لماذا المئذنة بالخصوص
امحمد رحماني
المساجد بيوت الله في الأرض ، والمسجد في صورته البسيطة ما هو إلا مساحة من الأرض صغيرة أو كبيرة تنظف وتسوى وتطهر ثم يتم تعيين اتجاه القبلة وتخصص للصلاة وقد تسوّر هذه المساحة أو لا تسور ، وقد تفرش بالحصى أو الحصر النظيفة أو الأفرشة الغالية ، وقد تقام فوقها مبان ضخمة ذات جذران وسقوف وقباب ومآذن ، وقد لا يقام من ذلك شيء فلا يغير ذلك من الأمر شيئا ويظل المسجد البسيط العادي مكانا مقدسا واضح الشخصية ل ا يقل في هيبته أو مكانته عن أضخم المساجد .
إذن فالمسجد كمبنى له خصوصية دينية ووظيفة تعبدية أدت إلى توحد برنامجه وعناصره المعمارية ، بمعنى أنه يمكن أن يختلف من بلد إلى آخر ، فسواء كان المسجد في الرباط أو في الصين سواء كان لونه أصفر أم أبيض سواء كان بمئذنة أو بلا مئذنة فله نفس المهمة ونفس الهدف .
لكن فعل سويسرا هذا يجب أن يحلل ويبين لأن بتحليله تحلل معه الشخصية الأوروبية .
فلماذا المئذنة بالخصوص ؟
الآذان لغة هو الإعلام ويستعمل كحقيقة عرفية في النداء للصلاة أو الإعلام للحج ، والمآذن والمنارات اسمان للمكان الذي يتم منه الإعلام بدخول وقت الصلاة وقد استعمل الاسمان في المشرق الإسلامي ، وقد أطلق لفظ المنارة على المآذن حيث كانت تضاء بالأنوار عند الغروب في رمضان وتظل مضاءة حتى طلوع الفجر ، ثم تطفأ إيذانا ببدء يوم جديد من أيام الصيام .
ويجمع مؤرخوا المسلمين على أن المساجد التي بنيت في الجزيرة العربية وسواها من الأمصار التي دخلت في دين الله كانت بلا مآذن وأن أول من بنى مئذنة في الإسلام هو معاوية بن أبي سفيان وذلك في المسجد الجامع الأموي الكبير بدمشق الشام .
ويطلق على المآذن في بلاد الغرب الإسلامي ( المغرب العربي والأندلس ) لفظ الصوامع ، ويرجع ذلك إلى أن أغلب مآذن المغرب الإسلامي ذات تشكل مربع وهو يشبه أبراج الصوامع ، أما أقدم مئذنة في العالم الإسلامي ، فقد أقامها عقبة بن نافع ما بين 50 و 55 هجرية بمسجد القيروان .
وقد كانت المآذن التي ظهرت في العصور المبكرة للإسلام ( العصر الأموي ) مربعة الشكل على نمط أبراج الكنائس السورية ، أما في العراق وبلاد فارس فقد أخذت المآذن شكلا أسطوانيا وأحيانا ملويا يدور السلم من خارج بدنها كما في مسجدي سامراء وأبي دلف بالعراق ، وقد اقتبس أحمد بن طولون نفس فكرة ملوية مسجد سامراء حين بنى مئذنة مسجده المعروف بالقاهرة التي تعد من أقدم مآذن القاهرة ن حيث احتفاظها بشكلها الأول .
صومعة مسجد سامراء صومعة مسجد أبو دلف
وتطور شكل المآذن بمصر خاصة في العصر المملوكي حيث أصبحت تبدأ بقاعدة مربعة يعلوها قسم مثمن ثم قسم دائري منهية برأس أو رأسين يعلوهما مبخرة أو جوسق .
ولا يوجد مكان محدد لموقع المئذنة من المسجد فقد تكون جزءا من المبنى نفسه كما هي الحال في دمشق والقيروان وقرطبة وقد تكون قائمة بذاتها على مقربة من المسجد كما هي الحال في جامع سامراء وابن طولون .
مسجد الحسن الثاني
بعد هذه المقدمة ، يمكن أن نبين لماذا ثم استهداف المئذنة بالخصوص ، فمن ذلك :
- المئذنة مظهر إسلامي صرف : وهذا في حد ذاته يشكل عقدة عند الإنسان الكافر ، فهو يمثل شموخ الإسلام وانتشاره وارتباط أرضه بسمائه ، وتشكل مظهر يستهوي قلوب الناظرين إليه ، فمنظر المسجد بشموخ مئذنته يبعث في نفس الإنسان بشكل عام ارتياحا يحس به في جوهره وتميل وتحن إليه نفسه كالطفل يحن إلى أمه ، ترى الإنسان إذا مر بروضة من رياض الطبيعة يستهويه جمالها وموقعها فما بالك بالمسجد الذي قال فيه رسول الله رياض الجنة .
