصة في هذا الموضوع بالذات , ليس لأني شاب وحسب , بل لأن التاريخ والواقع أثبتا أن مرحلة الشباب ليست مجرد مرحلة عمرية فقط وإنما هي أمر نسبي , وإذا قبلنا بأن المرحلة العمرية للشباب هي مرحلة زمنية محددة ينتهي فيها الشاب من مرحلة الطفولة والمراهقة ليدخل إلى عالم زمني آخر ومن بعده- أي بعد مرحلة الشباب – ينتقل إلى مرحلة خريف العمر ومن قبلها مرحلة أواسط العمر , إذا قبلنا بهذا وذاك فإننا متفقون جميعنا على أنها مجرد مرحلة عمرية مُسير فيها الإنسان لا مُخير وليس في يد أي واحد منا تغييرها ما دامت سنة الله قائمة .

ما المشكلة إذن ؟

إنني أتحدث عن مرحلة تكوين الفكر في المرحلة الشبابية الزمنية تلك , هذه المرحلة التكوينية هي مرحلة نسبية بحتة تتحكم فيها البيئة والمجتمع ومناهج التعليم والتربية والقدرة الفطرية على الفهم والاحساس وتبادل الفكر والدليل على ما أقول أنك ترى رجلا طار غراب رأسه وأحدودبت عظيمات ظهره , وتساقطت أسنانه , وإذا ما تكلم أو تفوه ببنت شفه بدت على ملامحه معالم الطفولية و *الولدنة* , وترى شابا ً صغيرا ً يافعا ً لا تدل تصرفاته إلا على عقل راجح وفكر وثاب وموهبة عالية . ولذلك فإننا لا بد أن نتفق إذا ً على أننا من الممكن أن نرى جهابذة عظاما ً لم يكملوا العشرين وفي الطرف الآخر نرى آلافا ً من كبار السن الذين لم يغيروا في العالم حتى مقدار شعرة.

العجيب في الأمر أنك اذا ما اطلعت على كتابات منظري العمل الإسلامي , والمشايخ والمفكرين , والسياسيين والثوريين , وأصحاب اي فكر وايديولجية وجدتهم يُشيدون بالشباب وبقوتهم وفطنتهم وحماسهم واتقاد شعلة ذكائهم , وأنهم درع الأمة وحماتها من كل جبار عنيد , وأنهم أصحاب فداء ونداء وحداء , وإذا ما حاول أحد هؤلاء الشباب ممن اتصفوا بتلك الصفات الجميلة السابقة ولو مجرد محاولة: نقد فكرة , أو النقاش في وجهات النظر , أو الانتصار لقضية معينة أو الدفاع عن جزء معين اتهموا مباشرة ومن نفس الكتاب والمنظرين والسياسيين بالحماس والعنف وقلة الزاد والتسرع والإندفاع والجهل وعدم النضوج الفكري والعلمي , فبالله عليكم أنتعامل مع الشباب بوجهين ونكيل لهم بمكيالين فنستغل قدراتهم وطاقاتهم عند الحاجة إليهم ثم إذا ما استغلوا هم أنفسهم ما رزقهم الله من قدرات وطاقات وضعنا من بين أرجلهم العراقيل وحطمنا كل ذرة موهبة في داخلهم ؟!

من هم الشباب إن لم يكونوا أصحاب الصلابة والعزيمة وحماسة الروح , تنقل معي في صفحات التاريخ واقرأ عن سيد الخلق يوم بعث , ألم يكن شابا ً في أخصب فترة شباب يمر بها الإنسان , وها هو أبو بكر يسلم وهو في السابعة والثلاثين تكاد زهور الشباب تتفتق من بين خديه  وذاك عمر أسلم وهو في الواحدة والثلاثين تشرق منه نسمات القوة وعنفوان الأمل , وعثمان في الخامسة والثلاثين ليكون وسام شرف شبابي من الطراز الأول. تعال معي لتقرأ قول الحبيب المصطفى فيقول :

(( أوصيكم بالشباب خيرا ً فإنهم أرق أفئدة , ألا وإن الله بعثني بالحنيفية السمحة فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ )) ولعمري ما سعمت لا اجمل ولا احلى من وصف رسول الله للشباب صلى الله عليه وعلى آله وصحبة وسلم . تعال معي لتتعرف على المرحلة العمرية الفردوسية في الجنة لتعلم بانهم الشباب : (( أهل الجنة شباب مرد كحل لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم )) . ويضرب لنا رب العزة مثلا رائعا ً عظيما ً من امثلة الشباب المؤمن السوي القويم فيقول : (( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)) , ويضرب أمثلة الشباب العفيف فيقول : ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) , إنهم أصحاب تضحية وفداء وذلة لله : (( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى )) فماذا كان رد الشاب المؤمن الصادق : (( قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)) .

