منتحرون تحت لواء الاستشهاد
منتحرون تحت لواء الاستشهاد...
آخرهم جماعة "فتح الإسلام"
ابتهال
قدور
[email protected]
كاتبة سوريه مقيمة في الكويت
رأى الدكتور يوسف القرضاوي أنها من أعظم الجهاد في سبيل الله !
وأباحها الشيخ سلمان العوده وشجع عليها ! كما أباحها العديد من العلماء الثقات الذين يعبرون بواقعية عن آلام وآمال الأمة ..
فيما حرمها آخرون تحريماً قاطعاً، وجردوا من يقوم بها من صفة الاستشهاد في سبيل الله ! ولعل أكثر من تبنى هذا الموقف هم ممن ينتمون الى التيار السلفي ..
وأمام هذا التباين في الرؤى حول العمليات الاستشهادية، والذي يبلغ مئة وثمانون درجة،علينا أن نختار النقطة التي تلائمنا لنقف عندها ونتبناها، كل حسب ثقافته، وقناعاته، وملكاته، وماتركن اليه نفسه! (يالصعوبة الاختيار!)
وإنه لمن الصعب على أي مسلم غيورعاقل، أن يتجاهل قوة الحجة والبرهان لدى التيار الأول، كما أنه من السهل على أي شخص، تلمس ضعف القياس لدى التيار الثاني، إذا ما كانت القضية تتعلق بما يحدث من "عمليات استشهادية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حصراً.
هناك حيث يواجه المجاهدون، محتلاً صهيونياً مجرداً من كل المعاني الأخلاقية، والانسانية، جاء ليغتصب الديار، ويشرد الأهالي، ويقهر، ويقمع، لايوقفه أو يمنعه شيء، هناك حيث استنفذت مختلف الأساليب الداعية الى حد أدنى من العدالة، وحيث لم يعد للاتفاقات والمعاهدات والمهادنات مكان، وحيث لايملك المقهور حق امتلاك وسيلة يدافع بها عن أرضه، وعرضه، وماله، وولده، لأنه طرف في معادلة نذلة لا تخضع لمقاييس "الحروب الشريفة" إن صح التعبير.. في ظروف كتلك، لايمكننا إلا أن نتوقع ولادة أشكال جديدة للاستشهاد!
أشكال يفرضها ضعف متهالك للأمة، في مواجهة قوة جامحة وخارقة لدى أعدائها..ويفرضها ضعف وعجز وقلة حيلة، في مواجهة هيمنة وسيطرة بلا حدود.
فالمقاومة بجميع أشكالها، في تلك البقعة من الأرض تمنحنا بصيص أمل في معمعة الضعف تلك، لأنها تعبيرعن رفض الاستضعاف المطلق، رفض يعبر عنه حتى الطفل الصغير، الذي يؤكد لنا بأن هذه الأمة وإن كانت قد فقدت مقومات القوة، إلا أنها لم تفقد مقومات الكرامة، ولم تتنازل عن حقها في البقاء والاستمرار، ولم تغض الطرف عن إعادة خلق ذاتها من بين الحطام، وهذه أمور تميزها عن كثير من الأمم ذابت تحت وطأة القتل والدمار، ولعل الفضل في ذلك يعود الى دين الاسلام، الذي غرس فينا قدسية الحياة، وقدسية الانسان، وحقه في العيش بكرامة ...!
الانتحار في العراق حمى انتقام
ومع"فتح الاسلام" استراتيجية هروب!
ذاك وضع خاص بفلسطين المحتلة، ولكن - وخطوط حمراء كثيرة تحت لكن- الوضع لاينطبق على مايحدث في العراق، حيث يتسابق الشباب الى تفجير أنفسهم تحت رايات ضاعت توجهاتها، تدعي جميعاً أحقيتها في التفجير، وفي إحداث دمار أعمى لا يميز بين طفل وامرأة وشيخ وعاجز !
جماعات تدفعها النعرات المذهبية، وتسيرها شهوة القتل وكأنها تنتقم لماض ساده الكبت والاستبداد!
مئات من الأرواح المسلمة التي لا رغبة لها في قتال، بل ولا قدرة لها عليه، تزهق بلا هدف ولا غاية! في العراق من يقتل من؟ من ينتحر في سبيل من ؟ أسئلة صعبة لا أحد يعلم جوابها!
هذا مما لايمكن أن يطلق عليه استشهاد، إنها فوضى الانتحار والقتل، وعلى الرغم من كل المبررات، فإن المشهد العراقي، على العكس مما يحدث في أكناف بيت المقدس يعكس، وضع أمة يائسة تنحدر بقيمة الانسان، وأهمية الحياة الى مستويات متدنية جداً، ويقدم صورة لتخلفنا، وتفككنا، ولانفراط عقدنا بشكل بشع ومقيت، ويرينا عملياً كيف يسترخص المسلم دم أخيه المسلم، فيزيد بذلك من تجرؤ العدوعلينا، وإمعانه في إذلالنا وقهرنا.
