خياراتنا في الاحتجاج واسعة
فهمي هويدي
هذه مبادرة انتظرناها من الشرق فجاءت من الغرب. إذ أعلن المخرج السينمائى الألمانى ذو الأصل التركى فاتح اكين رفضه الذهاب إلى سويسرا لحضور العرض الأول لأحدث أفلامه، احتجاجا على حظر مآذن المساجد فى سويسرا.
وقال فى خطاب مفتوح أرسله إلى منظمى العرض إنه يعتبر التصويت لصالح الحظر موقفا يمثل انتهاكا لمبادئ حقوق الإنسان، كما يهدر أسس التعايش والتسامح بين أبناء المجتمع الواحد.
ولأن هذه الخطوة جرحت مشاعره كمواطن ألمانى وكابن لأسرة مسلمة، فلم يجد سبيلا للتعبير عن احتجاجه إزاءها سوى مقاطعة عرض فيلمه الكوميدى «مطبخ سول». الذى كان قد فاز بجائزة خاصة فى مهرجان فينسيا السينمائى.
المخرج الشاب المقيم فى هامبورج، والذى حقق نجاحات مشهودة فى عالم السينما الألمانية، عبر عن احتجاجه بسلوك عملى، وأوصل رسالته إلى الرأى العام من خلال خطابه الذى نشرته الصحف الألمانية والتركية،
فى الوقت ذاته، فإن مؤسساتنا الثقافية ورموزها اكتفى بعضها بتنظيم مهرجان الخطابة والتنديد، رغم أننا نملك هامشا واسعا للحركة إذا ما أردنا أن نعبر عن احتجاجنا بصورة عملية.
وهذا الهامش يحتمل مواقف عدة تتراوح بين تعليق بعض الأنشطة المشتركة كحد أدنى وبين المقاطعة وسحب الودائع كحد أقصى.
وفى المرحلة الراهنة فإن تعليق الأنشطة يؤدى الغرض ويوصل رسالة التنبيه للسويسريين، التى تتلخص فى أن مشاعرنا إزاءهم وربما مصالحهم معنا وثيقة الصلة بمدى احترامهم لهوية 400 ألف مسلم الذين يعيشون بينهم.
وهى الرسالة التى يجب أن يسمعها جيرانهم الذين رحبوا بقرار حظر المآذن، فاعتبروه خطوة باتجاه التصدى لخطر أسلمة أوروبا المزعوم، وقد تابعنا ذلك الترحيب فيما نشر عن أصداء الحظر فى هولندا وألمانيا وإيطاليا وفى مختلف دوائر اليمين الأوروبى.
دعانى أيضا إلى العودة إلى الموضوع سببان آخران،
أولهما الادعاء بأن ذلك هو ثمن الديمقراطية التى ينبغى الامتثال لأمرها، وأن ما جرى فى سويسرا هو موقف المجتمع وليس موقف الحكومة، وذلك منطق يجب إعادة النظر فيه، لأنه يفتح الباب للإقدام على شرور كثيرة باسم الديمقراطية والامتثال لرأى الأغلبية، كما هو الحاصل فى إسرائيل مثلا.
ذلك أن الأغلبية هناك تؤيد قمع الفلسطينيين والاستيلاء على بيوتهم وهدمها، كما تؤيد حصار غزة وتجويع أهلها.
كما أن أغلبية الأمريكيين أيدوا فى البداية غزو العراق وتدميره، ثم اكتشفوا فى وقت متأخر أنهم خدعوا.
وهو ما ينبهنا إلى أمرين
أولهما أن وسائل الاتصال الحديثة أصبح بمقدورها أن تغسل أدمغة الناس وتفسد وجدانهم، بحيث تدفعهم إلى تأييد الجرائم التى ترتكب ضد الإنسانية.
أما الأمر الثانى فهو أن القيم الإنسانية الأساسية، خصوصا المتعلقة بالحريات العامة، ينبغى ألا تكون محلا للاجتهاد والمساومة، حتى لا تهدر باسم الخضوع لرأى الأغلبية المضللة.
السبب الثانى للعودة إلى الموضوع هو أننى لاحظت فى كتابات عدة أن هناك تحاملا على الجاليات الإسلامية الموجودة فى أوروبا، وتبريرا للموقف السويسرى من خلال التذكير بأحداث 11 سبتمبر.
فى ذات الوقت فثمة تجاهل لحقيقة العنصرية والاستعلاء الكامنين فى الثقافة الغربية إزاء شعوب العالم الثالث عامة والمسلمين بوجه أخص.
وهى الثقافة التى مازالت مرجعياتها متأثرة بأجواء الحروب الصليبية الناقمة على المسلمين والمعادية لهم. وهو ما يدعونى إلى القول بأن أحداث 11 سبتمبر لم تكن منشئة لشعور الغربيين بالمرارة والنقمة إزاء المسلمين، ولكنها كانت كاشفة لذلك الشعور وربما مضيفة جريمة زائدة إليه.
وأى متابع لصورة المسلمين فى الإعلام والأفلام السينمائية التى أنتجتها «الميديا» الغربية قبل ذلك التاريخ يدرك جيدا هذه الحقيقة،
إن نقدنا لذواتنا مفيد لا ريب، لكننا ينبغى أن نتخلى عن الشعور بالدونية ونتسلح بنفس الشجاعة لنقد عنصرية أغلب الغربيين واستعلائهم،
علما بأن المنسوب إلينا هو حادث، فى حين إن المنسوب إليهم هو سلوك وحالة. وشتان بين النقيصتين.