قل لي بالله عليك كم كان عمر الشافعي لما بزغ نجمه , وما سن عمر بن عبد العزيز لما علا عطاءه , وكم مضى لحسن البنا من العمر لما أشعل مصباح الصحوة , وكم كان عمر إبراهيم لما وقف في وجه الوثنية والكفر وحده وكم كان عمر الزبيري لما ضحى, وما سن إقبال لما أبدع , ومتى أزهر القرضاوي ,وفي أي سن تألق الطنطاوي, وكم كان عمر الإمام ابن حنبل لما ثبت على الحق, امثلة يحتار الإنسان أيذكرها أم يتركها لكثرتها ووفرتها , وإني على علم كبير بعلم القارئ الكريم بها , ولكن لكأننا نمر عليها كما يمر المسافرون على أي بلد مرور الكرام حتى كانها أصبحت كزمار الحي الذي ما عاد يُطرب. لكأنني أراها مجرد مواد تظهر على السطح حين نشاء ثم إذا ما انتهت مهمتها أطفأنا عليها الأنوار وأعدناها إلى الادراج وأقفلنا عليها بإحكام .

يتهمونكم – معاشر الشباب – بالحماس , فقولوا لي بربكم ما هو الحماس , أن أكون ذا أمل وثاب وصلابة وحمية لربي ولديني ولكتابي ولنبيي , أيطلب منكم أن تجلسوا وتضعوا رجلكم اليمنى على اليسرى دون تحرك متزن , واندفاع حكيم , وحماس متقد بنور الله , فإن فعلتم ذلك فثقوا بانكم ما زلتم في قفص الإتهام لأنكم إذ ذاك تخليتم عن دينكم وتقاعستم عن نصرة دينكم وتباطئتم عن رفع راية الإسلام عاليا ... حيرتكم أليس كذلك ؟؟

إن سجن اليأس أضحى عظيما ً وكلما كلمت أوناقشت أحدهم أُبشره بانتشار الصحوة , ورجوع الشباب , ونجاحات الإسلاميين على النطاق السياسي والاقتصادي والتعليمي فاجئني بسلبية متقعة , وردود مؤلمة , وانا أبصره يكبرني ويكثرني بالخبرة والعلم , فتدور في رأسي الأفكار ,وتختلف في فؤادي المشاعر , وتخالطني الأحزان ... أنتصر ويهزمونني , أشعل في قلبي نار العزة فيطفئونها ببرود ردودهم , أعلوا بروح الفخر فيسقطونني بـ - اصمت ما زلت شابا ً – وعلى وجه كل واحد منهم علامات الحزن المتشح بالركون .

نرى الكثير من الشباب يُضيعون أحلى أيامهم بذبول زهرات عمرهم وانكماش ايمانهم , وقله زادهم , وقبح فعالهم , وسواد فكرهم , فنسرع برفع الأكف سائلين الله لهم الهداية والإنابة , ثم إذا ما رزقنا الله شبابا ً كاللؤلو المكنون , قوامين صوامين , طلاب علم , وأصحاب عمل وحركة وحماس : رددناهم وأغلقنا في وجوههم الأبواب فلا هيت لك ولا هم يحزنون . فإن كنا حقا ً – معاشر الكبار – أصحاب إنصاف ومساواة وتنمية وتربية وموضوعية ونزاهة وعلمية فلنضم ولنحضن هذا الشباب المؤمن. لنعترف بهم بعمق بلا تهميش ولا سطحية فنكسب بذلك ودهم ونطفئ جمرة حماسهم المتقد لنجعلها مشعل هداية متزن . لنُحصنهم بحكمتكم أيها الشيوخ الأفاضل والكبار الاحباب , إن الشباب  أصحاب فضول وحب اطلاع برئ فأدفقوا عليهم من حكيم زلالكم . أطِروهم وعَبدوا لهم الطريق واتركوهم ليقولوا ما عندهم , ولا تهدروا أفكارهم بالسطحية والتهميش , بل بالقدوة والنقاش والحوار . حملوهم المسؤوليات , واحتضنوهم ولا تنفروهم , فإن لم تفعلوا ذلك فلا تنتظروا إلا أن يبحثوا عن ملاجئ ومغارات يشعلون فيها جذوة طاقاتهم المتفجرة , ثقوا بهم ولا تحكموا عليهم مسبقا فلو علمتم قدراتهم وذكائهم وفطنتهم لفرحتم كثيرا واطمأننتم أكثر فهم كنز مغمور يحتاج إلى تنقيب وبحث مستمر .قوِموهم بالتي هي أحسن وابنوا معهم - وأقول معهم - الذات , علموهم أن يحيوا الحياة قبل أن تعلموهم كيف هو الموت ... بلا توبيخ ولا قرع ولا صياح ولا عناد . نردد دائما ً في أدبياتنا ان الاستبداد رأس كل مشكلة , فبالله عليكم لا تطلبوا وتطالبوا باستإصاله عند الغير , ثم تطبقوه بحذافيره فيما بيننا .

أخيرا ً أسأل الله الكريم المنان أن يحميَ شيوخنا الأفاضل وكبارنا الأسياد أصحاب الفضل بعد الله , هم تاج رؤوسنا نحمله صباح مساء ونتفاخر به أمام الناس , وما هذه الخلجات إلا مطالب شباب مخلص نقي عفيف أراد أن يفتح لهم الكبار الصدور , وأن يفهم الجميع بم يشعرون وماذا يطلبون . حنانيكم حنانيكم فما هم – الشباب – إلا بضعة منكم فلا تضيعوهم !