فقتل النفس في العراق قد خرج عن منطقية الجهاد، كما خرج عن صورته المرخص بها، والتي تشكل وسيلة لتحقيق هدف سام هو مقاومة المحتل، لكي تصبح وسيلة لتحقيق أمور أخرى، لاتمت الى المقاومة بصلة، يبدو أن أبرزها هو فرض معادلة متساوية في مسلسل الرعب، الذي يتبادل بطولته أبناء البلد الواحد !
وعندما نتحدث عن خروج قتل النفس عن إطارها المباح في العراق، يباغتنا المشهد اللبناني الذي تدور أحداثه حالياً، حيث اختار بعض أعضاء جماعة "فتح الاسلام" تفجير أنفسهم لكي لايتمكن رجال الأمن من القاء القبض عليهم!
فأين هي قضية التنكيل بالعدو الغاصب، أو رد عدوانه هنا؟!
وبأي قانون تتحول النفس على -أهميتها- الى أداة رخيصة تسيرها منهجية قتالية ذات أبعاد فضفاضة بالقدر الذي يخدم أغراض، وأهداف، قادة لجماعات بلا هوية !
إن هذه الأشكال والصور من بطولات الانتحار، لايمكن أن تكون إلا صوراً مشوهة لقرابين يقدمها قادة بعض الجماعات.. ربما تعبيراً منهم عن خلافات ايديولوجية مع التيارات السائدة.. وربما لاختلافات في نظرتهم الى المشاكل التي تعاني منها الأمة، والطرق الأكثر فاعلية لحلها! ويعتقدون أن مجرد اقتناعهم بوجود وسائل أخرى للحل، يمنحهم الحق في إحالة أرض الواقع بأبريائه، الى حقل لتجربة ما يرونه أكثر جدوى..!
ولكن في أحيان كثيرة تظل هذه العمليات لغزاً نتسابق في تخمين أسبابه ودوافعه ولكنه يظل في المستوى الذي لاتبلغه أفهامنا!!
"فتح الاسلام" إذاً تقدم لنا اليوم، دوافع آخرى لتفجير النفس، وهي على مايبدو، حماية أسرار الجماعة، أو الهروب من التحقيق وأساليبه، أو التهرب من المحاكمة ثم العقوبة، أو لعله إشاعة الرعب في نفوس العامة ورجال الأمن!!
فهذه الجماعة الجديدة تتحول بقتل النفس الى أسلوب هروب من المواجهة، بعد أن عرفناه استراتيجية هجوم على العدو!
ثقافة جهادية جديدة!
في آخر استفتاء أجري في أمريكا، يستطلع آراء المسلمين الأمريكان فيما يتعلق بهذه العمليات، جاءت النتائج محيرة بعض الشيء، ولكن أكثر مايلفت النظر في تلك النتائج هو أن فئة الشباب الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً، أيدوا العمليات كنمط جهادي مشروع..مما يعني أن المستقبل الذي سيكون بأيدي هذه الفئة الشبابية، سيحمل نظرة جديدة لمعاني الجهاد وممارساته، وهذا أمر يستدعي السؤال التالي: هل نحن أمام ثقافة جهادية جديدة ؟؟!!
ثقافة جهادية هي وليدة مزيج بين متضادات الواقع والطموح، التي تعيشها هذه الأمة من ...اليأس والأمل، العجز والقوة ، الذل والعزة، القهر والكرامة..
أم أننا أمام أزمة علم وأخلاق لدى من يفتي؟ أم هي أزمة وعي لدى من يستفتي؟
أيا كانت هذه الأزمة، فهي تعلن عن الحاجة الماسة الى أمور عديدة، لعل أهمها هو وجود مرجعية موحدة، موثوق بها من قبل الجميع، تصدر الفتوى بأسلوب أكثر التزاماً، وأكثر التفاتا الى الحالة الراهنة، ولايبدو أن هذا أمر بسيط الحدوث مع كل هذه الانقسامات والاختلافات التي تشهدها الأمة...
فضحايا العمليات الانتحارية، هم إما من ضحايا الفتوى الخاطئة، والقاصرة واللامسؤولة، أو أنهم من ضحايا الجهل، والسطحية، التي تؤدي بهم الى سوء فهم الفتوى، أوعدم الدقة في الأخذ بكل حيثياتها، والاكتفاء بالتركيز على الحكم بعد تجريده مما يقيده! وكلا الأمرين مما يوقع في المحظورات ويجر على الأمة الكثير من الويلات.
ففتوى الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله بجواز هذه العمليات، جاءت مقيدة بعدة شروط، وكذلك كان الأمر في فتوى الشيخ سلمان العودة، إلا أن مايحدث حاليا أن أبطال الانتحار لا ينظرون الى الشروط والحيثيات الواردة في الفتوى بقدر ماينظرون الى الحكم، الأمر الذي نتج عنه إباحتهم قتل أنفسهم تحت أي ظرف يرونه مناسباً.
