قصور المناهج التعليمية

قصور المناهج التعليمية

في أداء مهمتها التربوية

المناهج الفلسطينية نموذجا

أ. فراس حج محمد

[email protected]

تسعى سياسية التعليم المدرسي من خلال مناهجها ، إلى إيجاد شخصية معبرة عن المبدأ المستقر في الأمة ، ولذا فإن التعليم بشكل عام يطمح إلى بناء الشخصية المعبرة عن الإرث الحضاري والفكري لهذه لأمة ، وهذا بطبيعته يختلف من أمة إلى أمة ، فالتعليم في مدارس الأمة الإسلامية يطمح من خلال الأسس التي يقوم عليها والمناهج التي يتبناها ، وطريقة التدريس التي ينفذ بها ، والوسائل والأساليب المستخدمة فيها ، إلى بناء شخصية إسلامية ؛ بعقلية إسلامية ونفسية إسلامية ، فيتكامل هذا البناء على طول فترة التعليم المدرسي الممنهج.

ويهدف التعليم المدرسي كذلك إلى  رفد الطالب بمجموعة من المعارف والعلوم التي تلزمه في حياته الشخصية ، أو في حياة أمته ، لذا فإنه يُؤْخذ من هذه المعارف والعلوم ما يعبر عن شخصية الأمة، أو ما يـقوي بناءَها ، في وجه أعدائها حتى تمتلك أسباب القوة والمنعة، ويتغيا التعليم المدرسي كذلك ، أن يمد الطالب بمجموعة من الأسس المعرفية وأسس التفكير العقلي ، ومنها العلمي ، لتأهله لمرحلة الدراسة الجامعية.

ولتحقيق هذه الأهداف لا بد أن يعتمد التعليم في مدارس الأمة  الإسلامية على أسس ثابتة ، يقف على رأسها اتخاذ العقيدة الإسلامية منطلقا للتعليم والتدريس ، وأن يفرق بين العلم والثقافة ؛ حتى يتمكن المتعلم  من التعامل مع كليهما تعاملا صحيحا ، وأن تقوم عملية التدريس على طريقة التلقي الفكري ، حتى تتحول المعلومات التي يتلقونها إلى فكر، مع مراعاة الفروق الفردية للطلاب.

هذا ما يجب أن تكون عليه سياسية التعليم في مدارس الأمة الإسلامية ، وليس كما هو واقع الآن ؛ فالمناهج الحالية لا تقوم على أساس العقيدة الإسلامية ، بل إنها ترى في ميثاق الأمم المتحدة ، وما صدر عنه مرجعا أساسيا في رسم سياسية التعليم الحالية ، فهي ترى أنه لا بد من جعل حقوق الإنسان أساسا من أسس التعليم ، والديمقراطية والعلمانية ركيزتين ينطلق منهما واضع المناهج وراسم الخطط التربوية ، ولذا ليس غريبا أن ترى في مناهجنا التعليمية الدعوة إلى إحياء الحضارات الوثنية القديمة ، كلٌ حسب  منطقته أو قطره ، أو تجدها تنادي بوحدة الأديان ، أو مهاجمة بعض الأحكام الشرعية مباشرة وغير مباشرة ، من مثل : مهاجمة الزواج المبكر ، والدعوة إلى حقوق المرأة ، كما نصت عليه الاتفاقيات الدولية ، وتكريس الاختلاط ، والنظرة إلى المشكلة السكانية وعلاجها لها، مما سيؤثر سلبا على العقيدة الإسلامية ، فيشوش صفاءها  ، ويُفقدها نقاءها ، فينـعـدم  تأثيرها في النفوس.

يدرك الكافر المستعمر أن السيطرة على العقل هي الخطوة المثلى في السيطرة على الأمة الإسلامية ، ولذا تجده يتدخل في سياسة التعليم عن طريق منظمة اليونسكو التي تمول أو تشرف على كثير من المجالات التربوية من إعداد كوادر مؤهلة أو تصدير كتب تعتمد في المدارس أو القيام بورشات عمل ، ويربط المساعدات المالية لبعض البلدان أحياناً بتحسين ظروف التعليم فيها.

