مأساة كربلاء.. وتحدّيات الوحدة الإسلامية
د. محمد شندب
عندما انطلق الحسين بن عليّ عليهما السلام من مكة إلى العراق لمواجهة الحاكم الظالم وتصحيح مسار سياسة الأمة، كان يدرك الأهوال التي تنتظره والمخاطر التي يقتحمها. وهكذا تقدم للشهادة مع أبناء أسرته في العاشر من محرم سنة 61م، بعد أن تخلى عنه أنصاره ومؤيدوه في اللحظة الحاسمة. وقد رسم الحسين رضي الله عنه للأمة على مدار الزمن أن تغيير المنكر يحتاج الى التضحية بالأرواح كي ينعم الناس بعز الدنيا وسعادة الآخرة. كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيّد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» رواه البخاري.
إن حركة الحسين لم تكن تمثّل فريقاً أو حزباً أو طائفة بعينها، وإنما كانت تمثّل المعارضة الإسلامية الشاملة الحريصة على أمانة الدين وحمايته من محاولات التسلط والانحراف.
لقد قرر الحسين أن يسير على درب ذات الشوكة التي سلكها السلف الصالح لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض. ها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط شهيداً وهو يؤم المصلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عثمان رضي الله عنه تقتله الفئة الباغية وهو يتلو كتاب الله تعالى، فتسيل دماؤه على المصحف الشريف.
وهذا عليّ رضي الله عنه ينال شرف الشهادة وهو متوجه مع الفجر لأداء صلاة الصبح في المسجد.
وعليّ رضي الله عنه كان أحرص الناس على وحدة صف المسلمين، وكان أحرص الصحابة الكرام على الالتزام بأمر الله تعالى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت أحقيّة الخلافة والإمامة هي مدار النزاع بين المسلمين من أهل الحل والعقد، فإن عليّاً رضي الله عنه حسم الموقف عندما قال: «قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يصلي بالناس وأنا حاضر غير غائب، وصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني. فرضينا لدنيانا ما رضيه الله ورسوله لديننا» السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 177. لقد بايع عليّ أبا بكر وكان يصلي وراءه ويحضر مجلس الشورى، وشهد معه حروب الردة. وقد همّ بقتل ابن سبأ حين بلغه أنه يفضله على أبي بكر وعمر. وعندما سأله ابنه محمد عن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجابه: «أبو بكر ثم عمر».
وبايع عليّ رضي الله عنه عمر بن الخطاب، وكان من أركان دولته. وقد استخلفه على المدينة لما أراد الخروج الى بلاد فارس. وقد زوّج علي رضي الله عنه ابنته «أم كلثوم» لعمر بن الخطاب من أجل توثيق عرى المحبة بينهما. وكان عليّ رضي الله عنه يقول عن أبي بكر وعمر: «فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني» شهيد المحراب لعمر التلمساني ص 194. ولما استشهد عمر جعل عليّاً أحد الستة الذين يتألف منهم مجلس الشورى لتكون الخلافة في أحدهم. ثم بايع عليّ رضي الله عنه عثمان بن عفان، وكان من أهل الشورى عنده، وكان مناصراً له. ويوم اشتد الحصار على عثمان كان الحسن بن علي رضي الله عنهما أشد المدافعين عن عثمان رضي الله عنه. السيوطي - تاريخ الخلفاء ص 177.
وبعد استشهاد عثمان بايع المسلمون عليّاً رضي الله عنه عدا معاوية بن أبي سفيان والي الشام.
لقد تحوّل الصراع السياسي حول منصب الخلافة الى صراع عقائدي أدى الى شرذمة الأمة الإسلامية وانقسامها، مما سمح للقوى الخارجية قديماً وحديثاً بأن تعيث فساداً ودماراً في مقدرات العالم الإسلامي في الشرق والغرب.
لقد اجتاحت الموجات الصليبية في نهاية القرن الخامس الهجري مناطق الشرق الإسلامي وسقطت القدس في عام 492هـ، حين كان الصراع الداخلي على أشدّه بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة. وفي منتصف القرن السابع الهجري اجتاحت جحافل المغول عاصمة الخلافة السياسية وسيطرت على معظم بلدان المشرق الإسلامي بسبب الخلافات المذهبية، ولم يتمكن المسلمون من صدّ العدوان الغربي إلا بعد أن انطلقت المقاومة الإسلامية التي استطاعت أن توحّد العالم الإسلامي تحت راية الجهاد في الداخل وقتال المعتدين في الخارج.
واليوم، يعيش العالم الإسلامي مآسي التمزق والاختلاف. وفي ظل هذا البؤس تمارس القوى الظالمة في الأرض أبشع أنواع العدوان في فلسطين والعراق وأفغانستان، وتقوم بنهب خيرات الأمة وثرواتها النفطية والمعدنية اللازمة لإدارة عجلة الصناعة عندها.
إن مأساة كربلاء اليوم تُهيب بعلماء الأمة ورجالاتها الكبار أن يعودوا الى النبع الصافي وأن يتجاوزوا العقبات من أجل التعاون على السير في الطريق التي رسمها الباري تبارك وتعالى، وسار عليها الرعيل الأول بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندئذ ستشرق شمسنا من جديد، وتنعم البشرية بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.