وهنا أيضاً نقطة مهمة علينا الوقوف عندها، والبحث فيها، وهي مايثيره هذا التساؤل: هل ماندفع ثمنه في العراق منذ مدة، وفي لبنان اليوم، هو نتاج فتاوى لم تراعي الحالة النفسية والفكرية المتحفزة قهراً لدى شباب هذا الجيل؟ وهل يفرض الواقع الثقافي والمستوى النفسي لأبناء الأمة على العالِم المفتي أن يبرمج فتواه أو يقولبها بالشكل الذي لايزيد المندفع اندفاعا والمتحفز تحفزاً ؟
إذا كانت الأجوبة بالإيجاب، دل هذا على وجوب البحث الجاد عن وسائل جديدة لخلق واقع مختلف، تشترك في صناعته الجهات المصدرة للفتوى، لكي تساهم في عمليات التغيير الثقافي لدى الأجيال، ويكون لها دور يتناسق مع السياق العام لتوجهات الأمة.
"إنكم قوم تستعجلون" !
نحن بحاجة الى تغيير ثقافي يركز على داء خطير، يحد من التطورات الحضارية المدروسة والمتعقلة، ذاك داء "الاستعجال" ..
الداء الذي يجعلنا نستعجل النهايات، بدون أن نكون قد اهتممنا بالبدايات، نستعجل الاستمتاع بمنظر البناء مكتملا، بدون أن نكون قد وضعنا الأساسات، وقد لفت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم النظر الى هذه القضية، حين طلب منه خباب بن الأرت أن يستنصر لهم بعد أن طال عليهم أمد العذاب، فأجابه صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤتى بالرجل فيمن كان قبلكم فيحفر له حفرة فيوضع فيها ...الى أن قال صلوات الله عليه ، ولكنكم قوم تستعجلون !
فلا يمكن أن تقوم أمة بالأماني والأحلام والدعوات الخالية من اتخاذ الأسباب، إنما هناك أسس لابد من إقامتها، وهناك قوانين كونية لاغنى عن الإحاطة بها، والاستفادة منها في المسيرة الحضارية.
والتحولات الحضارية لا تحدث، بدون أن تكون الأمة قد سارت على الطريق الصحيح بخطوات مدروسة ومتعقلة، وبدون أن تكون قد أخذت وقتها الزمني المناسب.
ويتناقض "الاستعجال" مع "النهج العلمي" في حركة التغيير الحضاري، هذا التغيير الذي يفترض به أن يعمم مفهوم القوة، وينشرها كثقافة تشمل مختلف الأصعدة من علمية وأخلاقية وسلوكية وعسكرية...الخ، وهذا ما لايكون بين عشية وضحاها.
في عالم تسوده ثقافة "الاستعجال"، يعتقد الفرد أن بامكانه اختصار المسافات الموصلة الى الجنة بضغطة واحدة، تنقله من عالم المتاعب الدنوي، الى عالم الحور والجنان!
في عالم "الاستعجال" هذا تختزل معظم أنواع الجهاد، وعلى وجه الخصوص تلك الأنواع التي تتطلب نفساً طويلاً كالبحث العلمي، والاكتشافات، والاختراعات، وكشف القوانين التي تحكم الأفراد والجماعات، والتأملات الهادفة الى توسيع الأفق المعرفية، جميعها تختزل الى تفجير سريع للنفس!
وفي عالم "الاستعجال" يتخلى الفرد عن حقه في عمر مديد، يمارس فيه مهام الخلافة الإلهية والإعمار، ليثبت كفاءته ونجاحه بعمل مشرف، سيعرض أمام الله ورسوله والمؤمنين، يتخلى عن هذا الحق وهذا الواجب، فيقفز على نعم الزمان والمكان ويتمرد على نعمة العلم، التي هيأه الله لها حين علمه الأسماء كلها، وحاجج به الملائكة، يفعل هذا معتقداً أنه يحسن صنعاً ويزداد اقتراباً من الله ويتجنب حسابه!
ولنا أن نتخيل مالذي سيحدث لأمة انتشر فيها هذا المفهوم وتحول الى ثقافة!
إن مايبعث على الخوف من انتشارعمليات قتل النفس، وتحولها الى ثقافة جهادية، هو كونها تعتبر مظهراً من مظاهر الاستعجال في هذه الأمة... ومايبعث على الحزن هو كونها تعكس واقع أمة لم تضع يدها على العلاج السليم بعد، ولم تتلمس طريق الخروج الآمن!
ذاك هو "الاستعجال" الذي يمنعنا من الاعتراف بأن هذا الهوان الذي تتخبط فيه الأمة ماهو إلا النتيجة الحتمية لتفريطها في أبرز مقومات النهوض الحضاري، وأن هذا هو الثمن العادل الذي تدفعه أمة نامت عقوداً من الزمان، بينما كان غيرها من الأمم يكد ويعمل، علينا أن نتقبل نتائج تفريطنا في أمرنا، وأن نبدأ عمليات جادة للنهوض.
وفي انتظار حدوث هذا التغيير المؤدي الى نهوض، أجد أنه من المفيد الدعوة الى إعادة النظر في كل المعاني المؤدية الى الموت، وكذلك إعادة تصنيفها من الناحية الشرعية، ومن الناحية الأخلاقية، ومن الناحية العقلانية، بهدف خلق واقع ثقافي جديد، لايتساوى فيه الموت والقتل والاستشهاد والانتحار.