وإذا أردنا أن نتحدث بلغة التربية لقلنا : إن كل عملية تربوية لها مُدخلات ومُخرجات ، تتمثل مدخلاتها بمناهج موضوعة على عين بصيرة غربية ،بكل ما تحويه كلمة مناهج من معنى ، ومخرجات تتمثل في إخراج جيل غريب عن أمته وعن ثقافته ، تلك الثقافة التي لا يَعْلَمُ منها إلا جانبا مشوهاً معروضاً بطريقة خاطئة ، تصد الدارس عن هذه الثقافة ، بل يُصْدِرُ عليها أحكاما بالإلغاء والإهمال ، وقد تصل به الحال إلى أن يعادي هذه الثقافة ، فينشق عنها ، ويتبرأ منها. فخرج جراء ذلك جيل من العَلمانيين سلوكا وتفكيرا ؛فقد ترى أحدهم يصلي ويصوم ويقوم بفضائل الأعمال ، ولكنه يحمل أفكارا غير إسلامية في السياسة والاقتصاد والحكم ، وما شاكل ذلك ، تحكمه وجهة النظر الغربية عن الحياة ، وهم بذلك قد حققوا أهداف الغرب في إيجاد فريق من الأمة ، يدافع عن الحضارة الغربية وأفكارها دون الحاجة إلى الذهاب للغرب ، يقول أحد الكتاب الغربيين ، ويدعى(مورو بيرجر) في كتابه ( العالم العربي اليوم) :" لقد أصبح العرب متغربين دون أن يتكلفوا عبء الذهاب إلى أوروبا".

إن الحديث في موضوع التعليم ، في ظل أنظمة جاهلية ، وقوانين وضعية ، لا بد أنه طويل ، ولا يكاد ينحصر، والخراب الذي نجم عنه لا شك أنه هائل ، والجهود التي بذلت كانت مضنية ، والأموال التي صرفت طائلة ، فقد اعتمد نظام التعليم على الفلسفات والنظريات الوافدة في اللغة والنقد وعلم النفس والنظريات العلمية ، وتراجع الاهتمام بالعلوم التطبيقية التي تدعم قوة الأمة العسكرية ، ومن الشواهد على الخراب الذي حل بنظام التعليم في المدارس مثلا ، محاصرة الثقافة الإسلامية والتعليم الديني حصارا ماديا و معنويا ، والتقليل من شأن هذا العلم في الواقع المعيش ، باعتبار قاعدة فصل الدين عن الحياة ، وكان من ثمار ذلك انعدام أثر الثقافة الإسلامية في سلوك الفرد ؛ لأن المادة التعليمية قد وضعت بطريقة علمانية ، غير مؤثرة في سلوك المتعلم، يقرأها الطالب من أجل تأدية الامتحان فقط .

 وليزيلوا الحواجز النفسية بين الإسلام وغيره ، غيروا الوصف من تربية إسلامية  إلى تربية دينية ، واختاروا من نصوص القرآن والحـديث الشريف ما لا يحرض عـلى الـقتال أو وصف الآخر بالكـافر، حرصا على عدم إيذائه في مشاعره!!

ومن ناحية أخرى ، يعاني خريجو المعاهد الشرعية وكليات الشريعة من بطالة مقصودة حتى ينفر المتعلمون من هذا التخصص ، ويفروا نحو تخصصات أخرى ، ولتكن الموسيقى أو الفنون أو التربية أو ما يعرف بعلم النفس .

وقد أصبحت حرب المناهج جزءا من الحرب على الإرهاب حيث تطالب الدوائر الأمنية والسياسية الغربية بتغيير المناهج وإصلاح سبل التعليم ، وهذا لا يعني أن المناهج المطالب بتغييرها جيدة ، أو أنها تلبي رغبة المسلمين في بناء شخصية إسلامية ، بل يعني أن المناهج الجديد متميزة في عدائها الصريح للإسلام وأفكاره.

وبعد ، أين المناهج الفلسطينية من كل هذا؟

إن المطلع على المناهج الفلسطينية الحديثة في ظل الأوضاع الحالية ، يرى أنها كانت كما يقول المثل القديم" ضغثا على إبالة " ، وتختلف المناهج في فلسطين تحت إمرة السلطة الفلسطينية عن غيرها من مناهج البلاد الإسلامية بعدة أمور:

أولا: تفقد المناهج الفلسطينية التمويل الذاتي وتعتمد في طباعتها وإعداد مادتها على الدول المانحة بشكل مباشر ، وهناك هيئات دولية تشرف عليها ؛ للتماشى وخطة السلام بين السلطة وإسرائيل ، بحيث لا تتضمن المناهج أي شيء يخالف ما وُقِّــع من اتفاقيات ، وهي بهذا لا تستند إلى قرار ذاتي، مما يجعلها أداة في الحرب ضدنا وتنفذ بأيدينا.