- المئذنة تؤثر في البيئة العمرانية : فالمئذنة تدل على موقع المسجد ضمن المساحة العمرانية المتواجد فيها ، والذي يتجه إلى القبلة بطبيعة الحال ن والتوجه إلى القبلة احد أهم الأسس التصميمية للمساجد يقول تعالى ) وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَولُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( فعلى ذلك يمكن أن نتخيل أن كل مسجد في شتى أنحاء المعمورة يحتل نقطة على محيط دائرة مركزها الكعبة ، وبذلك يكون الامتداد العمراني حول المسجد موازيا لجدرانه الخارجية ( المتأثرة باتجاه القبلة ) كما نجد ذلك في تخطيط العديد من المدن الأوروبية ، حيث تحيط الشوارع بالمسجد وتفصل بينه البنايات الأخرى ، وبطبيعة الحال ففي التصميم لا يبنى مسجد ملاصق لمسجد آخر وإنما بينهما مسافة معقولة بحيث أن المسجد يقع في مكان لا يستطيع أن يذهب إليه أصحاب المسجد الآخر ، وبذلك يصبح المسجد كالزينة التي تضعها المرأة فتضع الحلية في ثقب أذنيها ثم العقد في عنقها ثم الإسوار في يديها ثم الطوق في وسطها ثم الخلخال في قدمها ، بحيث لا تخلوا منطقة إلا وهي مزينة ، فنقول هذه المرأة كلها زينة ، أو هذه المرأة أحاطت نفسها بالزينة ، ونفس الأمر بالنسبة للمسجد مع المحيط العمراني ، كأن المدينة زينت بالمساجد وأحاطت نفسها بها ، وهذا لم يدركه الإنسان الغربي إلا مؤخرا حينما دقق في رسومات أحد الرسامين الفرنسيين فوجد أن جميع صوره لا تخلوا صورة منها من مسجد ، والأدهى من ذلك أنه يشكل صبغة جمالية لا توجد في الصور التي لا يوجد فيها مسجد وخصوصا المساجد ذات المئذنة العالية فإنها تعطي للصورة منظر فريد كما قال الرسام الفرنسي بعظمة لسانه .
مسجد لندن المركزي
مسجد طيبة بأمستردام
مسجد السلام بروتيردام
فالإنسان الأوروبي لم يدرك هذا إلا حينما دقق في نسيجه العمراني مؤخرا فوجد المساجد تحيط ه من كل الجوانب الأربعة ، وأن المسجد ببنائه البسيط أثر في البنايات من حوله ، وتعتبر التأثيرات البصرية المتبادلة بين المسجد وبيئته العمرانية أحد أهم محاور العلاقة بينهما ويمكن إدراك هذه العلاقة من خلال مستويين أساسين :
المستوى الأول :في مقابل الأشكال غير المنتظمة لفراغات الشوارع والأحياء السكنية تتباين أشكال صحون المساجد الواسعة المنتظمة في علاقة جمالية باهرة رائعةة].(1)
المستوى الثاني : ويظهر من خلال التشكيل البصري للمسجد داخل البيئة العمرانية وهذا يستلزم أن نوضح بإيجاز أشكال التأثير البصري للكتل العمرانية :
1 – الهيمنة البصرية : وهي تعني استيلاء مبنى معماري أو فراغ عمراني بصري على محيطه الفراغي والعمراني والمدينة كلها .
2 – السيطرة البصرية : وهي درجة أقل من الهيمنة البصرية حيث لا يتعدى التأثير البصري للمبنى أو للفراغ العمراني فقط وإنما على النطاق العمراني المباشر .
3 – التميز البصري : ويقصد به حصول مبنى أو فراغ على صفات بصرية ذات رسائل محددة تفيد في التعرف عليه بصريا وتميزه عما يجاوره من فراغات أو عناصر .
4 – الاندماج البصري : وهو تأثير بصري يؤدي إلى فقد الجنس أو الفراغ لشخصيته الخاصة والفردية وذوبانه تماما في الوسط العمراني والفراغي المحيط به مكونا في النهاية مع المجموعة المحيطة والمجاورة له علاقة تشكيلية واحدة غير قابلة للانفصال أو التفتيت . وبذلك فالمسجد لا ينعزل عن بيئته العمرانية ويساهم بشكل كبير في الربط بين جميع أشكال الحضارة العمرانية ، ولا يكون موضع نشاز في العمران والبناء الحضاري بأي صفة بني عليها بشرط أن تكون له صومعة .(2)
ففتكون المئذنة بذلك تلعب دورا هاما في الدلالة على البيئة العمرانية المنسجمة سواء بصريا أو عمرانيا أو تخطيطيا ، ومن ذلك الدلالة على أن هذا الدين هو دين انسجام تام يجمع ما بين المادي والمعنوي يجمع ما بين البناء والنفس ما بين الفكر والدراسة ، فهي بذلك تشكل هاجسا مروعا لكل من يحمل صفات تعادي صفات الإسلام المنسجمة والمتسامحة ، ببساطة ما نريد قوله أنه يمكن للمئذنة لوحدها أن تكون سببا لدخول الآلاف للإسلام ، يكفيهم في ذلك أن يسألوا : لماذا الصومعة بهذا الشكل أو لماذا يحتوي المسجد على صومعة؟.
1 – موسوعة عناصر العمارة الإسلامية الكتاب الثاني مكتبة مدبولي القاهرة ص: 11.
2 – العمارة الإسلامية والبيئة تأليف يحيى وزيري.