ثانيا: يظهر في هذه المناهج النية المبيتة للغرب في حرف الطلاب عن جادة الصواب ، فهي تعادي الإسلام صراحة وبشكل سافر ، وأصبحت الأفكار المستوردة هي الأساس الذي يقاس عليها الإسلام ؛ فما وافقها من الإسلام أخذ ، وما خالفها من نصوص الإسلام يترك ويهمل ، أو في أحسن الحالات يؤول بلي أعناق النصوص ، والشواهد على ذلك كثيرة ، لا يعوزك كثير جهد حتى تجد في ثنايا صفحات الكتب المدرسية ما يتعرض للإسلام ، أو يخالف نصوصه الصحيحة والقطعية ، لا سيما المواد الاجتماعية : التربية الوطنية والتربية المدنية والتاريخ.

ثالثا: فشلت المناهج الفلسطينية ــــ وإن كانت في طور التجريب ـــ في مجملها في أن تكسب ثقة المعلم أو الطالب ، فهي مقررات تمتاز بطولها المرهق ، وتحتاج لكثير وقت حتى يستطيع الطالب الإلمام بمجملها ، وتتراص فيها المعلومات التفصيلية إلى حد الملل ، وهذا ما ألاحظه مثلا في تدريس مادة اللغة العربية، وهذا يعكس قلة خبرة واضع المنهاج ، فمناهجنا هي ذات مهمة تثقيفية أكثر منها تعليمية.

رابعا: عدم مراعاة المقررات في المنهاج الفلسطيني الجديد المرحلة العمرية والقدرات  الذهنية للطلبة غالباً، فنجد الطالب يشكو من صعوبة المادة ، وولي الأمر لا يستطيع مساعدة ابنه في تحضير دروس ولده ، والوقت غير كاف في المدرسة لإعطاء المادة حقها من الشرح والتوضيح ،فيلجأ المعلم إما إلى الاختصار ، أو إلى الاستعجال في قطع المقرر باعتماد طريقة التلقين دون الأخذ بعين الاعتبار فهم الطلاب للمادة ، مما ولد فجوة نفسية ما بين الطالب والمنهاج ، وهذا ما جعل المنهاج ضعيفا تربويا ، وعاجزا عن التماهي مع الطالب وطموحه في أن يتعلم شيئا يفيده ، وبالتالي ولد إحساسا لدى الطلبة بالبلادة ، متجاهلين تلك المناهج ، يُظْهرون عدم رضاهم عنها – ربما-  في ازدياد حالات العنف في المدارس ؛ لتفريغ هذا الاحتقان النفسي جراء مناهج مرهقة.

إن المناهج في فلسطين المحتلة قد أحدثت فجوة كبيرة في نهاية المطاف بين الطالب والعلم ، وكأن المقصود ليس تعليم الطالب و الارتقاء بعقليته ، وإنما المقصود توليد الإحساس بعدم جدوى العلم والتعليم ، ولعلهم نجحوا في ذلك ، حيث يلاحظ تدني مستوى الطلاب في التحصيل العلمي في شتى المواد التي يدرسونها ، وقد خلف المنهاج فئتين من الطلاب : فئة متفوقة وعددها قليل لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة في الصف الواحد ، وفئة لا تتعاطى مع المنهاج ، وهي أغلبية الطلاب ، وهذه هي الصورة العامة للطلاب في مدارسنا في فلسطين، وقد خلت هذه المدارس من الطالب المبدع في الأعم الأغلب.

إن الوضع الذي تعكسه مناهجنا ينذر بخطر كبير ، وبتدمير جيل ، فَقَدَ أهم متطلباته في الحصول على قدر معقول من الثقافة والعلم ؛ ليواجه الحياة خالي الوفاض ، يساق إلى حيث يراد له ، دون تفكير أو إرادة.